بولندا تلعب بالنار
في ظلّ التراجع الأمريكي العالمي، وتناقض المصالح المتصاعد بين الولايات المتحدة وحلفاءها الأوربيين والذي طفا مؤخراً بشدّة على السطح، تحاول الحكومة البولندية التي لا ترغب بشكل مفهوم أن تنصاع لقرارات بروكسل من جهة وتخشى جارتها موسكو بناء على معطيات خيالية من جهة أخرى، أن تستفيد من الخلافات الأمريكية-الأوربية بشكل رئيسي (مع ألمانيا خصوصاً) والتوتر الأمريكي-الروسي بشكل ثانوي. لكنّ حليفتها واشنطن لن تكون قادرة على توفير الدعم الذي تأمل به وهذا سيجعل تحركاتها مجرد لعب بالنار قد ينقلب عليها وبالاً في أيّ لحظة.
تشعر وارسو بأنّ الاتحاد الأوربي يحاول خنقها وتحتدّ الخلافات بينهما منذ العام الماضي على إثر قيام بروكسل بتهديد بولندا بعد قيامها بتعديل سياسات الهجرة لديها والتدخل في مسائل دستورية داخلية. وتأخذ الاختناقات الاجتماعية التي أدّت إلى التطورات الجديدة في بولندا وفي أوروبا الشرقية عموماً شكل «اليمين المسيحي» الذي يخشى أن تؤدي الهجرة إلى «أسلمة» المنطقة، وهو الاتجاه الذي بات يحمل اسم «إعادة إحياء المسيحية في مرحلة ما بعد الشيوعية».
وتبدأ لعبة المحاباة بين وارسو وواشنطن باتخاذ بولندا موقفاً مغايراً لشركائها في الاتحاد الأوربي بما يخص العقوبات على إيران، ففي حين أنّ بلدان أوروبا تحاول إيجاد صيغة لا تجبرها على المواجهة مع واشنطن بعد انسـحاب الأخيرة من الاتفاق النووي والتي هددت بفرض عقوبات على الشركات الأوربية التي تتعامل مع إيران، تطالب وارسو بتشديد العقوبات على إيران.
ولا يقتصر الأمر على هذا الحد، فقد عرضت بولندا على الأمريكيين إنشاء قاعدة متقدمة لهم في بولندا. وهذا الأمر إن تم فسيكون بمثابة لفّ حبل مشنقة حول عنق البولنديين. فالروس الذين لا يحملون أيّ نوايا عدائية تجاه بولندا سينظرون إلى هكذا قاعدة كخطوة عدائية موجهة بشكل مباشر ضدهم، وقد حذرت موسكو من أنّ بناء قاعدة دائمة في بولندا سيعدّ خرقاً «للقانون التأسيسي» لعام 1997 الموقّع بين الناتو وروسيا الاتحادية في باريس والذي ينص: «على ضوء البيئة الأمنية الحالية والمتوقعة، سيقوم التحالف بمهامه الدفاعية الجماعية وغيرها من المهام عبر ضمان تنفيذ العمل المشترك والتكاملي الضروري والقادر على تعزيز الدفاع، وذلك عوضاً عن مركزة القوات القتالية الأساسية بشكل دائم». وقد راوغ الناتو بالفعل في هذه المسألة عندما أدعى بأنّ القوات في بولندا ودول البلطيق ليست لا «أساسية» ولا «دائمة».
لكن الحقيقة التي تحاول النخب البولندية تفادي ذكرها هي أنّه ما لم ينوون حمل بلادهم والتحليق بها في الهواء ووضعها في المحيط أو في أيّ مكان آخر، فإنّها ستبقى محكومة بجيرة روسيا من طرف وألمانيا من طرف آخر. هذا الترتيب الجغرافي لن يتغير في القريب العاجل، وسيكون على البولنديين أن يختاروا إمّا أن يعيشوا في سلام مع جيرانهم أو أن يكونوا في عداء معهم ويصبحوا أرضاً تستغلها واشنطن لتوتير المنطقة. ولا نحتاج للقول بأنّ واشنطن ستكون أكثر من مسرورة إن هي استخدمت بولندا كعصا تهديدية في وجه منافسيها، وهذا إن كان يخدم مصالح نخب واشنطن بشكل آني، فهو لا يخدم ولا بأيّ شكل مصالح البولنديين. فإن كنّا خياليين قليلاً وجارينا بعض النخب البولندية وافترضنا حصول سيناريو تدميري باندلاع حرب كبرى، فهل ستكون القوات الأمريكية قادرة على حماية بولندا عسكرياً؟ لن تكون لها أيّ قيمة ولكنّها ستحوّل بولندا إلى أحد الأهداف الرئيسية للروس وحلفائهم.
لكن يبقى الأمل بأنّ البولنديين الذين أجبروا النخب المنصاعة لتبجح الاتحاد الأوروبي على التراجع في الفترة الماضية، سيكونون أنفسهم قادرين على إجبارهم من جديد على التراجع في سبيل تحقيق المصالح الشعبية التي سينفعها التكامل مع ألمانيا وروسيا والعملاق الصاعد الصين في وجه القوى الحاكمة في واشنطن. إنّ «مبادرة البحار الثلاثة» التي أشاد بها ترامب خلال زيارته العام الماضي إلى وارسو لم تكن أكثر من تحمية لما يحصل من محاولة عزل روسيا التي أريد لبولندا أن يكون لها دور بها.