عربدة المطبعين وأعوانهم
رغم رضوخ مهرجان أيام سينمائية لمطالب الشباب الفلسطيني الغاضب، وإلغاء عرض فيلم للمخرج اللبناني زياد الدويري المتورط بالتطبيع مع الاحتلال، لم تطوَّ الصفحة بعد، وما زال النقاش يحتد، فبعض من “المثقفين” يصرون على أن عرض الفيلم لا يمس بالخطوط الحمراء المتعلقة بمقاطعة العدو، محاولين فصل الثقافة عن مقاومة الاحتلال، وقد اعتبروا ما حصل “انتكاسة ثقافية”.
الثقافة الفلسطينية بكل أشكالها ومكونتها، لم تبنَّ يوماً بشكل منفصل عن المقاومة، ولا نستطيع القول حتى أنها كانت توازيها، بل كانت أرضية صلبة لها، أساسها رفض وجود المحتل بشكل قاطع، رفض التعايش معه وتقبله، أو التكيف مع الظروف التي يخلقها، بل دعت دائماً للتمرد والانتفاض والثورة، فقبل أن تخلق الأحزاب السياسية الفلسطينية، كانت الثقافة العامة الفلسطينية قد عبأت الشعب، بكل ما ذكر سابقاً.
ففور إعلان مهرجان أيام سينمائية عن عرض فيلم “قضية رقم 23” للمخرج اللبناني المطبع دويري في تشرين أول 2017، بدأت حملة رفض شبابية ضخمة مطالبة بالإلغاء الفوري لعرض الفيلم، أسوة بالمقاطعة العربية لأفلام المخرج، بعد أن صور فيلمه “الصدمة” في الأراضي المحتلة منذ عام 1948، بالتعاون مع مخرجين ومنتجين وممثلين إسرائيليين، ليبقى ذلك وصمة عار عليه، إذ أصبح مرفوضاً عربياً، ومقصى من الحاضنة الجماهيرية، فهذا ثمن سيدفعه ما دام حياً ولم يعتذر عنه.
الشباب المعترض على الفيلم والذي بدأ بحملات إلكترونية شارفت على الانفجار في الشارع، عبّر عن إيمانه المطلق بقضيته ورفضه القاطع لكل ما يمسها، مؤكداً بعد الرضوخ لمطالبه، أن منظمي مهرجان أيام سينمائية حاولوا تغيير مسار الحدث إلى مضامين متعلقة بحرية التعبير، وسربوا بعض الأحاديث هنا وهناك، عن تعرضهم للتهديد إذا لم يتم عرض فيلم الدويري، في ذات السياق وبشكل متناقض تماماً، أكدوا رفضهم لتعامل المخرج المطبع مع الاحتلال والعيش في كيانه طيلة فترة تصوير الفيلم.
رفض الشباب الفلسطيني ونشطائه لعرض فيلم متورط مخرجه بالتطبيع، لم يأت من فراغ، فالتعامل مع الدويري وتقبل أفلامه، يعني إعطاء الضوء الأخضر للمخرجين العرب ليسيروا في خطاه بالتطبيع مع العدو، فنشطاء الحملة يؤكدون على أن مهرجان أيام سينمائية مطالب بإصدار موقف واضح حول التطبيع، فلا يمكن لفلسطين أن تتحول لممر لشرعنة الأعمال الثقافية العربية المختلفة، وخاصة أن الدويري لم يعتذر حتى الآن عن تورطه بالتطبيع، بل يدافع عن ذلك في كل تصريحاته الصحفية.
هذا الرفض الحاسم لدويري وأفلامه، هو جزء من الثقافة الفلسطينية والعربية الأصيلة الرافضة للمحتل والتعامل معه، فإصدار الحكم على محتوى الفيلم بعد الاطلاع عليه، كما يدعو بعض “المثقفين”، هو الحياد المرفوض للقضية، التي لا لون رمادي فيها، فالحملة التي طالبت بإلغاء عرض الفيلم لم تنتقد محتوى الفيلم ولم يكن خلافها معه، بل خلافها الرئيسي مع مخرج يطبع مع العدو، متجاهلاً الواقع الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني كامل تحت نير استعمار استيطاني إحلالي.
فيما قاد الموقف الرمادي لمهرجان الأيام السينمائية لتصاعد أصوات بعض “المثقفين” الرافضين لإلغاء عرض الفيلم، فحسب نشطاء الحملة، فالمهرجان لم يتحدث عن تورط الدويري في التطبيع وخطورة ذلك على العمل الثقافي العربي، هذا الحيز الثقافي المطالبين نحن بتحصينه ليكون حاضناً للتمرد والثورة، لا أن يصبح انعكاساً للمصالح النخبوية منسلخة عن مجتمعاتها.
وطالب الرافضون الحيز الثقافي النخبوي وراءه المؤسسات الثقافية الفلسطينية أن يبدؤوا برحلة البحث عن بدائل واقعية للإنتاج السينمائي والفني الذي يُبنى ابستمولوجيا من موقعنا كفلسطينيين وتكون وجهته الأساسية للفلسطيني (التغريبة الفلسطينية مثالا)، بأن نجد حلولاً تقنية لصناعة فنية، نصية، سينمائية لا ترتبط بنيوياً مع المنتج الصهيوني، أو شركات إنتاجه أو العمل مع طواقمه الفنية.
المهرجان تجاهل نداء النشطاء قبل البدء بحملتهم العلنية، إذ طالبوا بإلغاء عرض الفيلم على أن يتم تكريم الفنانين المشاركين في فيلم قضية رقم 23، إلا أن إدارة المهرجان رفضت ذلك، وحاولت أن تظهر في موقف الضعيف مدعية أنه تم تهديد القائمين على المهرجان، وهو ما نفاه النشطاء، مؤكدين على تعرضهم للتهديد والملاحقة، وهو ما جرى مع أحد النشطاء الذين تم استدعاؤه من قبل جهاز الأمن الوقائي وإخضاعه للتحقيق والاحتجاز لساعات.
الصدام الذي انتهى بانتصار لصالح الثقافة الفلسطينية التي تنهش داخلياً من قبل أشخاص ومواقف ستبقى منبوذة وستقصى في يوم قريب، يعيد للأذهان رسم ناجي العلي التي توسطها عبارة “محمود خيبتنا الأخيرة”، بعد أن دعا الشاعر محمود درويش علنا في تصريح صحفي له للقاء يجمع بين أدباء فلسطينيين وإسرائيليين، وهو ما تورط فيه فيما بعد.
ورغم الانتشار الواسع لقصائد درويش الوطنية، إلا أن تورطه بالتطبيع بقي وصمة نذكرها يومياً، كيف لا وقد تم ذلك في أوج ملاحقة الاحتلال والعالم أجمع لثوار القضية الفلسطينية ومقاوميها، وارتكابهم أدمى المجازر بحق الفلسطينيين.. كذلك هو الحال بما يخص الدويري وأفلامه، فوصمة التطبيع والاعتراف بالمحتل لا تمحيها الأيام، ولا تعوضها كم الأفلام.
أما إثناء العالم على أفلام دويري والممثلين معه، لا يعني لنا كفلسطينيين وعرب أي شيء، فنحن نؤمن جيدا أن هذا العالم الغربي الذي توج نفسه ليقيم الآخرين، هو عالم ينظر بحيادية إلى قضيتنا، بل ويتورط مع الاحتلال ضدنا، ويرى نشطاء الحملة أن السياسية التي ترى من تل أبيب طريقاً للوصول الى واشنطن، لا يمكننا إسقاطها على الحيز الثقافي العربي، لتصبح تل أبيب مدخلاً لفنانين العرب ليصعدوا منها الى العالمية.
إلغاء فيلم المخرج دويري المطبع مع العدو، لا يعني أنه الفيلم أصبح محظوراً في فلسطين، كالكثير من كتب السياسية والأدب التي يحظرها الاحتلال والسلطة ويمنعون وجودها في فلسطين، فهنا تختلف عمليات الانتقاء التي تفرض علينا، فبينما حرية التعبير منقوصة ومسلوبة، يظهر “مثقفون جدد” يطالبون “بحرية التطبيع”، وقد أكالوا بادعاءات وافتراءات تصف النشطاء الذين قادوا الحملة بـ “البلطجيين والداعشيين”، ليرد النشطاء، “لو أننا داعشيون فعليكم بالبنادق لأن داعش لن تتحاور مع أي منا”.
*عن شبكة «القدس».
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني