لماذا ليس هناك أزمة إفراط في الإنتاج في الاشتراكية؟
تراجعت الاشتراكية على مساحات عدة من الكرة الأرضية في النصف الثاني من القرن الماضي. وحيث لا تزال قائمة فقد خضعت الأنظمة الاقتصادية لكمية كبيرة من التعديلات. ولهذا ليس بالمستغرب أن تكون الأنظمة الاشتراكية القديمة عرضة للكثير من تشويه السمعة هذه الأيام. ففي حين أنّ الرأسمالية قد ساهمت بشكل مفهوم بتعزيز تشويه السمعة هذا، فقد بقي اليسار المعادي للرأسمالية في حالة صدمة منعته من التصدي لهذا التشويه كما ينبغي.
تعريب وإعداد: عروة درويش
لقد عانت الأنظمة الاشتراكية القديمة من مشاكل جوهرية دون شك، وغالبها عبّرت عن نفسها بعدم تسييس الطبقة العاملة التي كان يفترض بها أن تمثّل دكتاتوريتها الطبقية. لكن يجب علينا في ذات الوقت ألّا ننسى بأنّها خلقت نظاماً اقتصادياً لم يشهد التاريخ مثله من حيث اهتمامه بالبشر العاملين.
ويصبح هذا جليّاً عندما نسأل سؤالاً بسيطاً: لماذا لم تعاني الأنظمة الاشتراكية القديمة من أزمة الإفراط في الإنتاج التي تعدّ سمة ثابتة في الرأسمالية؟ ومهما حاول الرأسماليون تخفيف الأمر، فممّا لا يمكن نكرانه أنّ النظام الرأسمالي عرضة لأزمات دورية «من الإنتاج المفرط العام»، حيث يوجد حشود من العاطلين عن العمل ومن غير المستخدمة قوتهم في ذات الوقت بسبب عدم وجود طلبٍ إجماليّ كافٍ لتشغيلهم. في الواقع وفي الفترة منذ عام 2008 حيث ضربت الأزمة الاقتصاد العالمي بشكل كلي، شهد العالم أزمات إفراط في الإنتاج دائمة. كيف إذاً لماذا لم تعاني الأنظمة الاشتراكية القديمة من مثل هذه الأزمات، وكيف استطاعت تدبر أمر الإبقاء على التشغيل الكامل الدائم، وذلك وفقاً لأكبر منتقديها من أمثال الاقتصادي الهنغاري يانوس كورناي؟
ستكون الإجابة المباشرة لهذا السؤال أنّ اقتصاداتها كانت مخططة وليست مدفوعة بالسوق، وأنّها بالتالي لم تكن عرضة «لعفوية» السوق. لكن على المرء أن يذهب أبعد من هذه الإجابة ويتساءل: ما الذي فعله التخطيط تحديداً لضمان عدم حدوث أزمة إفراط في الإنتاج قادرة على تقويض التشغيل الكامل في تلك الاقتصادات؟
تعاني الاقتصادات الرأسمالية من أزمات إفراط في الإنتاج لأنّ الاستثمار داخل النظام، بمعنى الإضافة إلى الأسهم الرأسمالية الحسيّة، يعتمد على ما إذا كان الرأسماليون يتوقعون أن تُكسبهم هذه الإضافة نسب ربح ملائمة. إنّهم يضعون القدر اللازم من الاستثمار الذي يعتقدون بأنّه سيجلب لهم نسب الربح المطلوبة. لكن إن كان مقدار الاستثمار أقل من سعة المخرجات الكاملة غير المستهلكة، في لحظة توزيع الإيرادات المعينة بين الأجور والأرباح، عندها إن كان الاقتصاد ينتج هذه المُخرَجات فلن يكون هناك طلب فاعل عليها. وبما أنّ هناك ميلاً مطلقاً لعدم إنتاج أيّ شيء غير مطلوب في الاقتصاد الرأسمالي، فسينزلق الاقتصاد إلى ما دون كميّة الإنتاج الكاملة.
لكن عندما نصل لهذه المرحلة فسينزلق كذلك الطلب على الاستهلاك إلى ما دون سعة المخرجات الكاملة في لحظة توزيع الإيرادات، ولهذا سيكون هناك سقوط مستمر في المخرجات وسيستمرّ هذا الأمر حتّى يستقر الاقتصاد في مرحلة ما عند ما دون سعة المخرجات الكاملة، وهي المرحلة التي يكون أيّ شيء يتم إنتاجه فيها هو تحت الطلب للاستهلاك والاستثمار. وفي هذه المرحلة ستوجدان معاً كلا الحشود العاطلة عن العمل والسعة غير المستخدمة.
يمكننا جعل الأمر أكثر وضوحاً عبر مثال: لنفترض بأنّ سعة المخرجات هي 100، وبأنّ مخرجات الاقتصاد دوماً ما تقسم بين الأجور والأرباح بنسبة 60/40. لنفترض بأنّ الأجور يتم استهلاكها بينما لا يتمّ استهلاك أيّ جزء من الأرباح (افتراضات تبسيطيّة). فإذا تمّ إنتاج كامل سعة المخرجات، فسيكون الاستهلاك 60، وسيتم طلب هذه المخرجات فقط في حال كان الاستثمار 40 (وذلك من أجل طلب كلي مؤلف من الاستهلاك + الاستثمار). لكن إن أراد الرأسماليون أن يستثمروا بشكل كلي 20 فقط، لأنّهم يتوقعون بأنّ أيّ استثمار أكبر من 20 لن يجلب لهم نسب الربح التي يعتبرونها ملائمة، فحينها سيصبح الطلب الإجمالي هو 80 عندما تكون سعة المخرجات كاملة (60+20)، وهو ما سيكون أقل من سعة المخرجات كاملة بذاتها وهي 100. سينزلق الاقتصاد في هذه الحالة إلى ما دون سعة المخرجات الكاملة وسيستقر عند إنتاج 50 فقط، حيث سيكون الاستهلاك 30 فقط، والذي سيساوي عند جمعه مع الاستثمار المخرجات 50. بكلمات أخرى سيكون هناك أزمة إفراط في الإنتاج سيتتبعها سعة غير مستخدمة نسبتها 50%.
لكن لنفترض بأنّ السعة الكاملة للاقتصاد 100 قد تمّ إنتاجها، وعندما كان الاستثمار 20 تمّ رفع الاستهلاك إلى 80 من الـ 60 الأصلية. لن نشهد عندها عجزاً في الطلب الإجمالي وبالتالي لا سبب لوقوع أزمة فرط في الإنتاج. لكنّ رفع الاستهلاك من 20 إلى 80 في ظلّ سعة مخرجات كاملة سيعني رفع حصّة الأجور من 60% إلى 80% (بما أنّ جميع الأجور والأجور فقط هي التي يتم استهلاكها). يعني هذا بأنّه لن تحصل أبداً أيّ أزمة إفراط في الإنتاج إن أمكن تعديل حصّة الأجور صعوداً، ويعني أيضاً بأنّ الاقتصاد الرأسمالي يعاني من أزمات إنتاج مفرط فقط لأنّ الرأسماليين يرفضون بعناد أن يرفعوا الأجور الحقيقية من أجل تفادي وقوع الأزمة.
ويجب أن نلاحظ بأنّه حال حدوث أزمة فرط إنتاج وأصبحت المخرجات 50 فقط، فستكون نسبة الأرباح من هذه المخرجات 20. لكن إن تمّ تجنب وقوع الأزمة عبر رفع الأجور إلى 80 من أصل كامل سعة المخرجات 100، فستبقى الأرباح عندها 20، وهذا يعني بأنّ تجنّب أزمة فرط الإنتاج عبر رفع الأجور وبالتالي رفع طلب الاستهلاك، لن يؤذي الأرباح مقدار ذرّة. ورغم ذلك يرفض الرأسماليون بثبات أن يسمحوا بمثل هذه الزيادة في الأجور، ويعود ذلك لكون الرأسمالية نظاماً عدائياً: تظهر العدائية في طبيعة النظام الرأسمالي لأنّه يرفض رفع الأجور حتّى عندما لا يؤدي ذلك إلى تقليل الأرباح. إنّ السبب في ذلك هو الخوف من تقوية العمّال. إنّ النظام الرأسمالي باختصار يعتمد في وجوده على العدائية. في الواقع جميع المجتمعات البشرية التي تميزت بالعداء الطبقي كانت عدائية بهذا المعنى الجوهري الوجودي.
ولهذا لم تكن الدول الاشتراكية القديمة عدائية بهذا المعنى، ولهذا لم تعاني يوماً من أزمات فرط في الإنتاج. فحيث كان هناك عجز في الطلب الإجمالي عند سعة مخرجات كاملة سببه أنّ القرارات الاستثمارية في المؤسسات الاشتراكية قد أضافت فقط 20 (لا يهم في هذا السياق كيف تمّ اتخاذ مثل هكذا قرار) من أصل سعة المخرجات الكاملة 100، حيث كان التوزيع الأساسي لحصّة الأجور من الإيرادات هو 60، ففي مثل هكذا اقتصاد يتم ببساطة رفع حصّة الأجور إلى 80 لمنع حدوث العجز. (بكلمات أخرى، لم يكن يسمح للعجز السابق في الطلب الإجمالي أن يتحول إلى عجز حال في الطلب الإجمالي لأنّه كان يتم دوماً تعديل حصّة الأجور صعوداً حتّى الوصول إلى الدرجة المطلوبة).
وقد كان أسلوب التعديل بسيطاً أيضاً، وتحديداً عبر انخفاض الأسعار أثناء الإبقاء على الأجور النقدية دون تغيير. ففي اقتصاد اشتراكي يستمر إنتاج المخرجات بسعة كاملة، لكن يتم تعديل الأسعار لفسح المجال في السوق بحيث تكون المخرجات دوماً مطلوبة: فمع انخفاض الأسعار واستمرار منح ذات الأجور النقدية، تزداد القيمة الحقيقية للأجور ويزداد معها الاستهلاك، ويزداد بذلك الطلب الإجمالي ويرتفع، وبالتالي تنخفض الأسعار للمستوى الذي يكون فيه الطلب عند 100. ولهذا فإنّ الاقتصاد الاشتراكي يبقي دوماً على سعة مخرجات كاملة عبر السماح للأجور الفعلية، ومعه الطلب على الاستهلاك، بالتأقلم ليصبح الطب تماماً عند 100.
وهذا يظهر لنا بأنّ الكلمات المبتذلة حول مرونة الاقتصاد الرأسمالي وجمود الاقتصاد الاشتراكي المخطط ما هي إلّا لغو يفتقر لأدنى مقومات الصحّة. لا بدّ أن يجلب المشروع الاشتراكي الجديد معه طرقاً جديدة لتشغيل الاقتصادات الاشتراكية في المستقبل، لكن هذا لا بدّ أن يشمل سمتين على الأقل من سمات الاشتراكية القديمة: الأولى هي التشغيل الكامل، والثانية هي تفادي أزمات الإفراط في الإنتاج. وهما الأمران اللذان لم يستطع ولا اقتصاد رأسمالي أن يحققهما ولن يستطيع كذلك تحقيقهما في أيّ وقت.