المخدرات والاقتصاد العالمي
كانت السيطرة على تجارة المخدرات هدفاً رئيساً في عملية الغزو التي قادتها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «الناتو»، ذلك إثر قرار حكومة طالبان في عام 2000 بالحد من إنتاج الأفيون وكبح تجارة الهيروين، وهي المبادرة التي دعمتها الأمم المتحدة في ذلك الحين.
تعريب وإعداد: عروة درويش
ينبغي السؤال أولاً: لماذا تم غزو أفغانستان؟ ترتبط الحرب على أفغانستان وتجارة المخدرات معاً بشكل وثيق. حيث كانت الحرب الأفغانية أثناء السبعينيات من القرن الماضي تموَّل بشكل سري من تجارة مخدرات الهلال الذهبي (منطقة لزراعة الأفيون تقع على الحدود الأفغانية- الباكستانية- الإيرانية). وتشير الدلائل بشكل لا لبس فيه إلى أنّ تجارة الهيروين، الذي يصدّر من أفغانستان وتبلغ قيمته مليارات الدولارات، قد تمّت حمايتها من قبل التحالف الذي قادته الولايات المتحدة.
وفقاً لمكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة، قدِّر إنتاج الأفيون الأفغاني في عام 2003 بـ3.600 طن، بينما قدّرت المساحة المزروعة بحوالي 80.000 هكتار، ووصل هذا الرقم إلى 120.000 هكتار في عام 2004، في ظل الحديث الذي دار في حينه عن إمكانية نمو زراعة المخدرات بحدود تصل إلى ما بين 50 إلى 100% مقارنة بإنتاج العام 2003.
«عملية الاحتواء»
في جوقة التطبيل، حمّلت وسائل الإعلام الأمريكية المسؤولية لـ«النظام الإسلامي المتشدد»، دون الاعتراف حتّى بأنّ حركة طالبان - بالتعاون مع الأمم المتحدة- قد فرضت حظراً ناجحاً على زراعة الخشخاش في عام 2000، حيث انخفض إنتاج الأفيون بأكثر من 90% في عام 2001. والواقع هو أن الزيادة في إنتاج الأفيون قد تزامنت مع العملية العسكرية بقيادة الولايات المتحدة وسقوط نظام طالبان. وبدأ المزارعون في الفترة بين تشرين الأول إلى كانون الأول لعام 2001 بإعادة زراعة الخشخاش على نطاق واسع.
وقد تمّ الاعتراف بنجاح برنامج أفغانستان للقضاء على المخدرات عام 2000 تحت حكم حركة طالبان في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الأول 2001 (التي جرت بعد أيام قليلة من بداية غارات القصف في عام 2001). ولم يتمكن أيّ بلدٍ آخر من أعضاء «مكتب الجريمة والمخدرات» من تنفيذ برنامج مماثل، إذ أكدت الأمم المتحدة في تقرير لها عام 2001: أنّ إنتاج هذا العام (2001) هو حوالي 185 طناً، وهذا الرقم قد نزل من 3300 طن العام الماضي (2000)، ما يشكل انخفاضاً بنسبة تفوق 94%. وبالمقارنة مع الحصاد القياسي منذ عامين والذي بلغ 4700 طن، فإنّ الانخفاض يجاوز 97%.
والواقع أن كلاً من واشنطن ومكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة يدّعيان الآن أن هدف طالبان في عام 2000 لم يكن حقاً «استئصال المخدرات» بل مخططاً خبيثاً لإحداث «انخفاض مصطنع في العرض» من شأنه أن يرفع الأسعار العالمية للهيروين نتيجة ارتفاع الطلب.
ومن المفارقات أن هذا المنطق الملتوي، والذي يشكل الآن جزءاً من «إجماع الأمم المتحدة» الجديد، قد دحضه تقرير لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة في باكستان. حيث أكّد التقرير عدم وجود دليل على تخزين طالبان للمخدرات في ذلك الوقت.
أجندة واشنطن: إحياء تجارة المخدرات
في أعقاب القصف الأمريكي لأفغانستان، كلفت مجموعة الثمانية للدول الرائدة صناعياً حكومة توني بلير بتنفيذ برنامج القضاء على المخدرات، والذي يسمح من الناحية النظرية، للمزارعين بالتخلي عن زراعة الخشخاش لصالح زراعات بديلة. كان البريطانيون يعملون في كابول عن قرب مع «وكالة مكافحة المخدرات الفدرالية» لأجل تنفيذ «عملية الاحتواء».
من الواضح بأنّ رعاية بريطانيا لبرنامج القضاء على المحاصيل كانت مجرّد دخان تورية. فمنذ تشرين الأول 2001، ازدادت زراعة خشخاش الأفيون بشكل صارخ. فوجود قوات الاحتلال في أفغانستان لم يؤدِّ إلى القضاء على زراعة الخشخاش، بل على العكس تماماً.
يشكل الهيروين تجارةً تقدر بمليارات الدولارات، مدعوماً من قوى ذات مراكز النفوذ والمصلحة، وهو ما يتطلب تدفقاً ثابتاً وآمناً للسلع. وإحدى أهداف الحرب «الخفية» كان تحديداً استعادة تجارة المخدرات التي ترعاها وكالة المخابرات المركزية CIA إلى مستوياتها التاريخية، والسيطرة المباشرة على طرق المخدرات.
تاريخ تجارة مخدرات الهلال الذهبي
يستحق الأمر منّا أن نذكر تاريخ تجارة مخدرات الهلال الذهبي، الذي يرتبط بشكل وثيق مع عمليات وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية السريّة في المنطقة منذ اندلاع الحرب السوفياتية- الأفغانية وما نتج عنها.
كان إنتاج الأفيون في أفغانستان وباكستان قبل الحرب السوفيتية- الأفغانية (1979-1989) موجهاً إلى الأسواق الإقليمية الصغيرة، ولم يكن ثمة إنتاج محلي للهيروين. لقد كان اقتصاد المخدرات الأفغاني مشروعاً مصمماً بعناية من قبل الـCIA، ومدعوماً من سياسة الولايات المتحدة الخارجية.
وكما كشفت فضائح إيران- كونترا و«بنك التجارة والائتمان الدولي»، فقد تمّ تمويل عمليات سريّة لوكالة المخابرات المركزية لدعم «المجاهدين» الأفغان من خلال غسيل أموال المخدرات. حيث تمّ تدوير الأموال القذرة عبر عددٍ من المؤسسات المصرفية (في شرق المتوسط) وكذلك عبر شركات وهمية تابعة للـCIA، وتحويلها إلى «أموال سريّة» استخدمت من أجل تمويل مختلف الجماعات المسلحة أثناء الحرب السوفياتية- الأفغانية وما تلاها. وتؤكد الدراسة التي أجراها الباحث ألفريد ماكوي أنه في غضون عامين من إطلاق العملية السريّة لوكالة المخابرات المركزية في أفغانستان عام 1979: «أصبحت الحدود الباكستانية- الأفغانية أكبر منتج للهيروين في العالم، حيث لبّت 60% من الطلب الأمريكي. وفي باكستان، انتقل عدد المدمنين على الهيروين من الصفر تقريباً في عام 1979 إلى 1.2 مليوناً بحلول عام 1985، وهو ارتفاع أكثر حدّة منه في أيّة دولة أخرى».
تسيطر وكالة الاستخبارات المركزية مرّة أخرى على تجارة الهيروين هذه. وحين استولى المجاهدون على أراضي أفغانستان، أمروا الفلاحين بزرع الأفيون كـ«ضريبة ثورية»، وقد رفض المسؤولون الأمريكيون التحقيق في تهمة قيام حلفائهم الأفغان بالتعامل بالهيروين، ذلك أنّ سياسة الولايات المتحدة للمخدرات كانت خاضعة للحرب ضد النفوذ السوفياتي هناك. وفى عام 1995 اعترف مدير الـCIA السابق، تشارلز كوغان، بأنّ الوكالة ضحّت بحرب المخدرات بالفعل على مذبح الحرب الباردة: «كانت مهمتنا الرئيسة أن نلحق أكبر قدر ممكن من الضرر بالسوفييت. لم نكن نملك الموارد أو الوقت لتكريسه في تحقيق في تجارة المخدرات. لا أظنّ بأنّنا بحاجة إلى الاعتذار عن هذا، فلكل حالة تداعياتها. كان هنالك تداعيات من حيث المخدرات، هذا صحيح. ولكنّ الهدف الرئيس قد أُنجز. لقد غادر السوفييت أفغانستان».
المخدرات: تالياً لتجارة النفط والأسلحة
كانت عائدات وكالة الاستخبارات المركزية من تجارة المخدرات الأفغانية كبيرة. وتشكّل التجارة الأفغانية في المواد الأفيونية جزءاً كبيراً من حجم مبيعات المخدرات على الصعيد العالمي، والذي تقدّره الأمم المتحدة بمبلغ يتراوح بين 400 و500 مليار دولار. ففي الوقت الذي صدرت فيه أرقام الأمم المتحدة لعام 1994، فإنّ تجارة المخدرات العالمية كانت بنفس حجم تجارة النفط العالمية.
ويقدّر صندوق النقد الدولي أنّ غسيل الأموال العالمي يتراوح بين 590 مليار و1.5 تريليون دولار سنوياً، وهو ما يمثل 2 إلى 5% من إجمالي الناتج العالمي. وترتبط حصّة كبيرة من عمليات غسيل الأموال على الصعيد العالمي، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، بتجارة المخدرات. واستناداً إلى الأرقام الأخيرة (2003)، يشكل الاتجار بالمخدرات «ثالث أكبر سلعة عالمية مقاسة بالنقود بعد النفط وتجارة الأسلحة».
هنالك مصالح تجارية وماليّة قويّة وراء المخدرات. ومن هذا المنطلق، فإنّ السيطرة الجيوسياسية والعسكرية على طرق المخدرات هي أمر استراتيجي كالسيطرة على مصادر النفط وأنابيبه.
رغم ذلك، فإنّ ما يميز المخدرات عن التجارة السلعية القانونية هو كون المخدرات تشكّل مصدراً رئيساً لتكوين الثروة، ليس فقط للجريمة المنظمة وحسب، بل أيضاً لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، التي تشكّل على نحو متزايد لاعباً فاعلاً قوياً في المجالات الماليّة والمصرفية.
بعبارة أخرى: تتنافس كلّ من الوكالات الاستخباراتية ومراكز الأعمال البارزة المتحالفة مع الجريمة المنظمة على السيطرة على طرق الهيروين. تصبّ عائدات المخدرات البالغة مليارات الدولارات في النظام المصرفي الغربي. تقوم أكثر المصارف الكبرى مع الشركات التابعة لها في الملاذات المصرفية بغسيل كمية كبيرة من أموال المخدرات.
أين يذهب المال؟
وفقاً لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، فإن الأفيون في أفغانستان قد ولّد في عام 2003 «دخلاً بقيمة مليار دولار للمزارعين، و1.3 مليار دولار للتجّار، وهو ما يعادل أكثر من نصف دخل البلاد القومي».
وتماشياً مع تقديرات المكتب أيضاً، بلغ متوسط سعر الأفيون الخام 350 دولار للكيلوغرام الواحد (2002). علماً أنّ إنتاج عام 2002 قد بلغ 3400 طن. غير أن تقديرات المكتب، والتي تستند إلى أسعار المزارع المحليّة وأسعار الجملة، تشكّل نسبة ضئيلة جداً من إجمالي مبيعات تجارة المخدرات الأفغانية التي تبلغ قيمتها عدّة مليارات من الدولارات. ويقدّر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة بأنّ «إجمالي التحويلات السنوية للتجارة الدولية» في المواد الأفيونية الأفغانية بمبلغ 30 مليار دولار، بيد أن دراسة أسعار الجملة والتجزئة للهيروين في البلدان الغربية تشير إلى أن مجموع الإيرادات المتحققة، بما فيها الإيرادات على مستوى التجزئة، أعلى بكثير من ذلك.
التسلسل الهرمي للأسعار
نحن نتعامل مع التسلسل الهرمي للأسعار، بدءاً من سعر المزرعة في بلد الإنتاج، وصعوداً إلى سعر التجزئة النهائي في الشارع، يبلغ الأخير في أغلب الأحيان 80 إلى 100 ضعف السعر المدفوع للمزارع.
بعبارة أخرى: يمرّ المنتج الأفيوني عبر عدّة أسواق بدءاً من البلد المنتج ومروراً ببلد (بلدان) الشحن العابر، ووصولاً إلى البلدان المستهلكة. وفي الأخيرة هناك فارق كبير بين أسعار الدخول إلى البلاد التي تصل بناء على طلب كارتيلات المخدرات، وبين أسعار تجزئة الشارع المحمية من الجريمة الغربية المنظمة.
العوائد العالمية للمخدرات الأفغانية
ستسمح الـ3600 طن من الأفيون المنتج في أفغانستان عام 2003 بإنتاج حوالي 360 ألف كلغ من الهيروين النقي، ويقدّر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة تقريباً إجمالي الإيرادات المتحققة للمزارعين الأفغان بمبلغ مليار دولار، بينما يحقق التجّار المحليون قرابة 1.3 مليار.
وعند بيعها في الأسواق الغربية على شكل هيروين بسعر جملة قيمته 100 ألف دولار للكلغ الواحد (بنسبة نقاء 70%)، فإنّ عائدات الجملة العالمية (المتوافقة مع إنتاج 3600 طن أفيون أفغاني) ستبلغ 51.4 مليار دولار. ويشكّل هذا الأخير تقديراً متحفظاً يستند إلى الأرقام المختلفة لأسعار الجملة في القسم السابق.
إنّ جزءاً كبيراً من عائدات تجارة المخدرات يتراكم لدى عصابات الأعمال والإجرام في البلدان الغربية، المنخرطة في أسواق تجارة المخدرات بالجملة وبالتجزئة، وتتمّ حماية مختلف العصابات الإجرامية الضالعة في تجارة التجزئة بشكل حتمي من قبل «الشركات» التي تشكّل عصابات الإجرام.
1للمزارعين.. و79 للتجار
إنّ ما نسبته 90% من الهيروين المستهلك في المملكة المتحدة من أفغانستان. وباستخدام أرقام مصادر الشرطة البريطانية لأسعار التجزئة البالغة 110 دولار للغرام (مع مستوى نقاء مفترض عند 50%)، فإنّ إجمالي قيمة تجارة المخدرات الأفغانية في عام 2003 (3600 طن من الأفيون) يقدر بـ 79.2 مليار دولار. وينبغي اعتبار هذا الأخير محاكاة وليس تقديراً.
وبموجب هذا الافتراض (المحاكاة)، فإنّ إيرادات مليار دولار كليّة للمزارعين في أفغانستان (2003) ستولّد عائدات عالمية من المخدرات - تتراكم في مراحل وفي أسواق مختلفة- بقيمة 79.2 مليار دولار. وتتحقق هذه العائدات العالمية لعصبات أصحاب الأعمال ووكالات الاستخبارات والجريمة المنظمة، والمؤسسات المالية وتجّار الجملة وتجار التجزئة إلخ... وذلك سواء أكانوا منخرطين بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تجارة المخدرات.
وتودع عائدات هذه التجارة المربحة بدورها في المصارف الغربية، والتي تشكل آليّة رئيسة في غسل الأموال القذرة. وتعود نسبة ضئيلة جداً إلى المزارعين والتجّار في البلد المنتج، نضع في اعتبارنا أن صافي الدخل الذي يحصل عليه المزارعون الأفغان ليس سوى جزء صغير من المبلغ الكلي المقدّر بمليار دولار، ولا يشمل هذا المبلغ مدفوعات المدُخلات الزراعية، والفوائد على القروض المقدمة إلى المقرضين، والحماية السياسية، وما إلى ذلك.