الصين: من أسطول الكنز إلى الحزام والطريق
ليست مبادرة «حزام واحد، طريق واحد» هي أولى محاولات الصين للخروج إلى العالم. فقبل اكتشاف كولومبوس وسفنه الثلاث ما سيصبح فيما بعد الأمريكيتين، كان لدى الصين أعظم أسطول بحري يجوب العالم، ووصل في ذروته إلى 3500 سفينة. إنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة تمتلك 430 سفينة في أسطولها، بينما كانت أحواض السفن الصينيّة في القرن الخامس عشر، تبني خمسة أضعاف تلك التي يبنونها في أوروبا.
تعريب: عروة درويش
لكن بحلول عام 1525 تمّ تدمير «أسطول الكنز». وفي إحدى لحظات التاريخ الرائعة التي يشجر فيها السؤال: «ماذا لو؟» تمّ إحراق الأسطول أو التخلّص منه، وتوقفت معه الرحلات إلى المجهول. كانت الصين على أعتاب الدوران حول الكرة الأرضيّة قبل عقود من الأوربيين. وفي لحظة محوريّة، فقدت أسرة مينغ بأسها، لتصل إلى فترة من الاضمحلال نجم عنها الإذلال الوطني في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وبعبارة أبسط: كانت الصين في القرن الخامس عشر قوّة عظمى. كان أسطول الكنز هائلاً وفيه بعض السفن التي يصل طولها إلى 120 متر (كانت سفينة سانتا ماريا التابعة لكولومبوس تبلغ 19 متراً فقط)، ووصلت السفينة الصينيّة إلى ذروة تصميمها مع عدّة طوابق وحتّى تسعة أبراج واثنان وعشرون شراعاً وحجرة فاخرة.
فتحت قيادة الأدميرال المخصي زينغ هي، كان الصينيون يبحرون بشكل روتيني إلى إفريقيا ويعودون منها، وذلك قبل ولادة كولومبوس حتّى. لكنّهم لم يمضوا إلى غزو العالم، بل قرروا بدلاً من ذلك تدمير قواربهم ووقف الإبحار غرباً. كانت الحرب البريّة مع المغول هي أحد الأسباب، فالبحريّة كانت مكلفة. لقد كانت تكاليف الحفاظ على الأسطول باهظة، ولكن قد يكون هناك سبب آخر: إنّه خوف السلطة الإمبراطوريّة من النجاح الذي يحققه التجّار. فطبقة التجّار العالميين الأثرياء الجديدة كانت تطالب البلاط الإمبراطوري بتقديم تنازلات على نحو متزايد، وكانت تزدهر خارج رعاية البلاط.
الآن، ولأوّل مرّة منذ اكتشاف كولومبوس لأمريكا تقريباً، تصل الصين من جديد إلى العالم الخارجي. لكن ليس عن طريق الأسطول، بل عبر «OBOR». ونظراً إلى حجم هذه المبادرة وإمكاناتها وعدد الأشخاص الذين ستتأثر حياتهم بها، فإنّ هذا الاختصار يحمل في ثناياه أفقاً مثيراً للدهشة.
إنّ «OBOR» مثل أسطول الكنز، أمرٌ مثيرٌ للإعجاب. تشتمل البلدان التي تعتزم المبادرة ضمّها على 55% من الناتج الإجمالي العالمي، وعلى 70% من سكّان العالم، وعلى 75% من احتياطيات الطاقة المعروفة. والمبادرة ممولة بمائة مليار دولار من «بنك آسيا للاستثمار في البنية التحتيّة» وبأربعين مليار دولار من «صندوق طريق الحرير»، وكلاهما مدعومان من بكين.
الطريق والحزام مختلفان. يأمل «حزام طريق الحرير الاقتصادي» أن يصل الصين بآسيا الوسطى وبجنوب شرق آسيا وبجنوب آسيا وبروسيا وبأوروبا، عن طريق البر. ويهدف «طريق حرير القرن البحري» إلى وصل السواحل الصينيّة مع جنوب شرق آسيا وجنوبها وجنوب المحيط الهادئ والشرق الأوسط وشرقي إفريقيا. هذا حتّى الآن، ولا تزال اللائحة تكبر، فقد أعربت أكثر من 60 بلداً عن رغبتها بالمشاركة في «OBOR».
التوقيت مهم. فمع التراجع النسبي للغرب، والذي ليس مهتماً بكل تأكيد بمشاريع التنمية الضخمة، يقوم الحزام والطريق بملء الهوّة ويظهر نيّة الصين لتقديم «البضائع» للعالم. ليس الإيثار إلّا أمراً عملياً بالنسبة للصين التي تمدد عضلاتها الاقتصاديّة لتكسب نفوذاً سياسياً وجيواستراتيجياً أكبر. يوفّر الحزام والطريق أيضاً منفذاً لقدرات التصنيع الزائدة.
تدرك بكين المشاكل من جميع وجوهها. فالعديد من البلدان المشاركة هي غير متطورة لسبب ما، فهي إمّا تعاني من ضعف في البنية التحتيّة أو من حكم ضعيف أو من قوّة عاملة غير مدربة.
يمكن للظروف الجغرافيّة والظروف المناخيّة أن تكون قاسية، ويجعل تناثر السكان الحصول على زخم اقتصادي أمراً صعباً. ستشكّل ندرة في الأراضي الصالحة للزراعة في الكثير من بلدان الحزام والطريق، والمنطقة المتجمدة في أوروبا وسيبيريا حيث تخطط الصين إنشاء مرافق سكك حديد واتصالات لتحقيق الربط، تحدياً لأكثر المهندسين تصميماً. ويمكن للتداعيات السياسيّة أن تعلب دوراً أيضاً، حيث بات للشركات والعمّال الصينيين حضور أكبر أيضاً.
لكن للمرّة الأولى منذ زينغ، فإنّ الصين متجهة غرباً. ومثلما شكّل الأمر الموجّه لزينغ بوقف الإبحار نقطة تحوّل في التاريخ، فإنّ لدى الحزام والطريق الإمكانيّة ليكون نقطة تحوّل أخرى.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني