هل تتجاهل مصر مخاطر الدين العام
كان قرار تأميم قناة السويس بهدف تمويل بناء السد العالى، فكرة خارجة عن المألوف بكل المعايير. وهو قرار سليم على المدى البعيد وإن جر على مصر حربا من ثلاث دول، منها اثنتان عظميان. بسبب هذا النوع من العواقب غير المأمونة، يتوجس صانع القرار الاقتصادى من سماع كلمة «خارج الصندوق».
فهى عادة اقتراحات غير تقليدية، لا توجد تجارب دولية سابقة تسندها، وإن وجدت فهى ليست دائما ناجحة. هى أفكار غير مأمونة العواقب ولذلك من الصعب إقناع الأطراف المعنية بها.
ومن تلك الأفكار أخيرا، اقتراح بتخفيض الدين الحكومى. حيث طالب تقرير البرلمان عن خطة وموازنة العام ٢٠١٨ ــ ٢٠١٩
بـ«ضرورة دراسة أساليب جديدة لخفض عجز الموازنة وكذلك خفض نسبة الدين العام المحلى وفوائد تمويله. وهنا تكرر اللجنة اقتراحها السابق والذى يقضى بإمكانية استبدال جزء من الدين العام المستحق للبنوك الحكومية بملكية أسهم فى المشروعات القومية الجديدة، مما يساعد على خفض شرائح الدين الحكومى، وبالتالى خفض فوائد تمويله. يحقق ملكية البنوك الحكومية الكبرى لجزء من أسهم المشروعات الجديدة مما يشجع على سرعة وتسهيل إجراءات الطرح العام لباقى أسهم هذه المشروعات على جمهور المستثمرين ويرفع مستويات الكفاءة والفاعلية لهذه المشروعات القومية الجديدة».
يوصى التقرير الحكومة بدراسة هذا الاقتراح خلال الأشهر الستة القادمة. فهل هو جدير بالدراسة كما يأمل نواب الشعب؟
لا يأخذ الفطين وقتا كى يعرف أن الحكومة سوف تقطع بعدم جدوى هذا المقترح.
أولا: لأن حجم الدين العام أكبر كثيرا من حجم المشروعات القومية. فنحن نتحدث عن نقطة فى بحر. فالدين العام يقوم بالتريليونات من الجنيهات (أى ملايين الملايين، رقم به ١٢ عشر صفرا) . فى حين لا تتجاوز المشروعات القومية الجديدة نسبة ضئيلة لا تتعدى الآحاد فى المائة من تلك القيمة.
ثانيا: لقد ولى عصر عمل البنوك الحكومية بالأوامر الإدارية، وهو ما ورطها فى أزمات مالية كبرى (لم تنج منها سوى بقروض خارجية وعمليات إسقاط ديون باهظة التكلفة). وهنا، من الأجدى إقناع كل البنوك والمؤسسات من خلال اللجوء لخبراء ومستشارى الطرح، والفحص النافى للجهالة ونشرات الاكتتاب، وغيرها من الوسائل المتعارف عليها دوليا، بدلا من بيعها بالأمر المباشر إلى القطاع البنكى الحكومى.
حجم أو حجب الدين العام
تتباين الأرقام الصادرة عن وزارة المالية بشأن الدين العام سواء بسبب اختلاف تعريف الدين العام نفسه، أو اختلاف الفترة الزمنية أو الاختلاف الكبير بين المتوقع والفعلى. تحول هذه التباينات دون تبين اتجاه الدين العام: هل ينخفض كنسبة من الناتج المحلى أم يرتفع؟ ومن ثم تصعب محاسبة الحكومة عن مدى نجاحها فى برنامجها.
حيث توضح آخر الأرقام الفعلية المتاحة ارتفاع حجم الدين العام ونسبته من الناتج المحلى، على عكس المرجو والمعلن.
وتتسبب ضعف قدرة (وربما رغبة) البرلمان على الرقابة على الحكومة فى ضياع الحقيقة.
يستند تقرير البرلمان إلى رقم ورد فى البيان المالى (المقدم إليه من المالية) ٣.٧٥ تريليون جنيه فى بداية مارس ٢٠١٨، أى ٨٥٪ من الناتج المحلى الإجمالى. فى حين يتوقع نفس البيان أن تبلغ النسبة ٩٧٪ بنهاية يونيو ٢٠١٨.
ومن غير المفهوم لماذا يتوقع أن يزيد الدين خلال ثلاثة أشهر فقط ٤٥٠ مليار جنيه، رغم كل إجراءات التقشف القاسية اجتماعيا.
هل ينبغى أن ينخفض الدين العام؟
على عكس الشركات والأفراد، تستطيع الدول أن تقترض إلى ما لا نهاية، طالما ظلت قادرة على الوفاء بسداد أقساط الدين وفوائده بانتظام. وطالما ظل عبء السداد لا يشكل نسبة كبيرة من الإنفاق الحكومى. ولهذا نجد أن معظم الدول حول العالم قد راكمت ديونا عامة، فى حين لا يعانى سوى عدد منها من متاعب بسبب تلك الديون.
أى إن حجم الدين لا ينبغى أن يكون مشكلة فى حد ذاته، وإنما تكلفته السنوية هى ما ينبغى أن يؤرق أى صانع قرار.
ولكن على عكس هذا المنطق، يتخذ البرنامج الاقتصادى للحكومة، تحت رعاية صندوق النقد الدولى، من تقليص الدين العام هدفا فى ذاته.
ويمكن القول إنه فى الحالة المصرية هناك أكثر من سبب يدعو إلى اتخاذ تخفيض عبء الفوائد كهدف بديل.
أولا: تبلغ مدفوعات الفائدة على الدين العام فى مصر ١٠٪ من الناتج المحلى الإجمالى، ويتوقع أن تزيد الفاتورة خلال العام التالى.
زادت تلك النسبة خلال السنوات الأربع بحسب توصيات صندوق النقد. وتعد مصر من أعلى الدول من حيث عبء الدين العام. حيث تتحمل أغلبية مثيلاتها من الدول ذات نفس الحجم من الدين ٢٪ إلى ٧٪ من الناتج المحلى، بحسب بيانات البنك الدولى.
أى إن هناك مجالا لتخفيض سعر الفائدة بدون المساس بتنافسية مصر فى جذب الأجانب لشراء أوراق الدين المحلى. خاصة وأن ذلك الإجراء سوف يقابله تحسن فى مؤشرات مصر المالية (عجز الموازنة وبالتالى حجم الدين، ومن ثم تقليل مخاطر عدم القدرة على السداد).
وقد يوفر الظرف العالمي مبررا إضافيا لهذا الاقتراح. حيث تجتاح العالم هذا العام موجة رفع أسعار الفوائد على الديون الحكومية. وبما أن مصر تقع عليها نفس الضغوط، قد تؤدى إعادة هيكلة الدين الحكومى لدى البنوك المحلية إلى تخفيف أثر الاتجاه العالمى على الموازنة العامة وعلى حياة المصريين.
ثانيا: من بين كل عشرة جنيهات تنفقها الدولة تذهب أربعة إلى سداد الفوائد (إضافة إلى سداد أقساط القروض). ويعنى ذلك أمرين كلاهما مر.
أن موارد الحكومة يذهب الجزء الأكبر منها إلى سداد الدين، بدلا من الإنفاق على تحسين الخدمات العامة مثل التعليم والصحة. ويحرم المواطنون من خدمات لا غنى عنها، فلا تصبح إلا لمن يستطيع دفع ثمنها، مثل العلاج والسكن والماء والكهرباء والمواصلات العامة.
أيضا، بسبب ضرورة سداد عبء الدين، فإن أى تقليص لحجم عجز الموازنة لا بد أن يأتى عن طريق تقليص الإنفاق على دولاب عمل الحكومة (شراء مستلزمات المستشفيات وصيانة المرافق وأجور المعلمين والأطباء وصغار الموظفين).
وهو ما ينعكس على المزيد من التردى فى تلك الخدمات، مما يثير سخط المواطنين وضعف ثقتهم فى الحكومة. فما العمل إذن؟
إن تحرير جزء من مخصصات الفوائد يسهم فى تحسين الخدمات الحكومية، خاصة تلك التى تهدف إلى الارتقاء بالمواطن. نحن نتحدث عن ٥٠٠ مليار جنيه فى العام ٢٠١٨ ــ ٢٠١٩ (يبدأ أول الشهر القادم). يأكل هذا المبلغ وحده ثلثى حصيلة الضرائب. ويعادل نحو تسعة أضعاف الإنفاق على الصحة وخمسة أضعاف الإنفاق على التعليم.
لكل ما سبق، قل «تخفيض مدفوعات الفوائد ولا تقل تخفيض الدين العام».
خارج الصندوق
إحدى الأفكار من خارج صندوق الصندوق الدولى والحكومة، هى إعادة هيكلة الدين العام بالتفاوض مع البنوك الحكومية. من أجل خفض سعر الفائدة وتمديد آجال سداد الديون إلى سنوات (١٠ أو ٢٠ أو ٣٥) ، بدلا من عدة أشهر (٣، ٦، ٩ أشهر). أى استبدال أذون الخزانة قصيرة الأجل بسندات طويلة الأجل.
هناك عدد من الحجج التى تصاغ عادة ضد تطبيق مثل هذا الاقتراح، مثل سمعة مصر والموقف المالى للبنوك. ولكل من هذين الاعتراضين وجاهتهما وأيضا هناك رد عليهما.
أولا: عادة ما يؤدى الإعلان عن إعادة هيكلة دين ما ــ فى حالتنا مع البنوك الحكومية ــ إلى اهتزاز الثقة فى قدرة مصر على سداد باقى الديون. كل دائن يريد أن يطمئن أنه لن يتأثر بإجراءات مشابهة، وأنه سيحصل على أمواله فى الوقت المحدد. ويتخذ هذا القلق رد فعل قويا فى شكل ارتفاع كبير فى سعر الفائدة التى يسمح للدولة أن تقترض بموجبه. ولكن من المستبعد أن يحدث مثل ذلك فى حالتنا.
لأن التفاوض هنا غير ناتج عن أزمة مالية، أو عدم قدرة على السداد. بل رغبة فى تخفيض العبء السنوى للفوائد على ميزانية الدولة، بدون الإجحاف بحق البنوك فى الحصول على مستحقاتها. وتستطيع الحكومة الإعلان عن تلك الخطة ومزاياها، والجلوس مع ممثلى الدائنين لتطمينهم. وعادة يؤدى كل من الشفافية وفتح التفاوض إلى أن يرغب سائر الدائنين فى الوصول إلى نفس الاتفاق.
ولنا فى شركات دبى الحكومية خبرة، حين مرت فى عام ٢٠٠٨ بأزمة تعثر عن سداد ديونها لعدد من المؤسسات المالية المحلية والعالمية. فكان التفاوض هو السبيل للخروج من الأزمة بأفضل شكل ممكن، بلا خسائر لأى طرف. ويمتاز موقف مصر هنا عن دبى أن التفاوض محلى (حكومة مع حكومة)، وأن مصر لا تمر بأزمة تعثر.
ثانيا: الموقف المالى للبنوك: على عكس ما يثار عادة فى مثل ذلك الموقف، سوف تتحسن صحة القطاع المصرفى بفضل هذا الإجراء. يسمح هذا التمديد فى الآجال للبنوك باحتساب تدفقات مالية منتظمة على المدى الطويل، ما يقوى مركزها المالى ويساعدها على التخطيط.
البنوك المصرية عالية الربحية حاليا مقارنة بمثيلاتها فى المنطقة العربية. لكن كما يقول دكتور الاقتصاد جودة عبدالخالق
«لا تحسبن اللحم فيمن شحمه ورم». معظم أرباحها تأتى من شرائها أوراق الدين الحكومية، عديمة الخطر، عالية العائد. لذا تعزف البنوك منذ ثلاثة عقود عن القيام بدورها الأصلى أى توظيف ودائعها فى تمويل المشروعات، مكتفية بإقراض الحكومة. فإذا ما انخفضت الفائدة على الدين الحكومى سوف تبحث البنوك عن مصادر أخرى لتوظيف ودائعها المتراكمة.
هناك حلول أخرى لتخفيض عبء الدين العام: أهمها وأكثرها عدالة هو فرض الضرائب على الأغنياء.
يدفع المصريون نصف مستوى الضرائب فى معظم دول العالم. ومعظمها يأتى من جيوب المواطنين الأقل دخلا ومن الجهات الحكومية (فى حين تمتد الإعفاءات لكل أشكال الثروة المالية والعقارية ولأصحاب الدخول المرتفعة).
المقترح حزمة من الضرائب التصاعدية على الدخول العليا، والضرائب على خروج رءوس الأموال ــ خاصة الساخنة ــ من البلاد، والضرائب على التصرفات الرأسمالية، مثل بيع الأراضى والعقارات وأرباح بيع حصص الشركات إلى الغير، وغيرها من أشكال زيادة الثروة. ويقترح البرلمان على الحكومة فرض ضريبة على بيع التركات فى المدن (دون الريف). وهى خطوة صغيرة فى هذا الاتجاه. ولكن لا تسأل لِمَ يبقى كل ذلك خارج قائمة اختيارات الحكومة؟.
الخلاصة، أن الدين العام وتكلفته لن ينخفضا، بل سوف يزيدان. وبدلا من مواجهة ذلك الخطر، تجد أن سياسات الحكومة لا تشكل أى تعديل للمسار السابق. حيث لا يستجيب قانون الموازنة والذى وافق عليه البرلمان الأسبوع الماضى لأى من التحديات الكبيرة، بل نحن بصدد الاستمرار فى تطبيق نفس السياسات، رغم اختلاف الظروف الدولية والمحلية، مع التأكيد على أن ثمارا أفضل ستأتى هذه المرة.