راهنية تشي غيفارا وأوضاع الشعوب العربية «الجزء الأول»
مرّت علينا في التاسع من أكتوبر المنصرم الذكرى السادسة والأربعون لاستشهاد إرنستو تشى غيفارا. وقد تابعت بالقدر المتاح ما كُتب بالعربية في هذه المناسبة، ولا شكّ أنه فاتني الكثير بحكم عيشي في الولايات المتحدة. وقد رأيت أن أقدم هذا البحث كمساهمة متواضعة، آملًا أن تفي ببعض الملامح البارزة لفكر تشى غيفارا، وبما لا يقل أهمية، التحديات التي يواجهها هذا الفكر في عالم اليوم.
لقد قسّمتُ البحث إلى أربعة أجزاء:
- يتضمن الأول مناقشة لراهنية تشى غيفارا وتصورًا لمدخل منهجي في دراسة فكره وإرثه.
- وفي الجزء الثاني حاولت رسم السمات العامة التي تميّز به فكر هذا الثائر الأممي.
- أما في الجزء الثالث، فقد استعرضت بعض التحديات التي يواجهها فكر غيفارا اليوم.
- وفي الجزء الأخير، حاولتُ أن أطرق الموضوع من منظور راهنية غيفارا في الأوضاع الإنسانية والعربية الراهنة، فاختتمت البحث بمناقشة لراهنية فكره وإرثه في الحالة العربية وفي ظل الأوضاع التي تعيشها شعوبنا.
(1)
غيفارا: حضور دائم… وحروب إمبريالية مستمرة
بعد ستة وأربعين عامًا على استشهاده في الأدغال البوليفية، لا يزال تشى غيفارا حاضرًا بفكره ورسالته وقدوته في قلوب الفقراء والمضطهدين والمظلومين في كافة أرجاء العالم. إلاّ أن الإمبريالية الأميركية في عنجهيتها ورعونتها لا تفوت فرصة لتؤكد أنها، وكعادتها، تقف فوق البشرية لتكون سيدة عليها وأنها (الولايات المتحدة) قد وُلدت في سياق منفردٍ ومختلفٍ وخارجٍ عن سياق الشعوب الأخرى. وهو ما نشاهده في تعاملها مع الآخر: شعوب العالم الأخرى وقيَمها وثقافاتها وتاريخها.
هكذا كان الأمر في تعاملها مع إرث تشى غيفارا على مدى العقود الماضية. ولا نذيع سرًا إذا قلنا أن ملاحقة الإمبريالية الأميركية لتشى غيفارا والحملة عليه، بجوانبها الإعلامية والعسكرية والاستخباراتية، كانت تقوم على مخطط واستهداف بَعيدَي المدى وعلى قناعة بأن غيفارا كان “مؤدلجًا” للشيوعية في الثورة الكوبية وما بعدها، والداعي بدون هوادة للثورة المسلحة ضد الإمبريالية في أميركا اللاتينية، والتي تعتبرها الولايات المتحدة “حظيرتها الخلفية”، والعالم الثالث بشكل عام. إلاّ أن هذه الحملة لم تتوقف باستشهاده، بل ما زالت تلاحق فكره وقدوته وإرثه.
وللتأكيد على ما نقوله، نسوق ما فعلته الإدارة الأميركية منذ بضعة أشهر. ففي تمّوز (يوليو) 2013، قرر برنامج “ذاكرة العالم” الذي يخلّد إرث الإنسانية والتابع لمنظمة اليونسكو في الأمم المتحدة، إغناء أرشيفه بإضافة أعمال وكتابات غيفارا. وعلى الفور، تصدّت الولايات المتحدة لهذا القرار، فأصدر سفيرها ديفيد كيليون بيانًا تعترض فيه حكومته على هذا القرار.[1] يقول البيان الأميركي إن تشى غيفارا شخصية خلافية مُثيرة للجدل، فقد دافع عن العنف ولم يعتذر عن أحكام الإعدام التي قامت بها الحكومة الثورية في كوبا بعد انتصار الثورة بغية تطهير البلاد من أعداء الثورة وعملاء الإمبريالية، مضيفًا بكل صلافة، أن مضمون كتاباته لا يتوافق مع قيَم اليونسكو والأمم المتحدة. ثم تابع البيان الأميركي قائلًا أنه لا ينبغي لبرنامج اليونسكو العالمي، الذي يلعب دورًا حاسمًا في صيانة التراث العالمي، أن يُستخدم كأداة لإضفاء الشرعية على العنف. فقد سلّط هذا البرنامج، وفق ما جاء في البيان، الضوء على الأهمية العالمية لكتابات إليانور روزفلت، فضلًا عن وثائق تتعلق بالهولولكست، وأرشيف وارسو للغيتو [اليهودي] ويوميات آن فرانك، وفي عام 2013، أضاف أرشيف “الخدمات الدولية للبحث عن المفقودين” ومحفوظات “مجموعة ياد فاشيم لجمع الشهادات”.[2] وأخيرًا طالب السفير الأميركي بعدم تسييس برنامج “ذاكرة العالم” إذا أردنا الحفاظ على أهميته ونزاهته، خاتمًا بدعوة اليونسكو إلى إعادة النظرفي إضافة إرث تشى غيفارا كي تقرر إذا ما كان يتوافق مع قواعد هذا البرنامج وقيّم منظمة الأمم المتحدة.
لا نورد هذا البيان بهدف مناقشة ما جاء فيه من أكاذيب وتفاهات، بل لنشير إلى أنه الأمر الوحيد المتوقع من زعيمة الإمبريالية حيال تشى غيفارا وغيره من الثوّار، وهو ذات الموقف الذي لم يتبدل منذ عام 1954 حين لمحت أجهزة الاستخبارات الأميركية بوادر نشاط غيفارا السياسي أثناء إقامته في غواتيمالا إبّان الغزو الأميركي الذي أطاح بالرئيس التقدمي خاكوبو آربنز عثمانJacobo Árbenz Guzmán. فكان هذا بداية استهداف غيفارا وملاحقته التي لم تتوقف حتى لحظة استشهاده.
في المقابل، نرى المنزلة الرفيعة التي يحتلها غيفارا بين الشعوب والأمم كثائر أممي ضحى بكل ما يملك من أجل الفقراء. ففي 17 حزيران 2013، عُقدت في هافانا ندوة لتخليد ذكرى ميلاد تشى غيفارا الخامس والثمانين، وهو العيد الذي لم تره عيناه. وكان من أبرز ما جاء في بحوثات هذه الندوة هو التأكيد على صحة وضرورة المشروع البديل والإنسان الجديد في رؤية تشى غيفارا.
يفضي بنا هذان المثالان المتناقضان إلى السؤال الأهم: كيف ينظر العالم والبشرية عامة إلى غيفارا وإرثه؟
-ففي أميركا اللاتينية، حيث تضرب الكاثوليكية جذورها العميقة في المجتمع والثقافة والتدين الشعبي، أصبح تشى غيفارا “قديسًا” يصلي له فلاحو بوليفيا حتى يومنا هذا. أما في كوبا، فما زال غيفارا ساكنًا عقول الكوبيين وقلوبهم وما زالت أقواله وأفعاله وصوره تملأ حياتهم، بل أصبح جزءًا من طقوس السنتريا Santería التي ما زالت مألوفة في كوبا.[3] وفي كوبا أيضًا، شهدنا في السنوات الأخيرة عودة المجتمع الكوبي لمناقشة أفكار غيفارا الثورية والتنموية والذي ترافق مع نشر أعماله الفكرية التي لم ترَ النور من قبل، وخصوصًا في مواضيع الاقتصاد والتنمية والسياسة والفلسفة.
أما في فنزويلا، فإن مبادرة “اشتراكية القرن الحادي والعشرين” تشكّل استمرارية وتعميقًا للعديد من الأفكار الأساسية لتشى غيفارا، بما فيها شعاره التاريخي “حتى النصر دائما”Hasta la Victoria Siempre الذي كان يردده دائما القائد الثوري الراحل أوغو شافيس.
- في عيون الشباب الثائر في أميركا اللاتينية، كما في عيون أحرار العالم، أصبح تشى غيفارا رمزًا للثورة والتمرد وحركات التغيير الاجتماعي والسياسي، وظلّ كما كان دومًا، رمزًا للثورة والتحرر وقدوة لكفاح الفقراء في العالم الثالث.
- أما بالنسبة للمجتمع الاستهلاكي في الغرب، والمسكون بالاستهلاك وسلعنة كل ما تقع عليه يداه، فقد أصبح غيفارا “سلعة” ومصدرًا للربح وعُلقت صوره وأيقونته على القمصان والقبعات بأشكال لا تُحصى ولا تُعد. ولعله من المفارقة أنه في كوبا أيضًا يتم استخدام صور غيفارا على القمصان والقبعات وميداليات المفاتيح وغيرها من التحف السياحية. ولا يخفى أن هذا يعود على الدولة وعلى باعة القطاع الخاص ببعض الدخل وبالعملة الصعبة، إلا أن الهدف منها سياسي ودعائي بشكل أساسي، ولا تُخفي بعض الأوساط الأكاديمية تخوفها من تحويل غيفارا الإنسان الثوري بكل ما يعنيه، إلى مجرد صورة أو أيقونة فارغة من أي مضمون جوهري.
لا نقصد من هذا العرض السريع لصورة غيفارا وقدوته بين الشعوب، أن هذه الكتلة الهائلة من سكّان المعمورة قد درست فكر غيفارا وأطروحاته، أو أنها تبنّت أساليب نضاله أو حتى جزءًا منها. فليس شرطًا أن تشاطر كل هذه الملايين غيفارا أفكاره وقناعاته أو حتى بعضها، إلاّ أنه ليس بمقدور مَنْ يدرس تاريخ الثورات والحركات التغييرية إنكار أن مسيرة هذا الثائر واستشهاده قد بات مثلا إلهامًا وقدوة للأجيال التي تتطلع إلى الحرية والتقدم، وهو ما يضفي على هذه الدراسة مشروعيتها وضرورتها.
مدخل منهجي: كيف نقرأ غيفارا؟
غيفارا و”نهاية” السرديات الكبرى
لعل المدخل السليم لاستشراف راهنية تشى غيفارا وفكره هو تناوله كواحدٍ من مفكري ومناضلي السرديات الكبرى والفكر الاجتماعي وروّاد التحوّلات التاريخية والاجتماعية الكبيرة (الحركات القومية والشيوعية والاشتراكية والتحرر الوطني وغيرها). فإذا طرقنا هذا النهج، فإننا سنلحظ بيسر أن الكثيرين من هؤلاء المفكرين والمناضلين يظلّون – بعد رحيلهم وبعد أن يكونوا قد أنجزوا مهام التغيير المنشود الذي ناضلوا من أجله أو قطعوا في ذلك شوطًا طويلًا – يظلّون قادرين على إلهام الأجيال الجديدة في رفض الواقع القائم والثورة عليه بغية تغييره وخلق الواقع الجديد، وهي عملية تتطلب بدورها طرح أسئلة البديل وصياغة مشاريع جديدة.
لذا رأينا أن نناقش راهنية غيفارا، كواحدة من المكونات الرئيسية لسرديات التغيير الاجتماعي، وذلك من خلال منظورين/سؤالين:
4) هل ذهبت هذه السرديات إلى غير رجعة كما يدّعي منظّرو الرأسمالية والإمبريالية، أم أننا نقف اليوم أمام بوادر وإرهاصات مرحلة جديدة تحمل في طيّها تحوّلات عميقة. وللإجابة على السؤال، فاننا تحتاج إلى وقفة تشخيصية للواقع الراهن.
ب) والسؤال الثاني: هل تغّير العالم في الجوهر إلى الحد الذي يجعل هذه السرديات غير صالحة وغير ضرورية، أي هل انتفت ضرورتها التاريخية في مواجهة إشكاليات المرحلة وحلولها وبدائلها؟
“نهاية” السرديات الكبرى
قد يؤدي تقادم الزمن والمتغيرات في أوضاع البشرية إلى تهميش بعض السرديات والأفكار أو بعض أبعادها، وقد يضحى بعضها مكررًا أو مملًا، وقد تعدو في عيون البعض أفكارًا صنمية من بقايا الماضي التي “عفا عليها الزمن”. إلاّ أن التاريخ لا يتوقف عند نهاية مرحلة أو بداية أخرى، وكذلك هو الأمر مع حراك الشعوب وتطور المجتمعات والفكر الاجتماعي، بل تتوالى حقبات جديدة تحمل احتياجات اجتماعية وإنسانية جديدة، فتظهر الحاجة لمراجعة تلك الأفكار والمفاهيم وإعادة النظر فيما إذا كان من الممكن الإفادة منها في ساحات النضال الراهنة وفي ظل الظروف المستجدة.
بيد أن هذه المراجعة أو القراءة المتجددة لا تنهض إلاّ على أيدي مفكرين ومناضلين جدد قادرين على توظيفها كأرضية فكرية وثورية وثقافية تتبلور في رحمها أفكارٌ جديدة تنتج مشاريع جديدة وتؤسس لقوى تضطلع بمهام المرحلة الجديدة. فلو استقرأنا التطورات الاجتماعية والسياسية في أجزاء كثيرة من العالم عبر العقدين الأخيرين، لظهرت لنا بوضوح صحة ما نقوله من عودة السرديات الكبرى في تأمل مستقبل الإنسانية: فقد شهدنا بوادر محاربة وحدانية القطبية الأميركية وهيمنتها، ومعاداة الرأسمالية والإمبريالية، والبحث عن البديل الاشتراكي وحتميته في رسم غدٍ أفضل وعالم أجمل. وما أقصده هنا هو أن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والإنسانية بشكل عام في مجتمعات ومناطق عديدة في العالم، وفي وطننا العربي بشكل خاص، أخذت تشهد إرهاصات وبوادر عودة الأفكار والمفاهيم الناقدة والثورية، وهي مرحلة قد تطول أو تقصر بناءً على عدة عوامل ليس هنا مجال الخوض فيها، غير أنه من المؤكد أن هذه الإرهاصات سوف تجد تعبيراتها السياسية والاجتماعية في برامج ومشاريع جديدة تحتضنها وتناضل في سبيلها حركات وأحزاب ومنظمات وجماهير شعبية عريضة.
حين تمرّ المجتمعات بتطورات عاصفة كالتي مرّ بها العالم في العقود الأخيرة وخصوصًا ما نشهده اليوم في البلدان العربية، تشتدّ الخشية في أن تأخذ هذه التطورات اتجاهًا مغايرًا أو مخالفًا للمسار المتوخى، أو تعرجات والتواءات معقدة. غير أن هذه التعرجات لا تعني أن مسار هذه المرحلة خاطئ أو غير صالح، أو أنه فقد راهنيته. فهذا هو عين الفهم المبتور لحركة التاريخ لأنه يخفي – عمدًا أو مصادفةً – حقيقة أنه طالما ظلت التناقضات محتدمة، فانها ستظل القوة الدافعة للتغيير والتاريخ والمحرك الرئيسي له، حتى وإن انحرف مسار عملية التغيير أو اجهضت إلى حين. فطالما ظلت التناقضات قائمة، فإن الصراع بين القوى التي تمثلها وتعبر عن مصالحها سوف يستمر حتى يتم حسمه.
أليس هذا ما نراه في الواقع الماثل أمامنا على المستويات المحلية والاقليمية والدولية؟
هل حقًا تغيّر العالم؟
حجج الرأسماليين والليبراليين والمرتدّين في محاربة الأفكار الثورية لا تتوقف ولا تنضب، ولكنها، وعلى نحو ممل، لا تخرج عن ركيزة أساسية محورها:
أن العالم قد تغيّر، كما أن أوضاع البشرية وظروفها الاجتماعية والاقتصادية قد تبدلت. ولهذا السبب، فإن الأفكار الثورية والتغييرية، مثل أفكار غيفارا، لم تعد قادرة على معالجة تحديات العصر والإجابة على أسئلته. فما كان صحيحًا في زمن غيفارا وسياق عصره (خمسينيات وستينيات القرن الماضي)، لم يعد صالحًا في الحاضر الراهن.
هكذا يدّعون.
وهذه، بالمناسبة، ذات الحجة التي تكررت في العقود الماضية ضد الاشتراكية والقومية والسرديات التغييرية الكبرى، وهو ما يقودنا إلى سؤال: أين تقف البشرية اليوم؟ وما هي الظروف التي تعيش في كنفها شعوبنا وشعوب العالم الثالث على وجه الخصوص؟ وكم هي مختلفة عن حقبة غيفارا إن كانت حقًا كذلك من حيث الجوهر؟ وهل هي أفضل من ظروف تلك الحقبة بحيث تنتفي الحاجة إلى الثورة والتغيير؟
الملفت أن مَن يدّعون أن العالم قد تغير وأن أفكار غيفارا وأسلوبه في النضال لم تعد صالحةً لزمننا الراهن، هم أنفسهم الذين لا يرون ويرفضون أن يروا، أن هذا العالم قد تغيّر ولكن في منحى مغاير ومعاكس لما يروّجون له. وهم يفعلون ذلك لسبب بسيط وواضح: كي يتسنى لهم الادعاء بأن سرديات التغيير قد انتهت إلى الهزيمة. فقد روّجوا بالأمس القريب لهزيمة الاشتراكية وزوالها إلى غير رجعة، وأن التاريخ قد قارب نهايته لتتربع الرأسمالية على عرش الإنسانية، وما شابه ذلك من تلفيقات وهلوسات تتنافى مع منطق التاريخ وحركته وقوانينه.
ما أقصده هو:
أولًا، إن العالم قد تغيّر في اتجاه معاكس لتمنياتهم ورغائبيتهم، وهو تغيّرٌ لا يريدون أن يعاينوه. فنحن نقف على عتبة مشهد للبشرية جديد، حيث ترقد وحدانية التسلط الأميركي على فراش الموت، فيما تتبرعم قوى وتحالفات وقطبيات ومعطيات (إقليمية ودولية) آخذة في الصعود والتأثير في مجريات العالم، لا السياسية فحسب، بل والأهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قبل السياسية.
ثانيًا، أن العالم، من حيث الجوهر، لم يتغير منذ زمن تشى غيفارا، بما يعين على إقناعنا بإفلاس أفكاره ومشروعه وهزيمة الثورة العالمية ضد الرأسمالية والإمبريالية، بل على العكس نرى أن أوضاع البشرية لم تتحسن إلا في بعض ظاهرها دون تغيير حقيقي ملموس في الظروف التي تعيش في كنفها الأغلبية السكانية في العالم. وهناك العديد من المؤشرات إلى أن هذه الأوضاع تتجه نحو الأسوأ وتقترب من الانفجار: فما زال الاستقطاب قائمًا ويزداد عمقًا بين الفقير والغني، والمستغِل والمستغَل، وما فتئت الفجوة تتسع بين مَن ينتج ولا يملك ما ينتجه، والآخر الذي لا ينتج ولكنه “يملك الدينا”؛ بين جائعٍ ومُتخم، بين عاملٍ يكاد لا يجد ما يسد رمقه، ومستهلكٍ لم يُبق لا الأخضر ولا اليابس.
ودون التقليل من أهمية ودور التطورات العديدة والعميقة التي حصلت في عالمنا منذ رحيل غيفارا على كافة الأصعدة (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، طبيعة النظام العالمي، هيمنة القطبية الإمبريالية والرأسمالية الأميركية، اندحار قوى المعسكر الاشتراكي، وكذلك على الأصعدة الثقافية والتكنولوجية)، فإن هذا الاستقطاب قائم اليوم كما كان في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في زمن غيفارا وذروة نضاله، وعلى نحوٍ أكثر عمقًا وفجاعة وكارثية. وما فتئت الفجوة تتسع بين أفراد وفئات وطبقات المجتمع الواحد وبين الشعوب والأمم. بعبارة أخرى، ومع الإدراك التام للتطورات التي ألمّت بالعالم منذ ذلك الحين، فان السؤال يظل قائمًا: هل تعيش شعوبنا اليوم ظروفًا أفضل؟ أم أنها ما زالت عاجزة عن الإيفاء بالحد الأدنى من احتياجاتها الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والروحية والإنسانية.
هذا هو بيت القَصيد.
وليس اتساع الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين الأفراد والطبقات، هو المظهر الوحيد في تدهور الأوضاع الذي أشرنا إليه، بل لا بدّ أن نضيف سببًا جذريًا لا يقل أهمية وهو غياب الحركات والأحزاب الثورية وغياب القادة وروّاد الفكر والمثقفين العضويين الذين يحملون لواء المقاومة والكفاح ضد الرأسمالية والإمبريالية. كيف لا والعولمة الرأسمالية تنضح بإفرازاتها السيئة فتنتج مثقفين على صورة أسيادهم يروّجون لسياساتهم الرأسمالية والإمبريالية المعادية لمصالح الشعوب، وتدمّر وعي الأجيال الناشئة وتنشر الإحباط في نفوسهم وتقتل فيهم روح الصمود والمقاومة، وتبشر بالفردانية والاستهلاكية والتطبيع مع طروحات وسياسات وقيّم العولمة الرأسمالية الغربية حتى جاز لنا القول بأنها حوّلت الثقافة والمثقفين إلى “مقبرة ثقافية” كما سمّاها الصديق المفكر أحمد حسين. فكيف، إذَن، لا ترغمنا هذه الأوضاع على العودة إلى قراءة متجددة لفكر الثورة والتغيير والنضال من أجل عالم أفضل؟ أليس في كل هذا ما يؤكد ويعزز من راهنية غيفارا في عالم اليوم؟
لو أخذنا، على سبيل المثال، البيئة المباشرة التي ناضل فيها غيفارا أي أميركا اللاتينية والكاريبي، لوجدنا أن معدل نمو الإنتاجية في تلك القارة والذي كان في زمن غيفارا مماثلًا لغيره من بلدان العالم، قد هبط منذ ذلك الزمن إلى مستويات أدنى من المناطق الأخرى في العالم، باستثناء البرازيل وتشيلى اللتين نجتا من الهبوط الاقتصادي. ولوجدنا، على وجه التعميم، أن شعوب أميركا اللاتينية ما زالت، بعد ما ينوف عن أربعة عقود من رحيل غيفارا، تكافح من أجل سيادتها وحريتها وتنميتها. وفي حين يلوم الكثيرون غيفارا وسياساته وأفكاره الاقتصادية لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في القارة اللاتينية، فإن السبب الرئيسي لهذا التدهور ليس سوى النهب الإمبريالي لثروات هذه الشعوب والسياسات النيوليبرالية التي طبختها واشنطن مع المؤسسات المالية الدولية التي تحتكم بأمرها (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها)، وهي ذات السياسات التي إتبعتها الإمبريالية الأميركية في أجزاء أخرى من العالم.
في خلاصة هذا الفقرة بمقدورنا أن نقول:
4) أن قراءة تجربة غيفارا يجب أن تأخذ بالاعتبار الأوضاع التي كانت سائدة آنذاك في كوبا وجوارها اللاتيني وفي إطار الظروف المحلية والدولية وطبيعة النظام العالمي.
2) يجب النظر إلى تجربة غيفارا كتجربة مميزة في القرن العشرين جمعت بين الرؤية والمشروع، وبين الأهداف والوسائل. وعلى الرغم من ضرورة مراجعة الوسائل والأساليب التي اعتمدت في حقبة زمنية مختلفة وظروفٍ محلية ودولية لم تعد قائمة، فإن الواقع الراهن يؤكد ضرورة الثبات على الأهداف وعدم التراجع عنها. فالأهداف التي عمل من أجلها غيفارا (محليًا وأمميًا) ما زالت صالحة للحاضر وللمستقبل. وعليه، تبقى العبرة الأساسية لتجربة غيفارا، والتي ظلت حاضرة بثبات وإصرار عبر حياته القصيرة، أن الضرورة الموضوعية والتاريخية ما زالت قائمة وملحة في النضال من أجل العدالة الاجتماعية وبناء الاشتراكية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية ورفع الظلم والفقر عن أغلبية الشعوب وطبقاتها الشعبية.
وجدير بالذكر أن المرحلة الجديدة في العلاقات الدولية وتحسن موازين القوى عسكريًا بالتحديد، دون إغفال الميزان الاقتصادي الذي أخذ يميل باتجاه معاكس للاقتصاد الإمبريالي الأميركي، يوفر البيئة اللازمة لتجذير وسائل وأساليب النضال الثوري بما فيها الكفاح المسلح حيثما تتوفر له المقومات الأساسية. فالإمبريالية والبرجوازية عمومًا لا تسقط من تلقاء نفسها، بل يجب وبالضرورة إسقاطها بالقوة. وأعتقد أن فرملة العدوان العسكري الإمبريالي على سورية، يوفر الأرضية اللازمة لخلق أكثر من فيتنام واحدة على طريق إلحاق الهزيمة بالهيمنة الامريكية على أكثرية العالم.
3) ضرورة اعتماد الرؤية الشمولية في دراسة فكر غيفارا ومشروعه وتجنب الحكم عليها من خلال جزئيات مفككة ومنعزلة عن بعضها البعض.
4) بالرغم من أن تجربة تشى غيفارا الفكرية والثورية تتميز بشموليتها وخصوبتها وتعدد جوانبها، فإنه من الواضح أن تشى غيفارا لم يكمل تجربته ولم يتمكن من أن يُنضج نظريته وطروحاته، بسبب استشهاده المبكر (عن عمر تسعة وثلاثين عامًا) وقبل أن يصل ذروة عطائه وإنتاجه ونضوجه.
المصدر: مجلة “كنعان” الفصلية، العدد 155، شتاء 2014