أنا الرأسمالية الطيبة... لا تكرهوني!
نيكول آشوف نيكول آشوف

أنا الرأسمالية الطيبة... لا تكرهوني!

جامعة هارفارد قلقة من أنّ الناس بشكل متزايد لم يعودوا يحبون الرأسمالية. لكنّ جامعات النخبة والمليارديرية هم جزء من المشكلة وليس من الحل.

بقلم: نيكول آشوف – تعريب: عروة درويش

جامعة هارفارد قلقة بشأن الرأسمالية، ولكن ليس ذلك لأنّها تعاني مالياً، فهارفارد تحصل على 10% من عائداتها على شكل هبات كلّ عام. بل هارفارد قلقة من كون الناس، وبشكل متزايد، لا يحبون الرأسمالية.

منذ مدّة قصيرة، أجرى عميد كلية الأعمال في هارفارد، نيتين نوريا، لقاء مع صحيفة هارفارد الرسمية «هارفارد القرمزيّة»، شارك فيه قلقه على الرأسمالية قائلاً: «إنّ تآكل الإيمان بالرأسمالية، وعدم الثقة التابع له بالإطار الاقتصادي للولايات المتحدة» يشكّل سبباً رئيسياً للقلق لدى كلية هارفارد للأعمال.

لم يعد عدم الرضا واسع النطاق عن الرأسمالية سراً. يشير مؤشر غالوب واسع الشهرة إلى أنّ أقلّ من نصف السكان الذين يتراوح سنهم بين 18 و29 كان لديهم نظرة إيجابية تجاه الرأسمالية في عام 2018. وفي دراسة عن «مؤسسة الأبحاث والتنمية RAND» بعنوان: «اضحملال الحقيقة» جاء: «ينتشر عدم اليقين والقلق على نطاق واسع على طول الولايات المتحدة». وممّا يؤكد الشعور المتزايد بمناهضة الرأسمالية حقيقة أنّ بيرني ساندرز، الاشتراكي-الديمقراطي، هو اليوم المرشح الأوفر حظاً عن الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة عام 2020.

لا يتطلب الأمر الكثير من الجهد العقلي لتبيّن سبب تنامي عدم الرضا عن الرأسمالية. إنّ تقرير «منظمة التعاون والتنمية» الصادر في آذار 2019 عن تقلّص الطبقة الوسطى العالمية قد لمس الغضب واسع النطاق من النظام حيث: «تكاليف حياة الطبقة الوسطى ترتفع بشكل أسرع من دخل هذه الطبقة» وحيث «ترى الأجيال الجديدة بأنّ فرص انتمائها إلى الطبقة الوسطى تتهاوى».

تقلق مثل هذه النتائج النخب العالمية. إنّهم يبذلون أقصى ما بوسعهم لحمل الناس على محبّة الرأسمالية من جديد. ويبدو أنّ كلية هارفارد للأعمال من المسؤولين عن هذا الأمر. يقول العميد نوريا: «نحن ككلية مرتبطة بالأعمال، مرتبطون بشكل وثيق بالرأسمالية». على كلية الأعمال في هارفارد أن تسأل نفسها: «ما الذي يمكننا أن نفعله لنتأكد من أنّ ثقة المجتمع بالرأسمالية ستبقى قويّة ويمكن إعادة بناءها؟».

ومن المقاربات الشهيرة للكلية، استخدام الرأسمالية لتصلح نفسها بنفسها. من أكثر مناهج كلية الأعمال ذات الشعبية، هو المنهج في السنة الثانية بعنوان: «إعادة تخيّل الرأسمالية: الأعمال والمشاكل الكبرى». يشرح المنهاج كيف أنّ المشاكل الكبرى في المجتمع – اللا مساواة في الدخل وتردي مستوى النظام التعليمي والانقسام في الرعاية الصحية والصراع السياسي – يمكن معالجتها بشكل فاعل من قبل الشركات الخاصة ذات الأداء العالي».

ولا يقتصر الأمر على إرباك طلاب جامعة هارفارد في كيفية حلّ المشاكل. النخب في كل مكان ينفقون النقود بسخاء على المشاكل عبر منح المؤسسات والهبات الخيرية. حتّى الآن، قرابة 190 عضو من الأثرياء جداً قد وقعوا على تعهد هبات بيل غيتس وورن بوفيه – وهو الوعد الذي قطعه الأثرياء جداً بمنح غالبية ثرواتهم إلى القضايا الخيرية.

منذ إنشاء مؤسسة غيتس قبل عقدين، وصلت إلى المرتبة الذهبية في الهبات الخيرية، ليبقى بيل وميليندا غيتس متربعين على قمّة ترتيب «الأثرياء الذين يريد بقيّة الأثرياء أن يكونوا مثلهم».

لكن ليس من السهل دوماً البقاء في القمّة. فقد صرحت ميليندا غيتس في لقاء للاحتفال بإطلاق كتابها الجديد بأنّها تشعر غالباً «بالغضب» من الظلم الذي تشهده أثناء عملها كمحسنة عالمية. وكي تتأقلم قالت بأنّها «تستقلب» هذا الغضب لإذكاء نار جهودها الخيرية. وتجد غيتس العزاء في الأعداد المتزايدة من المليارديرية الذين «يريدون نتائج أفضل للناس من ذوي الدخل المنخفض... الذين يريدون أن يروا الحال يتحسن».

أن تريد منح ثروتك بدلاً من إخفائها في الجنان الضريبية هو أمر يستحق الثناء، أليس كذلك؟ لكننا سنكون ثرثارين إذا ما غفلنا عن كون المليارديرية لا يمنحون هذا القدر من المال. فكما ورد في صحيفة الفايننشال تايمز نفسها: «إنّ عائدات الاستثمارات تتورم بثروات الأثرياء جداً بسرعة أكبر ممّا يمكنهم منحه، أكبر بكثير». فقد كسب الأثرياء على الأقل 8% عائدات سنوية على استثماراتهم خلال العشرين عاماً الماضية، بينما لم يمنحوا بمجموعهم أكثر من 1.2% من ثرواتهم كلّ عام.

قد يصل المرء لذات الاستنتاج الذي وصلت إليه الفايننشال تايمز والذي تهلل له مؤسسة غيتس على الدوام: نحن بحاجة إلى مؤسسات خيرية أكبر وأكثر، ذلك أنّ الأثرياء سيعطون أكثر لو أنّ الأمر أسهل. ولهذا يتوجب علينا أن نقوي البنية التحتية للمؤسسات الخيرية لنصل إلى «الثروات الهائلة للقرن 21».

لكنّ الحقيقة تجانب هذا الاستنتاج. فالمؤسسات الأكبر لن تكون هي الحل. إنّ تنامي المشاريع الخيرية الممولة من المليارديرية هي نتاج للا مساواة الهائلة المتزايدة، وليست حلاً للمشكلة كما يحلو لأمثال العميد نوريا أن يخبرنا.

إنّ الفقاعة الخيرية المصاحبة للتوسع الهائل في التفاوت في توزيع الثروة في العقدين الماضيين، تعبّر عن قلق عميق لدى النخب الناهبة من الآثار الاجتماعية والسياسية لهذه اللامساواة: أي الاضطرابات الاجتماعية والمطالب بإعادة توزيع الثروة.

إنّ المشاريع الخيرية تخدم دورها كصمام إراحة للرأسمالية عبر التخفيف من بعض أسوأ آثارها. لكنّها وخلافاً لأيّ وهم، غير قادرة على المشاكل الحاضرة لدينا، والتي تظهر نفسها بعدد من الأوجه، ومن بينها عدم الرضا المتزايد عن الرأسمالية.

إنّ الفكرة التي يحاول الإعلام ترويجها عن نموذج المؤسسات المملوكة لحفنة من الأثرياء المتنورين الذين يريدون استخدام سطوتهم السوقية لحلّ مشاكل الفقر واللامساواة معيبة بشكل جوهري، ناهيك عن أنّ هذه المؤسسات بحدّ ذاتها ليست ديمقراطية بالمرّة.

إنّ أحلام هذه المؤسسات ليست هي أحلامنا، فنحن لم نساهم لا في تشكيلها ولا في خطط عملها. فمؤسسة غيتس أو فورد أو المئات من المؤسسات المشابهة لها هي مؤسسات لا تخضع للتشريعات ولا للمحاسبة العامة وتضع الأجندة تبعاً لمموليها، وهي تتلقى رغم ذلك الكثير من المساعدة العامّة والإعفاءات الضريبية. إنّها ليست مؤسسات ديمقراطية يقرر فيها المواطنون ماذا سيفعلون بأموالهم.

إنّ الديمقراطية، الحقيقية وليس ديمقراطية الشركات، هي ما نحتاجه اليوم تحديداً. إنّ الحركات الناشئة لا تكتفي بالمطالبة بتحسين البضائع الأساسية كالصحة والتعليم، بل تريد قلب الطاولة على النظام الحالي كليّة لبناء مستقبل أفضل.

إنّ سيطرة النخب على الرؤى الجماعية تضمحل بسرعة، ولهذا فإنّ هذا هو الوقت المناسب لتعود هذه الرؤى لتعبّر عن الجميع.