عشرة أعوام على الانهيار الاقتصادي
أنا أذكر بالضبط أين كنت في 9 آب 2007. كان يوماً صيفيّاً حارّاً (يوم الأمّة المديونة – Debtonation day). فقد المصرفيون في جميع أنحاء العالم جرأتهم بشكل جماعي ورفضوا إقراض بعضهم البعض. وتجمّد النظام المالي المتزامن عالمياً، وبدأ انحطاطه إلى الفشل الثابت. لقد استغرق الأمر أكثر من عامٍ بعدها ليسقط بنك ليمان قبل أن يفهم العالم خطورة الأزمة.
تعريب: عروة درويش
لا تزال هذه الأزمة التي تتحرّك ببطء بعد عشرة أعوام تلعب دورها، بفترة طويلة من الانكماش والتضخم والانكماش. انخفض بين عامي 2006 و2012 عدد العاملين في القطّاع الصناعي في بريطانيا بنسبة 14%. وقد طبّقت حكومات المملكة المتحدة منذ عام 2010، يقودها بهذا جورج أوزبورن، بشكل مقصود سياسات تقشفية تهدف لتحقيق نسبة توظيف أعلى ولكن أقل أمناً. وتنعكس المعاناة الاقتصادية في انخفاض الأجور الحقيقية في بريطانيا، والذي لا يزال أقل بنسبة 6% من الأجور حين بدأ الركود، وأقل بنسبة 10% شرقي ميدلاند. أمّا العاملين بالمهن الحرّة فقد قلّت أجورهم بنسبة 22%. من بين الدول الأربعة والعشرين المتقدمة العضوة في منظمة التعاون والتنمية، فإنّ الدولة الوحيدة التي شهدت نمواً أضعف من بريطانيا بين عامي 2008 و2015 هي اليونان.
على نطاق أوسع، فإن عبء الديون العالمية، الخاصّة والعامة، أصبح الآن أضخم ممّا كان عليه قبل الأزمة. ويذكر معهد التمويل الدولي (نادي المصرفيين العالميين) بأنّ الدين العالمي ارتفع من 11 تريليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من عام 2016 إلى أكثر من 217 تريليون دولار، أي 325% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. لقد شكّلت هذه النسبة مقدار 269% من الدخل العالمي في عام 2007.
السيولة للأثرياء:
ورغم كلّ محاولاتهم، لا يستطيع مصرفيو البنوك المركزيّة إحياء الاقتصاد العالمي، وذلك رغم أنّهم يضخون كل شهر قرابة 200 مليار دولار من السيولة أو التسهيل الكمّي في الأسواق المالية. لم يكن لضخّ السيولة غير المسبوق هذا أي تأثير على الاقتصادات التي يشكّل التسهيل الكمّي أداتها الرئيسيّة (اليابان والولايات المتحدة وبريطانيا). لم تقم عمليات التسهيل الكمي بتثبيت التضخم – رغم تحذيرات الاقتصاديين التقليديين. عوضاً عن ذلك فقد أعادت عمليات التسهيل الكمي غير المقيدة وغيرها من عمليات البنك المركزي تضخيم قيمة الأصول التي تملكها النخبة الثريّة.
في الاقتصاد الحقيقي، أصبح أولئك الذين لا يملكون ويؤجرون أصولاً مدرّة للدخل: كالممتلكات الإيجاريّة والسندات (الدين الحكومي) والأسهم والحصص (التي تكسب أرباحا) أفقر، وارتفعت نسب اللامساواة بشدّة. انضم العديد من هؤلاء بهدف زيادة الدخل إلى الاقتصاد الريعي عبر تأجير منازلهم وسياراتهم ودراجاتهم. لقد كان هذا تطوراً غير عادي. يستثمر العمّال في ملكية الأصول الرأسمالية وصيانتها وتأمينها (المنزل والسيارة والدراجة)، بينما تنتزع الطبقة الريعية في الشركات التقانيّة "وادي السليكون – Silicon Valley" الإيجار دون جهد يذكر من العامل ومن أصوله، وذلك بعد أن استثمرت هذه الشركات في البرمجيات المفتوحة أو المسروقة. لقد كانت هذه التطورات هي المسؤولة في رأيي عن الارتفاع الشديد في اللامساواة حول العالم.
توقعت في 2006 بأنّ ارتفاع مستويات الدين العالمي سيؤدي إلى "تصاعد النزعات القومية". ولم تعد هذه النزعة خاصّة بالأسواق الناشئة مثل الهند وتركيا والفلبين، بل في بلدانٍ مثل الولايات المتحدة وروسيا وهنغاريا وبولندا. لقد كان التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي ذو دافع قومي برأيي. إنّ الذي استهنت به هو مدى قدرة السقوط الماليّ العالمي، وسياسة الإنقاذ المالي التي عقبت هذا السقوط، على الإفضاء إلى صعود الفاشيين والكليبتوقراط (الذين يستغلون المناصب لسرقة موارد بلادهم – Kleptocrats).
يصف الكاتب بن جودا فترة ما بعد الأزمة بأنّها العصر الذهبي لغسيل الأموال: "لم يستطع رأس المال أن يقنّع نفسه ويختفي دون أي أثر وحسب، بل إنّ مبالغ هائلة من النقود تسافر الآن حول العالم بشكل مستور. لقد جعل هذا من النظام المالي الغربي ملائماً للكليبتوقراطيين... إنّ فاتحة القرن الجديد... لاءمت بشكل ممتاز في الواقع الدكتاتوريات الكليبتوقراطيّة، وملحقاتها من زمر المحامين الأميركيين والمصرفين الفرنسيين والمحاسبين الألمان وفرق العلاقات العامّة البريطانيين".
تحدّي الأسواق:
ما الذي يجب القيام به إذاً؟ لن يكون من السهل تحدّي وتفكيك الأسواق المالية الكبيرة التي تعمل خارج نطاق الرقابة التنظيمية الديمقراطية، لكنّه الأمر الذي طال انتظاره. يعتقد البعض بأنّه لن يتمّ استعادة تنظيم الأسواق الماليّة من قبل الحكومات على الإطلاق. أنا لا أوافق على هذا الرأي. ذلك أنّه يمكن للحروب أن تندلع بسبب الاختلالات العالمية والتوترات الاقتصادية والمالية. سيؤدي ذلك إلى تفكيك الأسواق المالية العالمية كما فعلت الحربان العالميتان من قبل.
هناك طريقة أكثر سلميّة لإعادة دور الخادم، وليس السيّد، للاقتصادات والدول. وحتّى يحدث ذلك فيجب على العامّة أن يدركوا بأنّ للمواطنين حقّ ممارسة سلطتهم الاقتصادية على أسواق المال العالمية. تعتمد "بيوتات التمويل" حول العالم بشكل كلي تقريباً، وبشكل كلّي بكل تأكيد، على القطّاع العام. بعبارة أخرى: يعتمد التمويل الخاص إلى حدّ هائل على دافعي الضرائب مثلك ومثلي من أجل تحقيق مكاسبه الرأسماليّة.
لا تحتاج المصارف التجارية إلى مدخرات أو إيرادات ضريبية للإقراض. كلّ ما يحتاجونه هو توفير التمويل للمشاريع القابلة للحياة التي من شأنها توليد فرص عمل ومداخيل في المستقبل، والتي سوف تسدد القروض عبرها. والمشاريع الأكثر جدوى اليوم هي تلك اللازمة لحماية العالم من التبدّل المناخي. فأيّ حكومة ذات ثبات سياسي ستصرّ على أن تقدّم المصارف التمويل بفائدة منخفضة لمشاريع تحويليّة تساهم في الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي حيث تنشأ فرص العمل ويتولّد الدخل وتتمّ حماية المجتمع. وينبغي على الساسة إن اعترض حملة الأسهم والمدراء التنفيذيون على مثل هذا الشروط أن يمنع المصارف من التعامل مع البنك المركزي بفوائد منخفضة وبالتسهيل الكمي، أو أن تضمن الحكومة الودائع.
إنّ التسهيل الكمي، بمعنى خلق سيولة موجّهة فقط إلى القطاع المالي، أمرٌ ممكن فقط لأنّ البنوك المركزية، إن لم تكن مملوكة للقطّاع العام بشكل مباشر، تعتمد في شرعيتها وقدرتها على خلق المال على دافعي الضرائب. إنّ من يدعم البنك الاحتياطي الفدرالي في نهاية المطاف هم دافعو الضرائب، وبنك إنكلترا هو بنك مؤمم يستمد سلطته من أكثر من 31 مليون دافع ضرائب بريطاني.
الشعب يجب أن يقود:
من الواضح بأنّ المواطنين غاضبون من الطريقة التي يكافأ بها مرتكبو الأزمة المالية، وكيف يطلب من الفقراء والطبقات الوسطى أن تتحمّل "التقشف". لكنّ دافعي الضرائب راقبوا بشكل سلبي قيام مشغلي السوق الرأسمالية بحلب البنوك المركزية سيولة ماليّة بصيغ تسهيل كمّي: حيث أنّ الممولين في قطاع الظل المصرفي قد استغلوا وأساؤوا استخدام الأصول العامّة للاستفادة من أعلى المكاسب الرأسماليّة على الإطلاق، وحيث أنّ مالكي الثروة قد اقترضوا المال من البنوك المركزية بأسعار فائدة منخفضة من أجل الاستيلاء على مزيد من الثروة.
لقد شجب اقتصاديون مثل توماس بيكيتي اللامساواة، ولكنّ قلّة من الاقتصاديين الرئيسيين جادلوا لاتخاذ تدابير لإنهاء الجشع المتهور وتقييده. يمكن للتشريعات أن تنهي اللامساواة وأن توقف نهب الأصول العامة وأن تعيد التوازن إلى الاقتصادات والمجتمعات. لدى عددٍ قليلٍ جداً من السياسيين الشجاعة لتحدّي القطاع المالي. لن يقوم بذلك دونالد ترامب (الذي تتحكم وال ستريت بإدارته الآن بشكل فعّال)، وليست الحركة التي تقف خلف جيريمي كوربين حتّى، والتي تركّز على مناقشة الضرائب والإنفاق الحكومي في حين أنّ عليها التركيز على السياسة الماليّة.
لن يقوم لا السياسيون ولا اقتصاديو الاتجاه السائد بضبط قطّاع التمويل المنفلت من السيطرة إن لم يتولّى المواطنون فعل ذلك. يجب على الشعب أن يقود ليستطيع القادة اتباعه. علينا أن نستخدم سلطة البنوك المركزية ووزارات المالية التي يدعمها دافعو الضرائب من أجل المطالبة بتحويل النظام المالي العالمي. وإن تمّ تجاهل مطالبنا، فعلينا عندها أن نسحب الإعانات الضخمة المقدمة إلى القطّاع الخاص من قبل المؤسسات التي يمولها ويدعمها دافعو الضرائب.
لا شيء أقلّ من هذا سينفع إن كنّا جادين بشأن خلق اقتصادات ناجعة في العمل لأجل الناس والكوكب.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني