عن مستقبل (دول الأطراف)... العربية ضمناً

عن مستقبل (دول الأطراف)... العربية ضمناً

مقدمة: أ‌- في منهجية السؤال: يتضمن السؤال المطروح عن (مستقبل الأنظمة السياسية العربية بعد حقبة الانتفاضات والحروب) ثلاثة افتراضات ضمنية، سواء أكانت مقصودة أم غير مقصودة، وهي:

1- أنّ بين هذه الأنظمة من المشتركات ما يكفي لاعتبارها ظاهرة واحدة، وبالتالي حالة دراسة واحدة؛ وهذا بحاجة إلى إثبات... فإنْ كان المشترك بينها هو "الجانب القومي العربي"، فليس هذا الجانب كافياً لحشرها ضمن ظاهرة واحدة، ناهيك عن أن الانطلاق منه وحده ليس علمياً بتاتاً... إنّ المشترك حقاً بين الأنظمة السياسية العربية لا يتجاوز كثيراً – برأينا – حدود انتمائها جميعها، ومن موقع التابع، إلى فلك أوسع هو بلدان الأطراف ضمن معادلة العالم الرأسمالي (مركز – أطراف).

2- يفترض السؤال أيضاً أن حدود التغيير تتعلق فقط بالأنظمة السياسية العربية القائمة، ولا تصل حد تهديد الكيانات السياسية (الدول) العربية القائمة؛ والحق أنّ الوضع الملموس في السودان والعراق مثلاً، والتهديدات القائمة في المغرب وسورية واليمن وليبيا وغيرها، تظهر بوضوح أنّ حدود التهديد والتغيير أكبر بكثير من مجرد تغيير الأنظمة والسؤال عن مستقبلها – إنْ كان لها أي مستقبل على الإطلاق. وحدود التهديد والتغيير الواسعة هذه، واسعة بالمعنى السلبي والإيجابي؛ أي بما تنطوي عليه من احتمالات تفكك وتذرير من جهة، ومن احتمالات معاكسة تماماً؛ احتمالات وضرورات اتحاد ينبغي بحث أسسه بالملموس وليس انطلاقاً من الفكرة القومية (كمثال على ذلك: فإنّ كيانات مثل سورية – لبنان – العراق – تركيا – إيران، وانطلاقاً من مصالح شعوبها، ومن كونها جزءاً من فضاء اقتصادي واحد، فإنها محكومة بالتقارب فيما بينها، تقارباً كبيراً قد يصل حد الاتحاد).

3- يضع السؤال "الانتفاضات" و"الحروب"، ضمن حقبة واحدة، ويسأل عما بعدها، والحق أنّ تزامن المسألتين (الانتفاضات أو الحركات الشعبية والحروب)، لا يعني أنهما ستنتهيان معاً بالضرورة؛ الحقبة التي توشك على نهايتها هي بالذات حقبة الحروب وحقبة الثورات المضادة، بالمقابل فإنّ حقبة النشاط السياسي العالي للجماهير – حقبة الحركة الشعبية المقبلة على مزيد من النضج والتنظيم باتجاه حركة سياسية فحركة ثورية – هذه الحقبة ما تزال في بدايتها فحسب، وستمتد لعقود لاحقة، أي أنها عامل أساسي في دراسة مستقبل، لا المنطقة العربية فحسب، بل والعالم بأسره؛ لأنّ "حقبة الانتفاضات والحروب"، وإنْ كان ظهورها مكثفاً في البلدان العربية، فإنها لم تقتصر عليها بل هي ظاهرة عالمية تتعلق مباشرة بالأزمة الرأسمالية العالمية، وهي إنما ظهرت في هذه البلدان بشكل مكثف لأنها الخاصرة الأضعف والأكثر هشاشة ضمن مجمل التكوين السياسي الاقتصادي والاجتماعي الدولي.

 ب‌- في منهجية الإجابة:

 إن الافتراضات المسبقة المتضمنة في السؤال، والتي تستحق بذاتها الوقوف عندها دراسة وتمحيصاً، لا تلغي أهمية السؤال، ولكنها تعيد وضعه ضمن إحداثيات تسمح بالوصول من دراسته إلى شيء ما مفيد وملموس.

ولذلك، فإنّ مقترحنا للوصول إلى الإجابة يمر عبر المحاور التالية (من العام إلى الخاص):

المحور الأول: السياق الدولي – الجانب الاقتصادي: (أين وصلت الأزمة الرأسمالية العالمية؟)

المحور الثاني: السياق الدولي – الجانب السياسي: (أين وصل التوازن الدولي الجديد؟)

المحور الثالث: هل انتهت حقبة (الحروب – الانتفاضات)؟

المحور الرابع: المشتركات الأساسية بين الأنظمة السياسية العربية.

المحور الخامس: دراسة نموذج (النظام السوري – الدولة السورية).

الخاتمة.

..................................

 المحور الأول: السياق الدولي_ الجانب الاقتصادي

 إن الجانب الجوهري في مجمل الوضع الدولي، هو: الأزمة الرأسمالية العالمية، والتي لا يكشف انفجار طورها المالي أواخر 2007 بدايات 2008 سوى عن جانب واحد منها. ومن نافل القول: إن هذه الورقة لن تستطيع بحال من الأحوال أن تقف بشكل معمق على جوانب الأزمة المختلفة، ولكنها ستحاول في هذا المحور أن تضع بعض نقاط العلّام التي ستستند إليها في المحاور التالية:

 1_ انتهاء التوسع الأفقي:

 السعي نحو الربح الأعلى، الذي كان حافز التطور الرأسمالي، وحافز تكثيف الإنتاج، على المستويات الوطنية، هو بالذات ما دفع نحو فوضى الإنتاج (الأزمة الدورية)، ودفع أيضاً (ضمن إطار التنافس) إلى تطوير التكنيك، وإلى نشوء الاحتكارات بمستوياتها المختلفة من السانديكا إلى الكتلة المالية، وأدى تطوير التكنيك، إلى تعقيد (التركيب العضوي لرأس المال)، الأمر الذي أنتج ميل معدل الربح نحو الانخفاض... أي: أنّ الدارة جرى إغلاقها على المستوى الوطني، فالسعي نحو الربح الأعلى أدى في نهاية المطاف إلى ميل معدل الربح نحو الانخفاض.

هذا الأمر، هو ما دفع رأس المال إلى كسر هذه الحلقة، عبر الخروج من الحدود الوطنية (تصدير البضائع بداية، ثم تصدير رأس المال الذي يتحول في المرحلة الإمبريالية إلى الشكل السائد والمحوري في عمليات التصدير)، والتوسع أفقياً عبر العالم؛ بكلام آخر: إنّ التوسع الدائم هو قانون من قوانين الرأسمالية، شأنه شأن قانون السعي نحو الربح الأعلى، ويعكس هذا القانون الطابع الفاني للظاهرة الرأسمالية، بوصفها ظاهرة غير قابلة للاستقرار ضمن حدود مغلقة، سواء كانت تلك الحدود باتساع (الحدود الوطنية) أم باتساع (حدود الكرة الأرضية)؛ وهو ما تم استكماله بانهيار الاتحاد السوفياتي، حيث بات ممكناً القول: إن العالم بأسره قد ترسمل، بمعنى سيادة علاقات الإنتاج الرأسمالية فيه.

 2_ التوسع القطاعي أو التشوه الهيكلي:

 للأسباب السابقة نفسها (السعي نحو الربح الأعلى، وميل معدل الربح نحو الانخفاض) وفي محاولة رأس المال التخلص نهائياً من الأزمة الدورية، فقد جرب حظه بالقفز من قطاع إلى آخر، على المستوى الوطني، ومن ثم على المستوى العالمي، وهو الأمر الذي عزز أدواراً محددة لقطاعات باتت المتحكم الأساسي بمجمل السوق الرأسمالية، وفي مقدمتها: القطاع المالي إلى جانب "القطاعات السوداء"، أي: الإتجار بالبشر والمخدرات والسلاح. وهذا بالذات ما حوَّل الأزمة الدورية إلى أزمة عضوية مستمرة، بتحويله فائض الإنتاج إلى فائض دولار وسلاح، رابطاً التجارة العالمية بأسرها بالدولار.

بكلام آخر، إنّ ما يسمى "تشوهاً هيكلياً" في مصطلحات الاقتصاد الكلي ليس في حقيقته "تشوهاً" بل هو قانون طبيعي للظاهرة الرأسمالية، يحكمها بالتشوه وبالمزيد من التشوه بشكل مستمر.

 3_ علاقة (إنتاج_ استهلاك)، (عدالة_ نمو):

 التشوه الهيكلي المشار إليه، مصحوباً بقانون التمركز، وبانتهاء التوسع الأفقي، حوّل أزمة فائض الإنتاج، إلى أزمة إنتاج وأزمة نمو؛ أي: أن مجمل القوانين السابقة وضعت رأس المال، والمجتمع البشري معه، أمام وضع لم تعد فيه إمكانات إنتاج حقيقية من وجهة نظر الربح، فأرباح قطاعات الإنتاج الحقيقي، وعدا عن انخفاض معدلات ربحها لمصلحة القطاع المالي، فإنّ تحقيق رأس المال الإنتاجي، عبر الاستهلاك، بات مهدداً بسبب نمط توزيع الثروة الجائر بشكل كبير، على المستوى الوطني والدولي، بما في ذلك في دول المركز، أي: أنّ دورة (إنتاج_ توزيع/ تبادل – استهلاك)، باتت غير قابلة للتجديد في كثير من الأحوال، مفرزة معادلة جديدة تناقض صراحة كل أدبيات الليبرالية، ناهيك عن أدبيات الليبرالية الجديدة، وبالتحديد تناقض القول: (دع الأغنياء يغتنون فهم قاطرة النمو)، وبات الحديث عن ضرورة إعادة توزيع الثروة، حديث الأوساط الرأسمالية نفسها، لا حديث الشيوعيين فحسب، كضرورة لاستمرار الإنتاج وبالتالي استمرار الربح.

 4_ التبادل اللا متكافئ والدولار:

 اكتمل نشوء منظومة الاستعمار الجديد_ الاقتصادي، أو منظومة التبادل اللا متكافئ (مقص الأسعار، التبعية التكنولوجية، هجرة العقول، التبادل اللا متكافئ)، أواسط ستينات القرن الماضي، مكرسة تقسيم العالم بين مركز ناهب، وأطراف منهوبة وتابعة، (وقد بان هذا التقسيم بأكثر أشكاله تكاملاً ووقاحة مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ومنظومة الدول الاشتراكية). وما يسقط من حسابات بعض منظري التبادل اللا متكافئ، هو: أن كلمة السر في هذه المنظومة ومحورها ليست إلا الدولار نفسه، ذلك أنّ آليات التبادل اللا متكافئ جميعها إنما تتركز في إطار (التجارة الدولية) وهذه الأخيرة، تستند إلى الدولار في المقام الأول، بحيث بات الدولار والتبادل اللا متكافئ (في إطار العلاقات الدولية) تعبيرين عن الشيء نفسه.

وإنّ ما جرى خلال العقد ونصف العقد الماضي، من ظهور لليورو وعودة لليوان والروبل، ومؤخراً بداية ضرب البترودولار باليوان القابل للتبديل ذهباً، ليس تعبيراً عن ضرب الدولار كـ"معادل عام" فحسب، بل وهو في الجوهر، ضرب لمنظومة التبادل اللا متكافئ بأسرها.

 5_ التوسع العمودي:

 إنّ الشكل الأولي لتوسع رأس المال عمودياً، هو ما يسمى (تكثيف شدة العمل)، أي: عصر قوة عمل العامل لاستخلاص أكبر قيمة منتجة مجدداً منها خلال عدد ساعات العمل نفسها، يليها التوسع عمودياً عبر زيادة القيمة الزائدة النسبية، التي تعتمد على تعظيم التكنيك على المستوى العام بما يخفض من قيمة قوة العمل، ويرفع تالياً نسبة ما تنتجه من قيمة زائدة من إجمالي ساعات العمل اليومية. هذا الشكل البسيط للتوسع العمودي (والذي لعب دوراً تقدمياً في مرحلة محددة)، يعود مرة أخرى، وبشكل آخر، في ما يشبه نفي النفي، بعد انتهاء التوسع الأفقي: تظهر لرأس المال ضرورة إيقاف تطور القوى المنتجة التي تضغط بتطورها على علاقات الإنتاج، لحماية هذه الأخيرة وحماية أسلوب الإنتاج الرأسمالي تالياً، ويجري ذلك بوسائل متنوعة جداً... منها مثلاً: الوقوف في وجه التطور العلمي والتكنولوجي بوصفه جانباً من جوانب تطور القوى المنتجة، ومنها أيضاً: التدمير المباشر بالمعنى الحرفي للجانب البشري من القوى المنتجة، (الذي تعبر النيومالتوسية عنه بصراحتها الوقحة)، وذلك عبر الحروب، ونشر الآفات والأمراض، وإفقار الشعوب بالسياسيات الليبرالية لتخفيض وسطي العمر المطلق، وبالتالي تخفيض عدد السكان، وسياسات اشتراط العمل بتحديد النسل، وغيرها من الممارسات.

أي: أنّ عمق الأزمة يعيد تذكيرنا بقانون صراع المتناقضات ووحدتها، حيث الصراع هو الأساس والوحدة ليست سوى حالة عابرة ومتغيرة؛ فالتناقض بين قوى الإنتاج (كمضمون) وعلاقات الإنتاج (كشكل) يهدد الوحدة نفسها؛ أي: أسلوب الإنتاج الرأسمالي. وفي إطار دفاع رأس المال عن هذه الوحدة، لم يبق أمامه سوى محاولة كبح تطور المضمون للحفاظ على صلاحية الشكل، وهذا الأمر يفتح المجال لإعادة التفكير بجملة مسائل من بينها: وظيفة الحرب ووظيفة الفاشية في عالمنا المعاصر...

 6_ أطوار الأزمة:

 تشبّه الأزمة الراهنة من حيث ضخامتها وعمقها، وانفجارها ضمن المركز الإمبريالي، بأزمة 1929. والأطوار التقليدية التي مرت بها أزمة 29 هي على التوالي: (المالي، الاقتصادي، الاجتماعي_ السياسي، الحرب ونشوء البدائل). لكنّ الأزمة الراهنة شهدت محاولة للتلاعب بتسلسلها؛ فقد عمدت الإمبريالية الأمريكية إلى استباق انفجار الأزمة بطورها المالي بالذهاب إلى نهاية الدوامة فوراً؛ بأن تبدأ بالحرب. وقد أوجدت مبرر الحرب بأحداث 11 سبتمبر، ليعقبها الانطلاق نحو "الحرب على الإرهاب". ما جرى واقعياً هو: أنّ الحرب لم تسر وفقاً للمأمول، ولم تحقق بالتالي منع انفجار الأزمة المالية.

وبانفجار الأزمة المالية أواخر 2007 بدايات 2008، بالتزامن مع استمرار الحرب، وقعت حالة تشبه حالة التجاوب الحاد أو الطنين في الأمواج، فالتقت موجتا الأزمة المالية والحربية بقيمة أعظمية، فلم يعد المال قادراً على تخديم العسكرة، ولم تعد العسكرة قادرة على أداء مهمتها بحماية المال ونسبة ربحه، لذا جرى تمديد الحرب، والعمل الدائم على محاولة توسيعها وتعميقها، بالتوازي مع استمرار الأزمة بسلوك مسارها القانوني، أي: أنها انتقلت للمستوى الاقتصادي (التقديرات أن ذلك جرى في 2012)، أي: بدأت بضرب عملية الإنتاج الحقيقي، وانتقلت منذ فترة غير بعيدة إلى مستوى أزمة اجتماعية_ سياسية... هي عشية البدائل، أي: عشية ظهور البديل الثوري.

إنّ الشكل الجديد لتسلسل أطوار الأزمة، والناتج عن محاولة منع ظهور الأزمة باستباقها بالحرب، وعدم نجاح هذه المحاولة، قد أدى فعلياً إلى حالة غير مسبوقة: أطوار الأزمة الثلاثة الأولى باتت مترافقة مع الحرب، وهذه باتت تتوسع من طور إلى التالي في محاولة مستميتة وفاشلة لاحتواء تسارع الأزمة (وهنا يكمن جانب من جوانب تفسير الظاهرة الفاشية بالمعنى العام، وبالمعنى الملموس للفاشية الجديدة وآليات عملها)، هذا الأمر، إن أضيف إليه عامل الردع النووي، وضعف احتمالات الحرب المباشرة، يفتح بالمعنى التاريخي إمكانية فريدة، هي إمكانية خنق الرأسمالية الناتج عن قصور رئوي مزمن (حيث الحرب هي الرئة الحديدية التي تتنفس منها)؛ بكلام آخر: إنّ امتداد الحرب ضمن الأطوار الثلاثة الأولى، قد يفتح الباب نحو انتهائها على أبواب الطور الرابع، طور البدائل، بل ويجعل من جانب آخر، الوصول إلى الطور الرابع محكوماً بإنهاء الحرب... ما يطرح افتراضاً نظرياً يحتاج لإثبات، هو: أنّ الحرب الثورية بشكلها المعاصر، تتركز في الحرب على الحرب ، بما يتضمنه ذلك من حرب على الفاشية، ولكن أيضاً من نضال من أجل حل الأزمات المختلفة سلمياً وسياسياً.

.....................

المحور الثاني: السياق الدولي_ الجانب السياسي

 لم يعد مستهجناً على المستوى السياسي، الحديثُ عن تراجع مجمل المعسكر الغربي، وضمناً وأساساً عن التراجع الأمريكي، كذلك الحديث عن الصعود الصيني_ الروسي. لكن النقاش ما يزال دائراً حول جملة مسائل من بينها: (أين وصل التوازن الدولي الجديد؟ _ هل سينتج عنه عالم متعدد الأقطاب؟ _ هل سينتج عنه مركز إمبريالي بديل؟ _ هل نحن عشية الثورة والتحول باتجاه الاشتراكية، وضمن أية مستويات، محلية_ إقليمية_ دولية؟ وما هي الآجال؟). ولا يمكن بحال من الأحوال تقديم إجابات وافية وكاملة حول هذه المسائل، ليس ضمن هذه الورقة فحسب، بل وعلى العموم، لأنها مسائل لا تزال قيد البحث النظري والتطور العملي. ومع ذلك، يمكن تقديم تصورات عامة حولها، وهو ما سنطرحه في الفقرات التالية...

 1_ الوضع الراهن للتوازن الدولي:

بات واضحاً وملموساً تراجع المنظومة الغربية على المستويات المختلفة؛ ففي الجانب المالي_ الاقتصادي، تتقدم عملات محلية وإقليمية، طاردةً الدولار شيئاً فشيئاً من إطارها الوطني، ومن إطار تجارتها البينية، إضافة إلى التراجع المتواتر في دور المؤسسات المالية المركزية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية). وفي الجانب السياسي، يبرز تراجع وتأزم مختلف المنظومات الغربية، العالمية والإقليمية والمحلية: (حلف الناتو، الاتحاد الأوروبي، الجامعة العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، مجلس التعاون الخليجي... وغيرها)، إضافة إلى التراجع المتسارع في ثقل الوزن الأمريكي في مختلف الأزمات الإقليمية (مثالاً: أوكرانيا، الأزمة السورية، الأزمة التركية، القضية الفلسطينية، اليمن... وغيرها). بمقابل ذلك، يظهر تقدم الدور الروسي الصيني على المستويات المختلفة؛ المالي والاقتصادي والسياسي، عبر المؤسسات والتجليات المختلفة لهذا الدور...

 2_ ضرب التبادل اللا متكافئ

 إنّ تقدم الدور الروسي_ الصيني، يظهر على المستوى الاقتصادي_ المالي، بشكل مكثف في العمل المتواصل لضرب مختلف آليات التبادل اللا متكافئ، الواحدة تلو الأخرى... فهذان البلدان هما بالمعنى الاقتصادي جزء من بلدان العالم الثالث (أو بلدان الأطراف)، ضمن علاقة نهب (مركز_ أطراف)؛ أي: أنهما يخضعان للنهب الإمبريالي كحال بقية الأطراف، وإذا كان من منفسٍ بالنسبة لأزمة المركز (التي تعبر عن ذروة أزمة للمنظومة ككل، بما في ذلك روسيا والصين المأزومتان بالمعنى الرأسمالي) فهو بتعميق نهبه للأطراف، ومحاولة تصدير أزمته نحوها، ما يضع بلدان الأطراف بالمجمل، والبلدان الأكثر وزناً من بينها بشكل خاص، في وضع إجباري يضطرها لإعادة صياغة مجمل العلاقات الدولية، الاقتصادية، والسياسية بالتلازم، في إطار الدفاع عن نفسها، حتى قبل النقاش عن (وجود نوايا وإمكانات توسعية أو عدم وجودها). وعلى رأس العلاقات التي تجري إعادة صياغتها علاقات (التبادل اللا متكافئ_ دولار) أي: منظومة الاستعمار الجديد بشكلها المكتمل.

 3_ الحرب على الحرب، الحرب على الفاشية

 بالتوازي مع عملية إعادة الصياغة الاقتصادية المشار إليها آنفاً، وبالتوازي أيضاً مع الاتجاه (الطبيعي) للمركز الإمبريالي نحو الحرب كتنفيس عن الأزمة، فإنّ الحرب تكتسب مزيداً من الضرورة بالنسبة للمركز الإمبريالي؛ فهي ليست تحريكاً لعجلة الإنتاج وتصريفاً للفائض، وإعادة تحاصص للعالم وإلى ما هنالك بالطريقة التقليدية، بل هي أبعد من ذلك: محاولة للحفاظ على منظومة الاستعمار الجديد، وعلى الدولار كمفتاح مركزي فيها، والأهم: تدمير لتطور القوى المنتجة على المستوى العالمي، ولاحتمالات نموها الكامنة... وهذا يتطلب إخماد أية مقاومة سياسية لبلدان، مثل: روسيا والصين، ويتطلب إخضاعهما نهائياً عبر تفتيتهما وإغراقهما بجملة من الحروب الداخلية والإقليمية، وباستخدام مختلف أشكال وأنواع الفوالق، وبتوظيف الفاشية الجديدة في إشعال فتائل هذه الفوالق وتغذيتها. ما يجعل سيناريو الدفاع الوحيد المجدي في وجه الإمبريالية الأمريكية (حتى من وجهة نظر رأسمالية صينية_ روسية) هو سيناريو الحرب على الحرب، بما يتضمنه من حرب على الفاشية_ الإرهاب، ودفع باتجاه الحلول السياسية لمختلف الأزمات السياسية الإقليمية والدولية.

 4_ عدالة_ نمو

 إلى جانب ما أوردناه في المحور الأول عن هذا الجانب، فإنّ روسيا والصين، ومن بحكمهما، وفي إطار الدفاع عن النفس، مضطرتان إلى_ ولا طريق أمامهما سوى_ إعادة توزيع الثروة في المستوى الداخلي لتحقيق مسألتين: زيادة الاستهلاك الداخلي لتأمين دوران الإنتاج في ظل تراجع حاد في التجارة الدولية، وفي معدلات استهلاك القارتين الأكثر استهلاكاً على المستوى العالمي، أي: أوروبا وأميركا الشمالية تحت ضغط الأزمة (وهو ما يظهر واضحاً في توجه الصين نحو إحلال الواردات). والمسألة الثانية، هي: امتصاص واحتواء نقاط الضعف الداخلي التي يمكن البناء عليها في إطار عمليات الاستهداف بالتفتيت، وأهم نقاط الضعف، هي: النهب الذي يتعرض له الشعبان الصيني والروسي من برجوازيي البلدين، إضافة إلى نهب التبعية الذي يذهب للمركز.

 5_ تصور عن اتجاه تغير التوازن الدولي

إنّ جملة الأفكار السابقة، تقود إلى تصور عن اتجاه تغير التوازن الدولي؛ وهو: أنّ هذا التغير لن يكون انتقالاً من أحادية قطبية أمريكية نحو ثنائية قطبية (شرقية_ غربية) على شاكلة الحرب الباردة مثلاً، ولا نحو تعددية قطبية بمعنى وجود عدة مراكز إمبريالية (هذه المسألة أجبنا عنها في دراسة مستقلة بعنوان "روسيا الشبح الإمبريالي")، بل هو عودة نحو الثنائية القطبية الفعلية (شعوب_ إمبريالية)، تمر مؤقتاً، وبشكل غير مستقر، عبر تناقضات ثنائية ذات طابع دولي، أو تكتلي دولي، وصولاً إلى ظهور الأشكال الملموسة لاشتراكية هذا القرن، وهو الأمر الذي لن يكون بعيداً في تقديرنا، وهو موضوع على طاولة البحث والتحقيق خلال 15 - 20 سنة القادمة.

 6_ انعكاس التوازن الدولي إقليمياً ومحلياً

 إنّ الطور الذي نعيشه اليوم، ضمن عملية تغير ميزان القوى الدولي، يمكن توصيفه بأنه طور ثنائية قطبية مؤقتة كما أسلفنا. وهذا الشكل من الاستقطاب ينتج في أنحاء عديدة من العالم حالة تشبه انعدام الوزن؛ فرغم درجات التدويل العالية التي تظهر في مختلف الأزمات التي تعيشها دول وأقاليم عديدة، إلا أنّ هامش الحركة الداخلية، والفعل الذاتي لشعوب هذه الدول والأقاليم، يزداد بشكل مضطرد.

تعزز هذه الفكرة، جملة الخواص والسمات الأخرى للتغيّر الجاري؛ فعملية ضرب التبادل اللا متكافئ، تمر بالضرورة عبر إحلال شكل من أشكال التبادل المتكافئ، وبأسوأ الأحوال تبادل أقل نهباً ولا تكافؤاً. يضاف إلى ذلك أنّ "القطب الشرقي" إنْ جازت تسميته كذلك، مضطر في صراعه مع الغرب إلى نزع فتائل عدم الاستقرار من محيطه القريب والواسع، وهذه مسألة تتطلب تغييرات كبرى في ذلك المحيط اتجاهها الأساس، هو: الانفكاك التدريجي عن المنظومة الغربية سياسياً، بالتوازي مع فتح الباب للحلول الحقيقية للمشكلات المتراكمة في هذا المحيط، وعلى رأسها المشكلات الاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية، ولا نعني بهذا القول أن من سيحل تلك المشكلات هما روسيا والصين وتحالفهما، بل إنّ هذا التحالف مضطر لتأمين الظروف الدولية لحل هذه المشكلات، وفتح الباب لشعوب هذا المحيط لحل مشكلاتها...

.................

 المحور الثالث: هل انتهت حقبة (الحروب_ الانتفاضات)؟

 كما أشرنا في المقدمة، فإنّ تزامن (الانتفاضات) و(الحروب)، لا يعني ارتباطهما ارتباطاً نهائياً كظاهرة واحدة، تخلق مرة واحدة وتموت مرة واحدة...

وبناءً على ما تقدم من توصيف للأزمة ولوضع التوازن الدولي، فإنّ ما نعتقده بخصوص (الانتفاضات) و(الحروب) يتلخص في النقاط التالية:

1_ إنّ جملة الحروب البينية الداخلية، وما يغذيها من تدخلات خارجية وثورات مضادة، هي في جوهرها تعبيرات مختلفة عن ظاهرتين مترابطتين: أ_ (الحرب العالمية المصغرة، بما في ذلك أدواتها الفاشية) التي يسعى من خلالها المركز الإمبريالي للخروج من أزمته. ب_ أزمة النماذج التابعة لبلدان العالم الثالث (الأطراف)، الأزمة العميقة ومتعددة الأبعاد، والتي سنمر عليها بشكل مكثف في المحور التالي. 

2_ إن هذه الحروب، التي تشتعل في مناطق متعددة من العالم، وخاصة المنطقة العربية، تعيش حالياً آخر أيامها، وهي متجهة نحو التخامد والانحسار.

3_ إنّ الانتفاضات_ الحراكات الشعبية، التي انطلقت منذ أقل من عقد، وطغت عليها الحروب خلال السنوات الأخيرة، ستتابع تطورها ونضوجها، وصولاً إلى حل المشكلات التي نشأت بسببها، وفي طريقها لذلك ستمر ضمن طورين آخرين؛ إذ ستتطور وتنضج من حركة شعبية إلى حركة سياسية فحركة ثورية.

...............

المحور الرابع: المشتركات الأساسية بين الأنظمة والدول العربية.

إنّ درجات التباين الكبيرة بين الأنظمة السياسية العربية من جهة، وبين الوضع الجيوسياسي للدول العربية من جهة أخرى، يجعل من السؤال عن مستقبلها "بشكل مشترك"، وكما أشرنا في المقدمة، مهمة غير ذات جدوى تقريباً... رغم ذلك فإنه ضمن الإحداثيات التي وضعناها في المحاور السابقة، وتحديداً ضمن فكرة انتماء هذه الدول إلى بلدان الأطراف ضمن معادلة (مركز_ أطراف) ... يمكن أن نجد بين هذه الأنظمة_ الدول المشتركات الأساسية التالية (دون ترتيب):

1_ مسائل قومية غير محلولة.

2_ نزيف مستمر بالعقول باتجاه المركز.

3_ اقتصادات ضعيفة الإنتاجية، ويشكل الريع جزءاً أساسياً ضمنها.

4_ السيطرة الأساسية في هذه البلدان كانت طوال عقود لشريحتين متلازمتين من شرائح البرجوازية هما: البرجوازية البيروقراطية والبرجوازية الطفيلية؛ واللتان نتج عنهما شريحة رأسمالية مالية جديدة هي المسيطر والمهيمن في المجال الاقتصادي والسياسي والثقافي.

5_ التبادل التجاري الخارجي هو مع الغرب بشكل أساس، وضمن علاقات التبادل اللا متكافئ.

6_ المهام الديمقراطية غير محلولة (قمع وتدني مستوى حريات سياسية... إلخ).

7_ هوية وطنية غير مكتملة (أي: أن الاستقلال السياسي لم يستكمل باستقلال اقتصادي وثقافي، وهذه المسألة هي إحدى دوافع السعي (غير العلمي) الذي تنتهجه بعض القوى للبحث عن حلول في إطار (قومي عربي))

8_ فضاء سياسي قديم ميت لم يجر دفنه بعد، ولم يكتمل نشوء بديله (فالفضاء السياسي الذي تكوَّن أواسط القرن الماضي ما يزال على حاله في معظم الدول العربية، رغم أنّه فقد أهليته المعرفية والنضالية).

9_ علاقات غير صحية، وميالة للعداء، مع مختلف الدول المجاورة، العربية وغير العربية؛ أي: أنّ كل دولة من الدول، تعيش ضمن محيط يعاديها وتعاديه.

..............

المحور الخامس: دراسة نموذج (النظام السوري_ الدولة السورية)

من المستحيل تقريباً، تقديم دراسة معمقة للنظام السوري والدولة السورية، وبناء تصورات للمستقبل عنهما، ضمن الحيز الضيق لهذه الورقة، ولذلك فإننا (وبالإضافة إلى النقاط المذكورة في المحور السابق)، سنركز هنا على بعض الأفكار المحورية...

1_ الحالة البونابارتية

تشبه الحالة السورية في السبعينات والثمانينات إلى حد ما حالة لويس بونابارت، التي وصفها ماركس في كتابه (الثامن عشر من برومير)، حيث يصل العسكر إلى السلطة ضمن شرطين هما:

1_ تساوي الطبقتين الأساسيتين (البرجوازية والبروليتاريا) في القوة بحيث لا تستطيع أي منهما كسر الأخرى.

2_ وجود تهديد خارجي.

وبتحقق الشرطين، يبدو جهاز الدولة البيروقراطي والعسكري وكأنه ممثل للمجتمع بأسره، بوصفه حامياً من التهديد الخارجي ومُوفِّقاً بين الطبقتين الأساسيتين، وبناءً على ذلك يتغوَّل هذا الجهاز أكثر فأكثر، مكوناً استقلاله الطبقي النسبي عن المجتمع وعلى حسابه.

هذان الشرطان كانا محققين في الحالة السورية، مع فارق أنّ الطبقتين الأساسيتين كانتا متساويتين في الضعف لا في القوة، ولكنهما كانتا متساويتين على أية حال؛ فالبرجوازية التقليدية السورية وممثلوها السياسيون، كانوا قد تلقوا ضربات كبرى على يد عبد الناصر في فترة الوحدة، وكانت هذه البرجوازية لمَّا تنجز مشروعها بعد، كذلك الأمر مع الطبقة العاملة التي لم تنضج بما فيه الكفاية كنتيجة طبيعية لعدم استكمال المشروع البرجوازي ذي الطابع الإنتاجي... يضاف إلى ذلك أنّ الأغلبية الساحقة من التركيبة السكانية في سورية، كانت لا تزال ضمن سياق طبقة البرجوازية الصغيرة، والفلاحية بشكل خاص، والتي جرى استرضاؤها مؤقتاً بمشاريع (الإصلاح الزراعي).

هذه الحالة البونابارتية للنظام السوري، سمحت له بلعب دور (الأب) الذي يوازن كفة التناقضات، فكلما لاح تقدمٌ لإحدى الطبقتين الأساسيتين قام بتوجيه ضربة لها، مستمراً في تضخيم الجهاز البيروقراطي، وتضخيم شريحتين محددتين هما ما درج الحزب الشيوعي السوري على تسميتهما (البرجوازية البيروقراطية_ والبرجوازية الطفيلية).

 2_ الموقع ضمن الحرب الباردة وما بعدها

 لعب النظام السوري دوراً مركباً ضمن الحرب الباردة بين المعسكرين؛ فكان يطلق الشعارات اليسارية سياسياً، وينتهج في المجال الاقتصادي والديمقراطي، والسياسي في بعض المناسبات، سياسات يمينية، وما إن انهار الاتحاد السوفياتي حتى بدأت عملية التخلي التدريجي عن الشعارات نفسها (في المجال الاقتصادي بداية، وفي السياسي في مرحلة لاحقة)، وقد ابتدأ ذلك مع قانون الاستثمار رقم 10 أوائل التسعينات، وتسارع بشكل هائل منذ 2005 والانتقال لما سمي (اقتصاد السوق الاجتماعي) بالتوازي مع إعادة النظر بما تعنيه شعارات حزب البعث في المؤتمر القطري العاشر، وما ترافق مع ذلك من سعي وراء الشراكة الأوربية، وفتح الأسواق للبضائع التركية، وللاستثمار الريعي القَطَري، وغيرها من الإجراءات التي كانت أساساً من أساسات الأزمة الراهنة

 3_ برجوازية بيروقراطية_ برجوازية طفيلية

 إنّ التحول المشار إليه آنفاً من الشعارات الاشتراكية التي جرت ترجمتها جزئياً ببعض المكتسبات للعمال والفلاحين، نحو شعارات السوق، لم يكن نتاجاً أو تساوقاً مع التحولات العالمية بتراجع الاتحاد السوفياتي ثم انهياره فحسب، بل وكانت نتاجاً لتطور داخلي أيضاً:

وإذ يتحدث ماركس عن مرحلتين في تطور أيةِ طبقة اجتماعية (الطبقة بذاتها ثم الطبقة من أجل ذاتها) فإنّ هذا الكلام يصح أيضاً على الشريحة الطبقية؛ فالبرجوازية البيروقراطية التي نشأت في السبعينات، بالتوازي مع برجوازية طفيلية، هي في الأصل برجوازية تقليدية قطعت أشواطاً في العلاقات مع الغرب، وفي التحول نحو طور رأس المال المالي، (إضافة إلى الريع النفطي والريع السياسي وغيرها من عوامل الإفساد)، كانت في حينها (أي: البرجوازية البيروقراطية) شريحة طبقية بذاتها، لم تع بعد استقلالها النسبي وقدراتها ضمن المجتمع ككل، إذ كان الموظف الكبير الفاسد يكتفي بفتات الصفقات الكبرى (على شكل رشى) التي تعقدها البرجوازية الطفيلية، ثم ما لبثت هذه الشريحة الطبقية أن تحولت إلى شريحة طبقية من أجل ذاتها، حيث وعت موقعها ضمن المجتمع، وإمساكها بجهاز الدولة، ولم يعد مبرراً في نظرها ألا تعيد تقاسم النهب مع البرجوازية الطفيلية، بتحولها هي نفسها_ جزئياً_ إلى ممارسة دور البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية في آن معاً، وبتغيير حصص النهب بينها وبين البرجوازية الطفيلية الموجودة أساساً...

تواكب هذا التحول مع فترة انهيار الاتحاد السوفياتي، وأصبح ممكناً المضي قدماً بالنسبة لهذه الشريحة، فكان قانون الاستثمار رقم 10، وبداية ظهور ما سمي في حينه ظاهرة (القطط السمان)، وهم أسماء وواجهات لثراء متراكم داخل الجهاز البيروقراطي، قرر الانتقال للعب أدوار أكبر من مجرد دور المرتشي التابع، بل غدا من الضروري أن يكون شريكاً مساهماً في السوق، مع ما يتطلبه ذلك من فتح علاقات مباشرة وغير مباشرة مع الغرب، تقنعه باستبدال وكلائه (البرجوازية الطفيلية التقليدية) بالقطط السمان، أو على الأقل السماح لهذه القطط بجزءٍ من سوق الوكالات. 

4_ الدولة الوطنية والهوية الوطنية

سورية، بحدودها السياسية الحالية، هي دولة حديثة العهد، كشأن عدد كبير من دول العالم الثالث؛ وإذا كان وجودها السياسي "القانوني" قد بدأ بوصفها مملكة ملكها فيصل، فإنّ هويتها الوطنية بدأت بالتشكل مع المعارك الأولى ضد الاستعمار الفرنسي (1918 - 1920)، واكتمل الطور الأول من تكون الهوية الوطنية بشكلها السياسي مع جلاء المستعمر الفرنسي عام 1946.

لكن تشكل هوية وطنية بالمعنى العميق لا يرتبط فقط بالحدود السياسية والعلم والنشيد وإلخ... بل ارتبط في عمقه (وبالمعنى التاريخي للدولة الوطنية) بالمشروع البرجوازي الذي يحمي سوقه (القومية) من البرجوازيات الأخرى، ويحميها بجيش مدرب، ويهيمن على السكان عبر القانون، وعبر أدواته القمعية والتوافقية، امتداداً إلى الهيمنة عبر المجتمع المدني التي تطلبت تصنيع ثقافة وطنية؛ ومن نافل القول: إنّ هذه المرحلة بالمعنى التاريخي كانت خطوة تقدمية عن الإمارات والممالك الإقطاعية.

ولكن تشكل (الدول الوطنية) في القرن العشرين، لم يعد مشابهاً بأي شكل من الأشكال، لتشكل الدول الوطنية في أوروبا بعد الثورة الفرنسية؛ فالدول الوطنية الجديدة باتت مساحة لتجاذبات الصراع الدولي بين قطبي القرن العشرين، وعليه فإنّ اكتمالها كدول وطنية واكتمال هوياتها تالياً لم يعد ممكناً أن يمر بالطريق نفسها التي جرت فيها في أوروبا.

من المميزات الجديدة لهذه الطريق، ما سمي قبل الاستقلال وبعده بالبرجوازية الوطنية، والتي حددت بأنها تلك البرجوازية التي تلعب دوراً تقدمياً في طرد المستعمر أساساً، وفي محاربة الإقطاع ثانياً، وفي إرساء الإنتاج الصناعي الواسع ثالثاً...

ما جرى واقعياً، في سورية، أن البرجوازية الوطنية السورية ساهمت في طرد المستعمر، وفي محاربة الإقطاع جزئياً، وليس حتى النهاية، وبدأت بتوسيع الإنتاج الصناعي، لكن مشروعها تم ضربه مع عهد الوحدة مع مصر، علماً أنه من غير الممكن بالمعنى التاريخي الحسم، بأنها كانت ستنجز ذلك المشروع أم لا إن لم تَجْرِ الوحدة.

بعد ذلك، وخلال الخمسين سنة الماضية، أسهم قطاع الدولة وتركيبة الجيش الطبقية، والحروب الوطنية، التي خيضت مع الكيان الصهيوني، في إنجاز مرحلة ثانية من تكون الهوية الوطنية، ولكنها لم تكتمل هي الأخرى؛ وما نقصده بدور قطاع الدولة، هو إنجاز منظومة الحماية الاجتماعية المرتبطة بالدولة كمؤسسات، وليس ببنى ما قبل الدولة الوطنية أي: الطائفة والعشيرة... إلخ، ولكن تراجع دعم هذا القطاع، والنهب الكبير الذي تعرض له، وعمليات الخصخصة ضربت شبكات الأمان هذه، وأعادت إحياء شبكات الأمان ما قبل الوطنية التي لم تكن قد اجتيزت بشكل كامل.

الوضع الراهن للدولة الوطنية السورية، وللهوية السورية (التي تعيش طورها الثالث)، وحتى قبل الأزمة السورية التي ظهّرت المشكلات الموجودة أصلاً ضمن هذه الهوية، يتكثف بما يلي:

_ استقلال سياسي غير مكتمل، وجود أراض محتلة قبل الأزمة، وخلالها مناطق نفوذ وتدخلات من دول شتى.

_ استقلال اقتصادي غير منجز: تبعية اقتصادية للمركز الرأسمالي لها عدد كبير من المؤشرات (تصدير مواد خام، هجرة عقول، ضعف إنتاجية، تبعية تكنولوجية... إلخ)، ومنظومات الأمان الاجتماعي المرتبطة بالدولة قد تم ضربها بشكل كامل تقريباً.

_ هوية ثقافية غير مكتملة، إضافة إلى عدم إنجاز مركبات الهوية الثقافية الوطنية، وهي متنوعة بشكل هائل، فإن مشكلات ذات طابع قومي وطائفي لا تزال قائمة ولمَّا تحل بعد.

_ إذا كان من الطبيعي أن تكون العلاقات مع الكيان الصهيوني هي علاقات عداء، فإنّ غير المبرر هو أن العلاقات السورية غير طبيعية مع كل دول الجوار الأخرى، ليس خلال الأزمة فحسب، بل ومنذ الاستقلال، لا مع لبنان ولا العراق ولا تركيا ولا الأردن، وبمراجعة التاريخ يمكن الوقوف عند عشرات الأزمات بين هذه الدول، بل لا يمكن الوقوف على أية مرحلة كانت فيها العلاقات طبيعية بين هذه الدول.

خلاصة

تعيش سورية، كدولة وطنية مرحلة حاسمة من تاريخها، فإما التفتت والانقسام أو نموذج جديد بالكامل، مقومات هذا النموذج تتكثف بالنقاط التالية:

_ المهمة الموضوعة للحل ليست المهمة الديمقراطية فحسب، بل وبالتلازم معها المهمة الوطنية والمهمة الاقتصادية_ الاجتماعية، وبأقل من ذلك، فإنّ أياً من المهام الثلاث لن تكون قابلة للتحقيق.

_ الحامل الاجتماعي للنموذج الجديد هو كل الفئات المتضررة من علاقات النهب الداخلي والخارجي، أي: من علاقات التبعية والتهميش والفساد...

_ لا يمكن بحال من الأحوال بناء سورية، إلا ضمن علاقات تخرج عن منظومة التبادل اللا متكافئ، وبالتالي فهي محكومة بنمط محدد من العلاقات الاقتصادية الدولية.

_ في حل مشكلات التبعية الاقتصادية، وفي حل المشكلة القومية في سورية، والكردية خاصة، تحتاج سورية إلى بناء علاقات قوية وطبيعية وأخوية مع كل من تركيا وإيران والعراق ولبنان... انطلاقاً من مصلحة شعوب هذه الدول، التي تشكل إضافة إلى مجمل الدول الممتدة من قزوين إلى المتوسط، تشكل فضاء اقتصادياً واحداً. بكلام آخر: إنّ التصدي لسايكس بيكو لم يعد محصوراً بالدفاع عن الحدود الوطنية المرسومة استعمارياً، بل بتجاوزها نحو اتحادات إقليمية تنطلق من مشتركات ملموسة وحقيقية، وليس من منطلقات قومية رجعية ومتعصبة.

_ لا يمكن بناء سورية دون إعادة توزيع الثروة بشكل جدّي وواسع.

_ عملية إعادة التوزيع هذه تحتاج من جهة إلى حريات سياسية واسعة تسمح للشعب السوري بمحاسبة دائمة للسلطات على اختلاف مستوياتها، وتحتاج من جهة ثانية إلى مشاركة واسعة في إدارة السلطة ابتداءً من مستوى الإدارات المحلية على الأقل، ضمن نمط من اللامركزية الإدارية، ووصولاً إلى مشاركة كاملة في السلطة وبمستوياتها المختلفة.

..........................................

الخاتمة:

إنّ مجمل أنظمة وبلدان العالم الثالث، والبلدان العربية ضمناً، تعيش كما العالم بأسره مرحلة تحول كبرى بين عناوينها الأساسية:

_ اقتراب انتهاء الاستعمار الجديد، أي: انتهاء علاقات التبادل اللا متكافئ.

_ إعادة صياغة الهويات الوطنية للدول، بما في ذلك أنظمتها على يد الفئات المتضررة الواسعة والطبقة العاملة بالدرجة الأولى، بما يسمح بحل المهام الوطنية والاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية بالتزامن وبالتوازي.

_ إعادة صياغة العلاقات بين الدول المتجاورة على أساس علاقات الأخوّة بين الشعوب، وانطلاقاً من مصلحة هذه الشعوب، وبقيادتها. وليس انطلاقاً من النظرات القومية المتعصبة.

 

آخر تعديل على الثلاثاء, 20 شباط/فبراير 2018 21:54