الصين والإمبرياليّة 1| مخالب أمريكا الخائفة
أجيت سينغ أجيت سينغ

الصين والإمبرياليّة 1| مخالب أمريكا الخائفة

هذا العام هو عام الذكرى الأربعين «للإصلاح والانفتاح» الصيني الذي بدأ منذ 1978. ورغم أنّ معايير الحياة كانت قد تحسنت بشكل كبير بعد الثورة الاشتراكية عام 1949، حيث تضاعفت متوسط العمر في الأعوام الثلاثين الأولى، كانت الصين لا تزال تواجه تحديات هائلة. وفي سعيها للتغلب على التخلف الشديد في البلاد وعلى احتكار الغرب للتكنولوجيا وعلى العزلة التي فرضتها الولايات المتحدة على البلاد أثناء الحرب الباردة، طبقت الصين الإصلاحات بهدف تعزيز النمو والتطور الاقتصادي. لخص دينغ شياوبينغ، وهو مهندس سياسات الانفتاح، رؤى الحزب الشيوعي الصيني في ثلاثة بنود: «يجب أن تتطور بلادنا. إن لم نتطور فسيتمّ إرهابنا. التطوير هو الحقيقة الصعبة الوحيدة».

تعريب وإعداد: عروة درويش

وبعد مضي أربعة عقود على ذلك، ليس بالإمكان إنكار نجاح الإصلاح: انتشلت الصين 800 مليون شخص من الفقر، وهو أكثر ممّا فعل بقيّة العالم مجتمعاً في نفس الفترة، وولّدت «أسرع توسّع مستدام لاقتصاد كبير في التاريخ» وفقاً للبنك الدولي. بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني حوالي 10% سنوياً على مدار 40 عاماً، دون أزمات، وتحوّلت الصين إلى رائدة العالم في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار. تحظى الصين اليوم بعد أن انتقلت بشكل راديكالي من الفقر إلى قوّة دولية، بثاني أكبر اقتصاد في العالم، ومن المتوقع عموماً أن تتخطى الولايات المتحدة من حيث الناتج المحلي الإجمالي خلال العقدين القادمين. وإن اعتمدنا على معيار تناسب القوّة الشرائية، فقد تجاوز الاقتصاد الصيني نظيره الأمريكي بالفعل.

اعتمدت الصين عند البدء بالإصلاح على «إبقاء رأسها منخفضاً» وعلى «أخذ الوقت الكافي لبناء قوتها»، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تقود الجهود العدوانيّة لفرض النيوليبرالية على دول الجنوب العالمي. أمّا اليوم فنحن في خضمّ نقطة تحول كبرى: فبإعلانها للعالم أثناء المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي في السنة الماضية بأنّها تدخل «حقبة جديدة»، باتت الصين تلعب دوراً أكثر حزماً وقياديّة في الشؤون العالمية. فمبادرة الحزام والطريق البالغة قيمتها ترليون دولار، والذي يقال عنها بأنّها «أكبر برنامج بنى تحتية في تاريخ البشرية»، تشمل أكثر من 70 دولة و1700 مشروع تنمية يصل آسيا بإفريقيا بأمريكا اللاتينية بأوروبا. وفي هذه الأثناء، تخسر الولايات المتحدة الغارقة في الركود الاقتصادي والانحدار سلطتها الدولية. وفي حقبة «أمريكا أولاً» تحديداً، تتهاوى سمعة البلاد بسرعة كبيرة، حيث تنسحب إدارة ترامب بشكل أحادي من المؤسسات والاتفاقات الدولية، وتظهر رجعيّة بلا حدود تجاه البلدان النامية، وتقضي على الدبلوماسية باعتماد الغرور المهين والتهديد بالإبادة الجماعية.

  • ازدياد عدوانيّة الولايات المتحدة تجاه الصين:

إنّ سير الصين والولايات المتحدة في مسارين متعاكسين ليس بالظاهرة الجديدة، لكنّ الأمر بات محلّ تركيز في ظلّ إدارة ترامب. فالولايات المتحدة تظهر عدائيّة متزايدة تجاه الصين بسبب تزايد مخاوفها من تناقص هيمنتها العالمية. وقد بينت إدارة ترامب بوضوح عبر سلسلة من إعلانات السياسات (استراتيجية الأمن القومي واستراتيجية الدفاع الوطني ومراجعة الموقف النووي وإعلان موقف الاتحاد) أنّها تدرك «التهديد» الذي يشكله «الصعود الاقتصادي والعسكري للصين»، معلنة بأنّ «المنافسة الاستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، هي الآن أكبر التهديدات على أمن الولايات المتحدة القومي». يتمّ الادعاء بأنّ الصين، ومعها روسيا، يريدان تشكيل عالم مناهض لقيم الولايات المتحدة ومصالحها.

وكردّ على هذا «الخطر»، تسعى إدارة ترامب لبناء تراكم هائل في القوات العسكرية الأمريكية، فترى بأنّ «الفتك الأكبر» و «القوّة التي لا يمكن مجاراتها» هي وسائل دفاعية. تقترح موازنة ترامب لعام 2019 زيادة هائلة في إنفاق البنتاغون ليصل إلى 716 مليار دولار، وقد جمع حكومة حرب لاستخدامها، ومن بينهم صقور معروفون بمعاداتهم للصين من أمثال جون بولتون ومايك بومبيو وبيتر نافارو. وتأتي هذه التحركات عقب قيام أكبر رتبة في الجيش الأمريكي الجنرال جوزيف دونفورد بتسمية الصين «بالتهديد الأكبر»، وقول الأدميرال هاري هاريس قائد القوات الأمريكية في المحيط الهادئ، والسفير الجديد إلى أستراليا، للكونغرس بأنّ على الولايات المتحدة أن تتحضّر للحرب مع الصين. تزيد واشنطن الضغط العسكريّ على بكين: بتصعيد التوتر في شبه الجزيرة الكورية. وباتخاذ خطوات لتشكيل تحالف «رباعي» مع حكومات اليمين الهنديّة واليابانية والأسترالية، يستهدف الصين. وبتمرير «قانون السفر إلى تايوان» الذي ينتهك سياسة «الصين الواحدة» ويشجع الولايات المتحدة على «إرسال كبار المسؤولين إلى تايوان لمقابلة نظرائهم التايوانيين».

وعلى الجبهة الاقتصادية، تسعى إدارة ترامب لإطلاق «حرب تجاريّة» ضدّ بكين، وتشكيل تحالف واسع مناهض للصين، باقتراح فرض رسوم جمركيّة بقيمة 50 مليار دولار على الصادرات الصينية (والتهديد بفرض 100 مليار أخرى)، وبإطلاق تحقيقات في نقل التكنولوجيا إلى الصين، وتقديم شكاوى رسمية في منظمة التجارة العالمية «بشأن دور الدولة الواسع في الاقتصاد الصيني». تعمل واشنطن بشكل متزايد على تنظيم ومراقبة الاستثمارات الصينيّة الواردة إليها، والاستثمارات الأمريكية الصادرة منها إلى الصين، والمشاريع المشتركة. ولكون واشنطن تدرك أنّ هيمنتها التكنولوجية هي أحد أعمدة سطوتها الدولية، فهي تعتبر تطوّر الصين وتقدمها التكنولوجي «تهديداً اقتصادياً وجودياً».

ومع تزايد الحقد، يعيد الخطاب الأمريكي تجاه الصين إلى الأذهان الأجندة الخبيثة المناهضة للشيوعيّة أثناء الحرب الباردة، وأشباح «الخطر الأصفر» الذي ساد منذ عقود. وقد حذر وزير الخارجية الأمريكي المعين حديثاً مايك بومبيو من أنّ الصين تحاول «التسلل إلى الولايات المتحدة عبر الجواسيس، عبر أناس يعملون بالنيابة عن الحكومة الصينيّة ضدّ أمريكا... نحن نراهم في مدارسنا. نحن نراهم في مستشفياتنا وأنظمتنا الصحيّة. نحن نراهم عبر الشركات في أمريكا. وينطبق هذا أيضاً على أجزاء أخرى من العالم... من بينها أوروبا والمملكة المتحدة». وبشكل مشابه، أخبر رئيس المباحث الفدرالية كريستوفر راي الكونغرس في شباط الماضي بأنّ «كامل المجتمع الصيني» يشكل تهديداً للولايات المتحدة. إنّ مرور مثل هذا التصريح الحربجي ضدّ 1.4 مليار إنسان، أي خُمس جميع البشر، دون أن يشجبه أحد لا من الديمقراطيين ولا من الجمهوريين ولا من الإعلام المملوك للشركات، هو إشارة على التوافق بشأن نظريّة «الخطر الصيني» بين نخب النظام الأمريكي، وكذلك على الخطورة الضمنيّة لمثل هذا التوافق.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني