رسائل إلى المقاومة الفلسطينية
كتب غسان كنفاني دراسته “عن المقاومة ومعضلاتها” وسلسلة من المقالات السياسية حول ما أسماه “وحدة الكفاح المسلح ” وغيرها في شؤون المقاومة الفلسطينية فجاءت كتابة ناقدة في إطار حوارًا يوميًا متصلاً مع الذات الفلسطينية المقاتلة، مع مقاومة وليدة وجديدة تتلمس طريقها، وكان الكاتب ينتمي إليها طوعاً وهو الذي ظل يبشر بالسلاح في فترات سابقة.
إن نقد المقاومة المسلحة وقيادتها وسلوكها بالنسبة لغسان كنفاني جاء حرصًا على ما مشروع الخلاص الجماعي الذي ظل يؤمن بضرورته وفاعليته القصوى: الرجال والسلاح.
ولكن هذا لم يمنعه من ممارسة النقد الثوري من داخل أطر المقاومة نفسها، فالحوار النقدي هدفه في المحصلة الأخيرة الارتقاء بمستوى الأدوات والقدرات والهياكل التنظيمية للمقاومة من جهة، وبنفس القدر ومعه، الارتقاء بمستوى الخطاب السياسي والاعلامي والثقافي، فلا انفصال بينهما، بين القوة “الصلبة ” وبين القوة ” الناعمة ” سواء في الدول أو في حركات التحرر، انها قوة واحدة وكامنة في جسم واحد. قوة تصنعها الجماهير الشعبية، البحر الذي تسبح فيه المقاومة.
إن رأس المقاومة (عقلها) يجب ألا ينفصل عن ذراعيها، فالوعي هو البوصلة ومن يرشد السلاح وليس العكس. إن الحقيقة والسلطة كلها، بالنسبة لغسان كنفاني حق للجماهير المعذبة والمناضلة.
المقاومة اليوم:
حققت المقاومة الفلسطينية في فلسطين المحتلة، في قطاع غزة تحديدًا، حزمة من الإنجازات الاستراتيجية المهمة خلال السنوات العشر الأخيرة.
وتحديدًا بعد حسم الأوضاع الميدانية في القطاع المحاصر، وحسم موازين القوى المحلية لصالح تيار المقاومة وتحجيم التيار الأوسلوي الخياني وعزله، تيار المساومة والتنسيق الأمني في الحركة الوطنية.
أي بعد حشر اليمين الفلسطيني المهزوم الذي مثلته قيادة حركة فتح، وفشل هذا التيار في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني وقد أصبح في الزاوية تماماً.
من الطبيعي إذن أن نشهد حالة متسارعة في تطور القدرات التسليحية والأمنية للمقاومة الفلسطينية في غزة حيث تبني المقاومة الفلسطينية قوتها واذرعها على أرض صلبة وشبه محررة، وتتحرك فيها قوى المقاوم بسهولة أكبر وفي حرية لا تقارن مع أي منطقة أخرى سواء في فلسطين المحتلة أو في دول الشتات.
وحازت المقاومة الفلسطينية المسلحة على ثقة متزايدة وعلى احترام أكبر من الجماهير الفلسطينية والعربية والتفاف الكتلة الشعبية الفلسطينية الكبيرة داخل وخارج الوطن المحتل حول مشروعها.
وما يجب أن يبقى ماثلاً في الذهن، دائماً، هو أن هذ الانجازات كلها لم تأتِ مجاناً، فالثمن الكبير مقابل هذه المكاسب دفعته جماهير غزة من قوتها وحياتها وتضحياتها، فهي الصانعة الحقيقية لها.
لم تهبط هذه المكاسب من السماء هذه انجازات صنعتها الطبقات الشعبية الكادحة بالكد والدم، صنعها صيادين ومزارعين وعمال ومعلمين وأطباء ومهندسين وطلبة ومن فئات المجتمع العاملة المنتجة التي وفرت ركائز الصمود، مع وإلى جانب كتائب وسرايا وألوية الفدائيين ومن يحمل السلاح ويقاتل ويطور قدرات المقاومة التسليحية والأمنية والاعلامية.
ليس سرًا القول أن غزة باتت اليوم قوة وطليعة للشعب الفلسطيني، في غزة مقاومة جادة تصنع السلاح (الصواريخ والطائرات المسيرة و الهاون وغيرها من أسلحة تحتاجها) وتمشي على خطى المقاومة اللبنانية التي راكمت من التجربة العسكرية والأمنية والميدانية ما يستحق التأمل والدراسة والإفادة منه وليس بالضرورة تقليده دائما .
إن خصوصية المقاومة الفلسطينية ومشروعها الوطني التحرري لا ينفي أبداً أنها تنتمي إلى معسكر واحد في المنطقة يقاتل عدو واحد معسكر يبدأ من القدس إلى دمشق وبيروت وصولاً إلى بغداد وصنعاء وطهران فيه تباين في بعض المواقف وفروقات وخلافات في بعض المواقع إلا أن الحقيقة هي أننا إزاء عدو واحد هذه المصلحة المشتركة والعلاقات الداخلية في اطار معسكر واحد يجب أن يسعى الكل إلى تعزيزها والحرص عليها.
الرسالة الأولى: وحدة المقاومة … وحدة سلاحها
وحدة كافة القوى الفلسطينية على اختلاف مشاربها وتياراتها والمزيد من التلاحم والوحدة الميدانية. هذا يعني الانتقال التدريجي من تجربة مثلتها ” الغرفة المشتركة للمقاومة ” إلى تشكيل وحيز أوسع عنوانه ” جبهة المقاومة الوطنية الموحدة ” أي نواة جبهة التحرير/ جيش التحرير الفلسطيني.
ومن الطبيعي اليوم أن تقوم كتائب القسام وسرايا القدس بدور المبادر والقيادي في تشكيل جبهة المقاومة الفلسطينية في فلسطين/ غزة بسبب ما تملكه من قدرات أكبر.
هذه الحقيقة يجب ألا تمنع بقية القوى الوطنية المسلحة من تطوير وتحفيز دورها والارتقاء بمستوى فعاليتها في إطار جبهة المقاومة الوطنية الموحدة.
إن هذه الجبهة الموحدة أصبحت مطلباً شعبيًا فلسطينيًا وعربيًا، هناك أغلبية فلسطينية ساحقة تأمل وتدعو إلى تاسيس مثل هذه الجبهة المسلحة التي تعزز القدرة العسكرية الفلسطينية وتطور من القدرات الذاتية للمقاومة وتنسق وترشد فعلها الميداني والكفاحي والأمني تحت إشراف قيادة مركزية موحدة وموثوقة تملك الى جانب التجربة العملية الوعي والكفاءة.
وما قاله الأخ يحي السنوار قائد حركة حماس في غزة حين ألقى خطاب النصر بخان يونس” أنها المرة الأولى في تاريخ الصراع مع العدو التي يقاتل فيها 13 فصيلاً مسلحاً في إطار غرفة عمليات مشتركة واحدة ” هو عين الحقيقة، ولا يستطيع أحد انكار هذه الحقيقة، هذا انجاز لشعبنا في غزة يجب البناء عليه ووضع مداميك جديدة قوية في صرح المقاومة لتحصين قلعتها وسياجها في القطاع الثائر.
الرسالة الثانية: القطع مع مرحلة وسلطة أوسلو
القطع الكامل مع مشروع أوسلو ومع سلطته الوكيلة للاحتلال في رام الله. إن هذه السلطة التي تأسست قبل ربع قرن تلفظ أنفاسها الأخيرة اليوم.
إنها نقيض وخصم لشعبنا وحقوقه ومقاومته المسلحة، ولا يمكن أن تكون السلطة شريكة أو جزء من مشروع تحرري وطني و ديمقراطي، فلا يلتقي سياق حركات التحرر مع سياق المساومة والتفريط واصحاب مشروع الحكم الذاتي.
لا يمكن الجمع بين نقيضين وخصمين لكل منهما أهدافه ومشروعه النقيض أبو مازن وفريقه وكلاء للاحتلال، وإن أحد أهم أولويات ومهام قوى المقاومة الفلسطينية اليوم يكمن في عزل سلطة أوسلو جماهيرياً على طريق اسقاطها.
هذا يعني ضرورة التدقيق مرة أخرى في الشعارات الكثيرة الفارغة التي لم تعد ” تطعم الخبز ” كـ “المصالحة الوطنية ” وغيرها من شعارات ويافطات فاشلة باتت تحتاج إلى إعادة تدقيق وفحص على الأقل. فالمطلوب اليوم هو وحدة الشعب الفلسطيني أولاً، ووحدة مقاومته المسلحة والشعبية ثانياً، وليس وحدة النقائض بالقوة.
إن الحد الأقصى الذي يمكن أن يصل إليه تيار أوسلو اليوم هو الحديث عن نصف دولة منزوعة الإرادة في الضفة المحتلة، جوهرها اسوأ من برنامج روابط القرى العميلة سئ الصيت والسمعة على ماذا تلتقي مقاومة تريد تحرير فلسطين مع تيار الوكلاء للاحتلال ومخاتير سلطة رام الله؟
الرسالة الثالثة: إعادة الاعتبار للحركة الأسيرة ولدورها في الشأن الوطني العام
إن تهميش الدور السياسي للحركة الأسيرة الفلسطينية في سجون العدو يساهم في تشويه جوهر النضال التحرري الفلسطيني ويعزل، دونما قصد أحياناً، الحركة الأسيرة ويمنعها من لعب الدور القيادي، الأخلاقي والسياسي والرمزي، هذا الأمر أفقد المقاومة الفلسطينية قوة إضافية كبيرة جرى تبديدها طوال السنوات العشرين الماضية.
هناك قيادة وطنية فلسطينية مؤتمنة ومحترمة تحوز على ثقة شعبنا كله وعلى دعمه ومساندته موجودة في سجون العدو. إن وجود هؤلاء القادة والمناضلين والمناضلات والكتاب والمثقفين الثوريين في السجون يجب أن يشكل رافدًا أساسيا وقياديًا للمقاومة وألا يعني مصادرة لدورهم السياسي أو اعتبارهم خارج ساحة العمل اليومي وإدارة جزء أساسي من شؤون المقاومة، هذا في الواقع إنما يحقق أمنيات وأهداف العدو المتمثلة اساساً في عزلهم عن جماهير شعبنا وقضاياه اليومية. للحركة الأسيرة دور أكبر بكثير من مجرد ” حالة رمزية ” يجري استحضارها على عجل أو في ختام بياناتنا السياسية.
إن توفير ومنح المزيد من “الصلاحيات” ومن الدور القيادي للحركة الأسيرة هو حق للحركة الأسيرة ويساعد المقاومة المسلحة في إبراز وتجديد حالة وطنية زخمة تستعيد من خلالها الحركة الأسيرة (النواة الصلبة للمقاومة) تستعيد دورها وموقعها الطبيعي في إطار عملية التحرر من الاستعمار الصهيوني.
وعليه، تصبح مهمة استعادة هذا الدور مهمة الكل الوطني مهمة وطنية لا تحتمل التأجيل والتسويف كما تصبح “مسيرات الحرية والعودة” إضافة جديدة وشعارات سياسية ونضالية ناظمة للفعل الجماهيري والميداني والسياسي الذي من شانها ان توحد كل الشعب وليس مجرد شعارات معلقة في الهواء بينما الميدان فارغ، والشوارع تشبه جداول بلا ماء ولا حياة.
على قوى المقاومة الفلسطينية أن تلتقط الاشارات والرسائل الشعبية التي تعبر عنها جماهير شعبنا بشكل عفوي والتي جسدتها مسيرات العودة وكسر الحصار وهذا الالتفاف الواسع حولها والاعتزاز بالمقاومة ودورها في حماية القضية والحقوق من خطر التصفية.
فالمقاومة هي الشرعية الوحيدة الباقية وكل ما عدا ذلك مجرد يافاطات باهتة وشرعيات زائفة تتغير وتتبدل كما يتغير ويتبدل الطقس.