عندما يتحول التعليم إلى «قطاع أعمال»
عندما يكلّف درس الرياضيات الخاص للثالث الثانوي في سورية عشرة آلاف ليرة، وعندما تقبل الجامعات الخاصّة طلاباً لا يجيدون تهجئة كلمة «اضطلع» مقابل مليوني ليرة سورية في السنة، وعندما يصبح حملة شهادة الماجستير «كالكشك» على حدّ تعبير رئيس الجامعة الذي لم يقبل كتابة عقد نظامي مع أحد حاملي ماجستير المعلوماتية، مخيّراً إياه بين تخصيص ساعات كأستاذ مشرف أو الطرد، فإننا نعاني إذاً من المشاكل ذاتها التي يذكرها المقال التالي. في ظل هيمنة الرأسمال عالمياً بغض النظرعن الفروق حسب مستوى تطور كل بلد.
تعريب وإعداد: عروة درويش
مذ بدأ شِرك إدارة الجامعات «كأنّها أعمال» في وقت مبكر من الثمانينيات، وأقساط الجامعات بارتفاع مفاجئ، متجاوزة التضخم ونمو الدخل بكثير. الشيء الوحيد الذي بقي عالياً على ما يبدو هو درجات الطلاب. عبر كامل القطّاع الأكاديمي: سواء العام أو الخاص، الصغير أو الكبير، المفتوح للجميع أو الذي يعتمد على الانتقاء، يحصل الطلّاب على درجات أفضل ويدفعون مالاً أكثر بكثير. وهذه ليست مجرّد مصادفة.
تضخّم النتائج: حصيلة ثانوية للجامعات النيوليبرالية
إنّ القوى التي ساعدت في دفع ارتفاع كلفة الحصول على شهادة جامعية لمدّة عامين أو أربعة، هي ذاتها التي حثّت على رفع معدّل الدرجات بحيث فرغته من محتواه. حيث إن معظم المدرسين لا يريدون منح علامات عالية جداً «على عماها»، كما أن معظم التلاميذ لا يقومون بالعمل الذي يخولهم الحصول على علامة تامّة. ورغم ذلك، فإننا الآن في نموذج تعليمي يمنح علامات عالية أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
ما الذي يحدث عندما تكون درجات الجميع عظيمة؟ وما الذي يحدث عندما يتخرّج الطلبة ويقدمون الطلبات (طلبات عمل أو طلبات دراسات عليا وهلمّ جرا)؟ كيف نفرّق حاملي المعدلات العالية عن بعضهم البعض؟
تلعب «العلامة التجارية» دوراً بكل تأكيد، حيث يملي البريستيج و«بريستيج الشهادة Pedigree» (وهو المصطلح الذي يتمّ استخدامه دون ارتياح في المجال الأكاديمي هذه الأيام) أيّ: السّيَر الذاتية هي التي تستحق أن تُفحَص، من بين كومة سير المتقدمين للوظائف التي يخلقها سوق العمل الضعيف. وهنا، يفتح خاتم المؤسسات الباهظة جدّاً والأكثر حصرية ونخبوية الأبواب التي لا يستطيع الأداء الأكاديمي وحده فتحها.
لطالما كان التقدير الذي يحظى به اسم الجامعة أمراً مهماً، لكن عندما يحمل الكثير من الطلّاب شهادات بدرجات فلكيّة يصبح لشعار الجامعة أهمية أكبر. وأكثر من ذلك فإنّ هنالك عناصر مستقلّة عن الدرجات باتت أكثر أهميّة، وهي تحديداً الاختبارات المعياريّة التي يمكن دعم تقديمها عبر إنفاق المال بترفٍ على دورات التحضير باهظة الثمن.
يقف عاملان سوقيان بالتحديد وراء تهلهل إجراءات التقييم ومنح الدرجات: الأول: هو الجهود المنسقة لتقليل النفقات، والثاني: هو الحاجة لجذب الزبائن (الطلبة) وسط سوقٍ تنافسي بازدياد.
مشكلة العمالة
ليس الأمر سراً أنّ الوظائف بدوامٍ كامل، سواء أكانت ذات عقدٍ دائم، أو في فترة التمهيد لعقد دائم، والمجزية مالياً، هي في تراجع في مجال التعليم العالي في الولايات المتحدة. لقد انضمّ الموظفون المؤقتون أو أصحاب العقود قصيرة الأمد إلى الطلاب الخريجين – معتمدين على تنعّم أقسامهم ذات التمويل الهزيل عليهم – في حوض العمالة «المرن». إنّ القسم الأكبر من وظائف التعليم على مستوى البلاد الآن يشغلها أشخاص لا يتمتعون بأمن وظيفي، ولديهم أعباء عمل ثقيلة ومتزايدة، ورواتب متدنية.
بالنسبة للمدراء في الجامعات التي لا يزدهر فيها العمل – ومشكلة انخفاض معدلات التسجيل موجودة في الكثير من المؤسسات – فإنّ العمالة الملحقة ((غير الدائمة والتي لا تتمتع بالحقوق)) شيءٌ مثالي: إن كان هنالك ما يكفي من التلاميذ لدفع الأقساط والتسجيل في فرعٍ ما، فهؤلاء المدرسون سيأخذون قروشاً مقابل عملهم التدريسي. وإن لم يسجل ما يكفي من التلاميذ في هذا الفرع فيمكن للجامعة ببساطة أن تسرّح العمالة التابعة لها.
لا تشكّل هذه الأخبار صدمة لأيّ أحد يهتم بالأمر. لم تتحقق الزيادة المتوقعة في مجال التوظيف الجامعي بحيث تجسّد الحالة المطلوبة، ويعود السبب في ذلك إلى أنّه يمكن ملء شواغر المؤسسات التعليمية بعمّال مؤقتين ملحقين زهيدي السعر، حيث ليس لديهم الحق بالانتفاع، وليس هناك التزامات تجاههم، وليسوا مخولين بالحصول على تمويل الأبحاث، ولا يملكون وعوداً بالتوظيف أكثر من اليوم الذي يعملون فيه.
المدرّس العقلاني
لا يمكن للبعض سوى أن يعملوا من قلبهم، وبكامل التفاني الممكن في الصفوف الدراسية، وحتّى لو كانت أجورهم أقلّ وعملهم أكثر، وحتّى لو كانوا ينتقلون من عملٍ لآخر دون ضمان أو قوّة مساومة. إنّهم يعتبرون نجاح كلّ طالبٍ من طلابهم على حدة أمراً من صميم مهنتهم. هؤلاء الناس موجودون، وقد تعرفت إلى بعضهم، وأنا معجبٌ بهم بحق.
ومع ذلك، فإنّ الغالبية العظمى من الناس يستجيبون للحوافز المعروضة عليهم مثلما يتنبأ أيّ خبير اقتصادي لهم أن يفعلوا باستخدام «الخيار العقلاني». حيث يحاول أعضاء الهيئة التدريسية المؤقتون أن يتجنبوا تكديس المزيد من العمل على أنفسهم. كلّ ساعة عمل إضافية تنقص ساعة عمل من أبحاثهم ومنشوراتهم التي يحتاجونها للحصول على عمل دائم في المستقبل.
أعتذر عن كون هذا الأمر هو لحظة النضوج حيث «لا وجود لبابا نويل»، ولكن هاكم سرّ عن التدريس في الجامعات التي «تدار مثل الأعمال»: يصبح الطلاب أقلّ جلبة عندما يتلقون درجات عالية. الطلاب الذين يحصلون على درجات عالية نادراً ما يحتجون بالبريد أو يظهرون في مكاتب المدرسين لساعات، أو يقدمون شكاوى طعن بالنتيجة.
التوظيف والاستبقاء
يأتي الضغط لتضخم الدرجات من أكثر من بنية حوافز التوظيف. لقد تمّ منح درجات أكثر ممّا تمّ منحه في أيّ وقت مضى، بشكل جزئي بسبب وجود مؤسسات أكثر، باتت تمنح الدرجات الأكثر. كما تعجّ الجامعات التي لا تشبع من الطلاب بالكلمة الطنانة «الاستبقاء»، لتؤكد بأنّ الهدف الأهم هو خلق بيئة يبقى فيها الطلاب مسجلين. إنّ هذا الأمر إيجابي من ناحية، فهو يشجّع الكلّيات على التدخل عندما يكون هنالك ما يشير إلى وجود ضغط واكتئاب وصراع أكاديمي.
ولكن سيكون من السذاجة أن لا نميّز الدوافع العميقة وراء وصول الاستبقاء لهذه الحال: تذكروا بأنّ الطلب على دافعي الرسوم الدراسية على أشدّه، وبأنّ الطلاب الذين يرسبون في الكليات يتوقفون عن دفع الرسوم. تعلم الكليات حقيقة أنّ معدلات الرسوب، أو حمل المواد، أو الانسحاب، تجذب انتباه ذوي الطلاب، وليس النوع اللطيف من الانتباه.
ما الذي يحدث عندما يقود هذا التدافع لجذب «الزبائن» الجامعات لقبول طلّاب يفتقرون إلى المهارات اللازمة للنجاح في الكليّة؟ سيكون هنالك ضغط للإبقاء على هؤلاء الطلاب أنفسهم. كيف؟ سيساعد تضخّم الدرجات بذلك. لكنّ الاستبقاء أسلوبٌ مكلف على كامل الدورة: الحاجة للمزيد من الإداريين، وللمزيد من الموارد في الحرم الجامعي (مدرسين وبرامج مساعدة التدريس، ومقررات إصلاحية، وحلقات دراسية للمهارة، ووسائل دعم مؤسساتي أخرى)، والمزيد من التذكير بأنّ عدم الحفاظ على مستوى تسجيل محدد يعرقل المستقبل المالي.
وفي نهاية المطاف يدفع الطلاب أكثر بينما يتمّ تقليص هيئة التدريس، وهكذا دواليك.
تخمة العرض...
لقد أصبح كلّ هذا ممكن التحقق بسبب التخمة في عرض العمالة. لدى برامج الدكتوراه والماجستير في الجامعات، الحافز لقبول أعدادٍ كبيرة من الطلبة الخريجين الذين بالإمكان تصيدهم في برامج التعليم، ومنح الدرجات، والقيام بالأبحاث الكبيرة بكلفة متدنية. يضمن سوق العمل غير الأكاديمي القاتم أن يكون هنالك عرضٌ لشهادات الدكتوراة أكثر من قدرة سوق العمل الأكاديمي على الاستيعاب بشكل معقول في الوظائف الجديدة في أيّ عام.
ويجعل هذا مدراء الجامعات، والذين لدى الكثير منهم خبرة في قطّاع الأعمال الخاص قبل مجيئهم إلى قطّاع التعليم العالي، يجرؤون على اتباع نهج: كم يبلغ أقلّ مقدار أجرٍ يمكننا عرضه؟ كم يمكننا الاستمرار بعدم منح علاوات؟ كم عدد المقررات التعليمية التي يمكننا إناطتها خلال فصل واحد بأحد الملحقين ذوي الأجر الزهيد؟
إنّ الروح التي تسود سوق العمل الأكاديمي اليوم تقول: «هنالك دوماً أحدٌ ما يائس كفاية كي يقبل». وبالفعل، فقد أمضى بعض حاملي الدكتوراة وقتاً طويلاً دون عمل، وهم يائسون للغاية للقبول بجدول عمل ثقيل، وبعقدٍ لأقل من عام حتّى مقابل مبلغ زهيد.
هذا الأمر قائم، فهنالك دوماً من هو يائس للقبول بأيّ شيء. العملية برمتها تضمن هذا.
«الممتاز» السهلة
يبدو بأنّ الجميع سعيد عندما تتضخم الدرجات. الطلبة سعداء لأسباب واضحة، والإداريون سعداء لاستمرار الطلبة بالتسجيل، والمدرسون سعداء لكون أعبائهم الثقيلة لن تزيد. لكنّ النتيجة النهائية هي دون المستوى الأمثل.
مع ارتفاع عدد حاملي شهادات البكالوريوس، يمكن لأصحاب العمل أن يطلبوا المزيد من الشهادات (وهو الأمر الذي تكون الجامعات فيه أكثر من سعيدة بتوفيره بأسعار مرتفعة جدّاً). الوحيدون القادرون على الاستفادة من هذا الأمر هم القادرون على تحمّل كلفة تمييز أنفسهم عن أصحاب الدرجات المرتفعة، من خلال شراء شهادات باهظة الثمن خاصّة بالنخبة.
لطالما كان «نظام الجدارة» الأمريكي مجرّد وهم، لكنّه يذوي الآن في المجال الأكاديمي أيضاً. والجاني الآن ليس «الماركسية الثقافية» كما يحبّ اليمين أن يدعي، بل هو تسليع التعليم.
ماذا تختار؟
ضع نفسك في الموقف التالي: أنت تحصل على مبلغ زهيد لتدريس قاعة تحتوي خمسين طالباً لمدّة ستّة عشر ساعة في الأسبوع، طلابٌ قد يكون لديهم ضعف في المهارات الأكاديمية الأساسية. ومقابل المبلغ «السخي» الذي تحصل عليه، فإنّ عليك قضاء أربع ساعات في الصف أسبوعياً، بالإضافة إلى ساعات المكتب الإضافية، وإن حسبنا عدد الساعات الكليّة فإنّهم يقبضون أقلّ من الحدّ الأدنى للأجور كلّ فصل. والكثير من الأعمال التي عليهم أن يصححوها، بالاعتماد على المؤسسة، لا يمكن وصفها بـ«ممتازة» بأحسن الأحوال.
أنت أمام خيارين: يمكنك تصحيح كلّ خطأ تجده في الأوراق أمامك، وتترك ملاحظات طويلة قد لا يقرأها الطالب حتّى، وتعطيه نوع الدرجات التي تقول لوحدها: «سآتي إلى مكتبك فنحن بحاجة لنتحدث». أو يمكنك أن تمنحهم الدرجات التي لا يستحقونها وتنتهي من الأمر.
لكن أيّاً كان خيارك، فعليك أن تأخذه على وجه السرعة خلال الساعة المخصصة لتصحيح الأوراق في المساء، قبل أن يحين موعد المدرسة الليلية في كليّة التكنولوجيا.
تنويه وخلاصة
لدى الحديث حول موضوع على هذه الدرجة من التعقيد، كموضوع الدراسة الأكاديمية في ظل المجتمع الرأسمالي، لا يمكن النظر إليه من زاويته الضيقة في حدود التشريعات والسياسات الأكاديمية المتبعة في الجامعات الأمريكية فقط، إذ أنه - وبفعل سيادة ما يمكن وصفه بـ«الحكومة العالمية» الممثلة بكبار مالكي الثروات في العالم- باتت تلك السياسات التي تجهد في عمليات تحويل الجامعات الأكاديمية إلى «بزنس» تشكِّل اتجاهاً عاماً يجري إدخاله – وفرضه بقوة العصا الاقتصادية، إذا لزم الأمر- إلى دول العالم قاطبة. وهو ما يعني اليوم أن استعادة القيمة العلمية الكامنة في شهادة التحصيل الأكاديمي، أصبحت تستدعي بالضرورة خوض المواجهة ضد النظام الرأسمالي المهدِّد لكوكب الأرض وللجنس البشري معاً، ما يشكل مؤشراً جديداً على اتساع القاعدة الاجتماعية التي تمثلها القوى المناهضة للرأسمالية في العالم.
وينبغي لفت الانتباه أخيراً - وهو دعوة للتفكير والبحث- إلى انعكاس تعميم حالة «العلم بوصفه بزنس» داخل دول المركز الإمبريالي ذاته، في إطار معركة التقدم التكنولوجي. فإن كانت تضرب هذه المقالة مثالاً عن جيلٍ أمريكي كامل بات يعيش «تحت فيء» الدرجات العالية الخالية من أية مصداقية، وهو ما يخدم فكرة الربح الأقصى لدى الرأسمالية، فعن أية معركة تكنولوجية نتحدث في السنوات المقبلة؟ وكيف ستكون موازين القوى فيها في ظل وجود قطب متراجع على المستوى الدولي يستشرس في محاولات الإبقاء على هوامش الربح الأقصى على حساب الجنس البشري، ويضطر في سبيل ذلك حتى إلى ضرب مؤسساته الأكاديمية؟