هل الفقراء مسؤولون عن فقرهم
قد يكون زبائن سلسلة متاجر بقالة «هول فودز» الأمريكية قد لاحظوا منذ فترة وجود زخارف جديدة تزين السجلات: صور سكانٍ مبتسمين من البلدان الفقيرة. هذا من عمل «الذراع الخيرية» لهول فودز والمسماة «هول بلانيت»، والتي تدير «حملة الرخاء» للعام الثامن من أجل تحقيق «مستقبل دون فقر». يمكن للمتسوقين أن يتبرعوا بخصم الزبون الخاص بهم، وهو حسم الخمسة سنتات الذي يتلقونه لعدم استخدامهم الأكياس البلاستيكية، إلى مؤسسة تمويل صغيرة..!
تعريب وإعداد: عروة درويش
تدعي «هول فودز» أنها تأمل بأن تجمع - من خلال خلط هذه التبرعات مع التبرعات التقليدية- مبلغ 5 ملايين دولار، كي تموّل بها «آلاف القروض الصغيرة من أجل أصحاب مشاريع فقراء حول العالم»، وتزعم بأنّها بإمكان هذه التحويلات المالية المباشرة التي لا تتدخل بها الوكالات الحكومية أن «تعزز من قدرة الفقراء والمجتمعات المحيطة بهم».
هذا العصر - من نواحٍ عدة- هو عصر الأشياء المتناهية الصغر، عصر التفكير الصغير والعمل بشكل محلي. تشكّل القروض الصغيرة جزءاً واحداً فقط من التحرك الواسع تجاه «التنمية من أسفل إلى أعلى»، وهو ما يسعى إلى انخراط الفقراء بشكل مباشر في الحملات المناهضة للفقر.
لقد استغل البنك الدولي بشدّة هذا المجال، وقد وصف كبير اقتصادييه ما سماه «المشاركة المجتمعية» بأنّها: «مبدأ محوري لسياسة التنمية»، وقد قامت المؤسسة في الخمسين عاماً الماضية بإنفاق أكثر من 85 مليار دولار بزعم «تمكين المجتمعات المحلية واللامركزية الحكومية».
ويتأتّى الحماس بشأن «معالجة» الفقر بهذه الطريقة من محاولة الترويج بأنّ الحلول الموجهة من «أعلى إلى أسفل» لم تؤتِ ثمارها كما ينبغي وأنها ليست الحل.
ليست مجرد «أخطاء»
أدّى إنشاء السدود الضخمة التي بنيت لتوفّر سبل الري وتوليد الكهرباء إلى نزوح ملايين الناس (بين أربعين إلى ثمانين مليون شخص في القرن العشرين)، وإلى إنشاء مستوعبات مائية هائلة توفّر البيئة المثالية لتكاثر البعوض الناقل للأوبئة، كما انحدرت حملات تحديد النسل لتصبح تعقيماً قسرياً برعاية الأنظمة. وأصبحت طرق التحوّل المهلهلة إلى الأسواق بإنشاء «مناطق اقتصادية خاصّة» وسائل لانتزاع الأراضي، حيث استولى القطّاع الخاص على أملاك الفلاحين ثمّ قام بتوظيف المحرومين من أملاكهم بأجور متدنية للغاية.
تسمع واحدة من هذه القصص، فيسهل عليك اعتبارها «مجرّد خطأ». ثمّ تسمع خمس عشرة منها فيبدو الأمر لك بأنّه نمط متكرر.
يتطلّب الأمر قرية
بدأت «التنمية المجتمعية» - كما نعرفها اليوم- في المقاطعة متوسطة الحجم في شمالي الهند «إيتاوا». قام رئيس الوزراء الهندي، جواهر لال نهرو، في عام 1948 بالتشارك مع مخطِط مديني من الولايات المتحدة يدعى ألبرت ماير لمعرفة ما يمكن عمله «لبناء حياة مجتمعية» في قرى الهند. قدّم نهرو قرية إيتاوا كـ«تجربة».
قصد نهرو «الشخص المناسب». كان ماير قلقاً، مثل الكثير من مواطنيه، ممّا فعلته المكننة في الولايات المتحدة، وخاصة بالحياة المجتمعية فيها. لقد استحسن ما رآه في القرى الهندية. و«استنتج» ماير بأنّه يجب بدلاً من التركيز على النتائج المادية (حصاد أكبر ووفرة حيوانية أفضل) الحثّ على «الاحتياجات الملموسة» لقاطني إيتاوا أنفسهم. يمكنهم بهذه الطريقة الوصول إلى «الحلول الشعبية» الخاصة بهم.
وقد بدا بأنّ الأمر نجح بشكل يثير الملاحظة. فقد أنشأ القرويون المدراس والطرقات والآبار النظيفة باستخدام التكنولوجيا والموارد المحلية فقط. أصبحت إيتاوا شهيرة بسرعة. وبناء على إيتاوا، أطلقت الهند برنامج «تنمية مجتمعية» في كامل البلاد في عام 1952، في عيد ميلاد غاندي. واستثمرت الولايات المتحدة عشرات الملايين من الدولارات، واضطلعت مؤسسة «فورد» بدور محوري، وأرسلت الأمم المتحدة دفقات من الخبراء لـ«المساعدة». وباشرت الحكومة الهندية، من أجل تشجيع المجتمعات المحلية القروية على المضي قدماً، حملة «اللامركزية الديمقراطية» باستبدال المسؤولين المحليين المعينين بآخرين منتخبين، وعهدت إلى مجالس القرى ببعض أعمال التخطيط الاقتصادي.
غطّى برنامج التنمية المجتمعية جميع قرى الهند بحلول منتصف الستينات. ويجب أن نأخذ في الاعتبار لكي نقيّم تماماً هذا العمل أن تلك القرى تضم مجتمعة قرابة 10% من سكان العالم.
انتشرت «التنمية المجتمعية» من الهند إلى الخارج. وأنشأت الولايات المتحدة قسماً للتنمية المجتمعية داخل وزارة الخارجية للمساعدة في التمويل والخبرات، وأنشأت في وقت لاحق «فيلق السلام» لإرسال الشباب إلى الخارج لـ«المساعدة» بشكل مباشر. وبحلول عام 1960، كان لدى أكثر من ستين بلداً برامج لـ«التنمية المجتمعية». وخلُص نهرو بعد معاينة كلّ هذا إلى أنّ التنمية المجتمعية كانت «الشيء الأكثر ثورية» الذي حققته حكومته...
فقاعة إيتاوا:
تكريس التفاوت الطبقي
هناك أمران يثيران الدهشة حول تاريخ «التنمية المجتمعية». أحدهما: وهو ما لاحظه نهرو، كان المدى الواسع لتطبيقه. والثاني: هو كم يصغر القيام به. يصعب قياس التقدّم المحرز. أسأل أحد الاقتصاديين عمّا إن كان مشروع التنمية قد حقق النجاح وسوف يحيلنا إلى الأرقام. هل ارتفعت الإيرادات صعوداً أم هبوطاً؟ ماذا عن متوسط العمر المتوقع؟ ومع هذا، فقد أصرّ المطورون المجتمعيون مراراً وتكراراً بأنّه لا يمكن استخلاص إنجازاتهم من خلال «الإحصاءات الجامدة»..!
ومع ذلك فإنّ الأرقام، ورغم جميع عيوبها، غالباً ما تنسجم مع الحقائق التي نريد الوقوف عليها. وفي حالة الهند، كانت الأرقام الأكثر إلحاحاً مرتبطة بالزراعة. كان واضحاً في أواخر الخمسينيات أنّ الهند ببساطة لم تكن تزرع ما يكفي من الحبوب لإطعام سكانها المتزايدين.
وبحلول الستينيات، أصبح من الواضح أنّه لا يمكن لـ«التنمية المجتمعية» على الطراز الأمريكي أن تتدارك الأزمة الزراعية التي تلوح في الأفق في الهند. في الواقع، كان يصعب أن نقول: بأنّها قادرة على فعل شيء. بحثت الدراسة تلو الدراسة، سواء في الهند أو في أماكن أخرى، عن فوائد «الخطط المجتمعية» ولكنّها خرجت خائبة رغم الجهود المبذولة. وقد استخلص التقرير ذو المستوى الأكثر رفعة عن البرنامج الهندي، والذي تمّ بتكليف من حكومة نهرو نفسها، إلى أنّ أصوات الجعجعة كانت عالية لكن دون طحن. ولم تُظهر في النهاية سوى مجموعات قليلة من المجتمع المحلي «أيّ حماس أو اهتمام بهذا العمل».
وقد وجدت الأموال المخصصة للاستعمال العام سبيلها إلى أيدي ملّاك الأراضي وزعماء القرى. وفي الوقت نفسه، نادراً ما نوقشت المشاكل الملحّة، كالديون والتمييز الجنسي والنظام الطبقي واستئجار الأراضي.
واستنتج الخبير الاقتصادي الشهير، غونار ميردال، بعد دراسة متأنية بأنّ «الأثر الصافي للتنمية المجتمعية كان تكريس المزيد من عدم المساواة بدلاً من تقليلها». وقد صاغها عالم الأنثروبولوجيا جيرالد بريمان بشكل أكثر وضوحاً: «إن تكليف المجالس القروية بمكافحة الفقر في الأرياف كان بمثابة تكريس قوانين الفصل العنصري في لوحات المدارس بقصد محاربة العنصرية».
قيم النابالم الأمريكية
المكان الوحيد الذي استمرت فيه «البرامج المجتمعية» بالنمو كان ميدان مكافحة التحركات الشعبية. فبدءاً من الخمسينيات من القرن الماضي، قامت وكالة الاستخبارات المركزية بتمويل هذه البرامج في الفلبين كوسيلة لقمع التحركات الريفية، وهو «تحرك هوك» اليساري. فقد تأملت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أن تقطع رأس التحرك الشعبي من خلال «دفع الفلاحين إلى التماهي مع مجتمعهم»، والذي كان ملاك الأراضي يسيطرون عليه، بدلاً من أبناء طبقتهم.
وقد نجحت في ذلك باستخدام خليطٍ من العصا والجزرة هما «البرامج المجتمعية» وقنابل النابالم، فصدّت وكالة المخابرات المركزية والحكومة الفلبينية التحرك الشعبي. كان هذا بمثابة معجزة من وجهة نظر الوكالة. فكما شرح أحد ضباطها بشكل يثير الدوار: يمكن لـ«التنمية المجتمعية» أن تكون حصناً «ضد الاستيلاء اليساري على كلّ قرية في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا».
وكان ذلك أكثر طموحاً من أي شيء آخر. إنّ المكان الوحيد الذي دعمت فيه الولايات المتحدة «التنمية المجتمعية» بشكل كامل، كتكتيك مضاد للتحركات الشعبية، هو فيتنام الجنوبية. فعندما كشفت حكومة نغو دينه ديم عن برنامجها الخاص بالقرى، عطفاً على برنامج الهند، والذي أسماه ديم «مبدأ التنمية المجتمعية»، قامت الولايات المتحدة بإرسال خبرائها من الفلبين.
وقد تُوّج هذا بـ«برنامج القرى الاستراتيجي» الذي سعى إلى بناء روح المجتمع بين الفلاحين الفيتناميين الجنوبيين داخل القرى المحصنة، وإنشاء منطقة خالية من الحرائق خارجها. قدمت الولايات المتحدة 10 ملايين دولار كتمويل، بالإضافة إلى خبرائها المجتمعيين الممارسين.
ومع كلّ ذلك، فقد أصبح البرنامج رمزاً لفشل نظام ديم. لقد استخفّ به السكان وتمّ اختراقه بسهولة من قبل جبهة التحرير الوطنية، فسقط البرنامج بسرعة بعد موت ديم عام 1963.
حديث قصير
رغم ذلك، فإن أسطورة «المجتمعية» تروج من جديد. والمشاكل التي واجهتها في منتصف القرن الماضي تنبثق من جديد. قام في عام 2013 اقتصاديان مرموقان من البنك الدولي باستعراض ما يقرب من خمسة آلاف دراسة عن «التنمية القائمة على المشاركة». شملت الدراسات التي فحصاها خليطاً من النشاطات والأمكنة: إعداد موازنة تشاركية في البرازيل، وقروض صغيرة في باكستان، وإمكان وصول النساء إلى مياه نظيفة في كينيا، وإدارة الغابات في أوغندا، وإعادة الإعمار التالي للنزاع في ليبيريا. وشمل استعراضهما الجغرافيا الإثنية والمسح الاجتماعي ودراسات التحكم العشوائي والتحليلات الاقتصادية.
إنّ الذي وجداه ليس بالشيء المشجّع. استنتجا بأنّ «البرامج التشاركية» المدعومة أمريكياً تولّد بالفعل استجابات إبداعية للظروف المحلية. ولكن يتمّ اختطاف هذه الإنجازات من قبل الأثرياء المحليين، فعندما تحقق البرامج المجتمعية فوائد يكون قياسها ممكناً، فإن تلك الفوائد (وهي عادة ما تكون متواضعة) تميل إلى التراكم لصالح «الأكثر معرفة بالقراءة والكتابة، والأقل عزلة جغرافية، والأكثر ارتباطا بالأشخاص الأثرياء والأقوياء».
إذا كانت البرامج المجتمعية قد تعثرت بشكل ثابت، سواء في الماضي أو الحاضر، فما الذي تبقى؟ العودة إلى حكم الخبراء؟ سدود أكبر وبذور أفضل؟ عندما يتواجه نهجان: نهج خبير التنمية الذي يسأل «ما الذي يمكننا فعله من أجل الفقراء؟» مع نهج المطوّر المجتمعي الذي يسأل «ما الذي يمكننا أن نفعله وإياهم؟»، فسيبدو النهج الشعبي أكثر ثباتاً. لكنّ هنالك سؤال ثالث يطرحه سكان «الشمال العالمي»، وهو سؤال سيثمر أكثر: «ماذا كنا نفعل لهم؟».
ينطوي هذا السؤال على إطارٍ مختلف نادراً ما يأخذه مؤيدو «تنمية المشاركة» بالاعتبار. وهو يثير احتمال وجود علاقة سببية بين السياسات الحكومية في «الشمال العالمي» من جهة، وبين استمرار الفقر في «الجنوب العالمي». فبدلاً من التركيز فقط على الفقراء في الأماكن الفقيرة، فإنّ الإجابة ستُلقي نظرة على الشمال والجنوب معاً من خلال عدسة رؤيا ذات زاوية واسعة.
عبء الذنب
ما إن يتم توسيع الإطار ليشمل كلا الأغنياء والفقراء بداخله، ستصبح رؤية بعض جوانب الفقر أسهل. فمن الواضح اعتماد التوزيع الحالي للموارد العالمية على هيكل التجارة الدولية والتمويل الذي بناه الأثرياء لخدمة الأثرياء.
كمثال: يبدو صندوق النقد الدولي ظاهرياً كمؤسسة عامة مكرسة لرفاهية الجميع. غير أنّه بالكاد يعطي سلطة التصويت للبلدان بما يتناسب مع موقعها في الاقتصاد العالمي. فالهند، والتي يبلغ عدد سكانها أربعة أضعاف سكان الولايات المتحدة، تملك أقلّ من سُبع الأصوات.
وتسود آليات مماثلة في الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي. نطمح على الصعيد الوطني أن نعيش في ديمقراطية. لكننا نعيش على الصعيد الدولي في بلوتوقراطية (حكم الأثرياء).
وليس من المستغرب أن تستخدم البلدان الغنية قوتها للضغط من أجل مصلحتها. فقد أقاموا حواجز تجارية ضد بلدان الجنوب العالمي، بينما يطالبون البلدان ذاتها، كثمنٍ للقروض، بأن تفكك حواجزها التجارية. تقوم هذه البلدان بدعم زراعتها ثم تنحى جانباً بينما يقوم مزارعوها بتفريغ منتجاتهم ذات الأسعار الأقل في الأسواق الجنوبية. وهي تطالب الدول الفقيرة بأن تعتمد وتنفذ حماية صارمة بشأن الملكية الفكرية، ممّا يتسبب في زيادة أسعار الأدوية والتكنولوجيا على من هم في أشد الحاجة إليها.
وقد خلق هذا كله رياحاً عكسية عاتية ضدّ المساواة الاقتصادية العالمية. تصل هذه اللامساواة لدرجة أن البلد الذي يولد فيه الشخص، وليس سنّه أو جنسه أو مستوى تعليمه أو أخلاقيات عمله أو حتى ثروة والديه، هو إلى حد بعيد أكبر محدِّد لمصيره الاقتصادي.
ولننظر مثلاً إلى تغير المناخ. إننا موعودون بدرجات حرارة أعلى وبعواصف أشد وأكثر تواتراً وبارتفاع منسوب مياه البحر الذي يمثل أسوأ تهديد تواجهه البلدان الفقيرة. إنّ مساهمة الفقراء في خلق هذه المشكلة قليلة: فمتوسط بصمة بنغلاديش الكربونية (كمية انبعاثات الكربون التي يصدرها شخص أو منظمة، وتأثيرها على الاحتباس الحراري) تشكّل قرابة 2% من متوسط بصمة الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن معيشتهم هي المعرضة للخطر.
يُظهر تغير المناخ بوضوح حدود مهاجمة الفقر من خلال تشجيع الروح المجتمعية بين الفقراء. فعلى الرغم من أنها مسألة ذات أهمية محلية عميقة (وليست أكثر مما هي عليه في الجنوب العالمي)، فيبدو من غير المرجح أن تسفر ولو من بعيد عن إجراءات مجتمعية ترعاها الدولة.
ضمن سياقٍ لا تزال فيه «الدول الغنية» تعمل عبثاً على ترسيخ النظام الدولي لضمان تراكم الثروة في أماكن معينة، وتُبعد الفقراء عن تلك الأماكن، ثمّ تستهلك الموارد بمعدل يرجّح أن يجعل القسم الأكبر من كوكب الأرض غير صالح للسكن، يبدو أمراً غريباً هذا الهوس الحالي في «مساعدة الفقراء كي يساعدوا أنفسهم»..!