تسونامي آسيوي يطيح بالزعامة الامريكية
العالم يهوج ويموج على وقع تناقضات المصالح الدولية، بعد فشل حقبة تنظيم المصالح في العقد الأول للعولمة، وخوض الولايات المتحدة سلسلة من الحروب الفاشلة لرسم امتدادها الإمبراطوري فيما سمته “مشروع الشرق الأوسط الواسع″. في هذا المناخ العاصف يسعى اللاعبون الكبار على الصعيد الدولي والإقليمي إلى إبعاد نيران الحروب عن أقاليمهم، مستخدمين الحروب غير المباشرة وسيلة لعدم خوض الحرب مباشرة، والجغرافية التي نعيش فيها والممتدة على خط “طنجة – جاكرتا” تشكل جبهات متصلة لا تعوقها حدود دول أنشأتها إرادة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، تخاض فيها حروب بديلة عن الحروب الدولية المباشرة التي تطال الجغرافيا الأم وليس جغرافيا المصالح.
إذا لم تستطع الحرب تحقيق أهدافها في إكراه الأعداء، فإن المصالح سوف يتخللها فراغات نفوذ، يأتي لاعب آخر ليملأ الفراغ، إما لأنه يمتلك قوة تكنولوجيا عسكرية كما فعلت روسيا في إمساكها لوجهة الحرب المخاضة ضد سوريا، أو قوة بشرية أيدولوجية تمتلك إرادة التضحية كما فعلت إيران في كل من حروب أفغانستان والعراق ولبنان واليمن.
من هنا نلحظ أن ما يجري ما هو إلا تفكك مصالح وإعادة تركيب لها على نحو يلائم التطورات الحاصلة على صعيد الواقع، طبعاً لن تسلِّم الولايات المتحدة الأمريكية للواقعية بسهولة، فهي صاحبة استراتيجية لديها خطط بديلة، عبر مشاريع جيوبوليتيكية مدخرة كبديل استراتيجي في حال الفشل في خطوات تنفيذ المشروع كاستخدام الطموحات الكردية بديلاً عن الطموحات الإخوانية العثمانية.
إن بدائل الاستراتيجية الأمريكية وسيلة لإعادة دفة التحكم إليها، لكن التحولات العالمية شبيهة بموجة تسونامي تطيح بالهيمنة الغربية على القرون الآتية، فتنزاح القوة الاستراتيجية نحو الشرق، شرق المستقبل الذي تقع تركيا على حده الغربي، فها هي تتحرك عسكرياً باتفاق شرقي وغطاء جوي استراتيجي روسي، ستشكل أول عملية اختراق استراتيجي شرقي للغرب، فيما لو تخلت تركيا عما عرف عنها من مراوغة سياسية غير مأمونة الجانب، من هنا تشكل إدلب اختبار لإعادة بناء عوامل الثقة التي يحتاجها إتمام التنظيم الجديد للمصالح، كل طرف يتوجس من الطرف الآخر، والحامل الأهم لتلاقي المصالح هو مخاطر إنشاء كيان صدع جديد يلتقي مع الكيان الإسرائيلي المؤسس من حقبة الحرب العالمية الثانية.
لنجاح ولادة الشرق العالمي، يتوجب أولاً نجاح إدارة الرئيس فلاديمير بوتين في تثبيت تركيا بمركب المصالح الجديد والبناء عليه، هنا تأخذ سوريا مكان حجر القفل في القوس الحجري، فلا يكتمل إغلاق شبكة المصالح بدونها، وتتكشف أهميتها حالياً في إعادة تركيب المصالح، فالحرب على سوريا لم تفلح في إكراه الدولة السورية على الغايات الأمريكية، فبالرغم من التحضير المتقن للأدوات والوسائل، وُوجِهَت الحرب بمخزون مدخر من القوة ومجهز لهذه اللحظات على مدى عقود سابقة، رغم مواقع الضعف الاجتماعية السياسية التي استطاعت الاستراتيجية المعادية التسلل من خلالها داخل الجيوبولتيكا السورية. هذا لا يعني أن الحرب قد انتهت، غير أن مخاطرها باتت تحت السيطرة حالياً، وهو ما تبينه تغيرات المصالح وخطوات روسيا الثابتة في الإمساك بالمنطقة، فلو أن الحجر السوري كسر لما كان بالمستطاع الامساك بشبكة المصالح ولتَحًقَّقَ النجاح للمشروع الأمريكي.
ثمة اختراق استراتيجي لا يقل أهمية عن الاختراق الأول وهو السعودية، التي تسعى روسيا لإضافتها إلى مركب المصالح، من خلال تثبيت مصداقيتها لدى دول المنطقة بأنها أكثر وثوقية من أمريكا، فهي لم تتخلى يوما عن حلفائها حتى في أحلك الظروف. طبعاً أمريكا لا تقف مكتوفة الأيدي وهي تتفرج على نجاحات خصمها، فكما هو الاستخدام الجيوبولتيكي للأكراد في المربع الايراني التركي العراقي السوري، تستخدم أمريكا الخطر الإيراني بمثابة ضربة مرتدة في وجه الاستراتيجية الروسية تجاه السعودية، فيعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عدم التصديق على التزام طهران بالاتفاق النووي واعتماد استراتيجية مواجهة جديدة لوقف برنامج إيران للصواريخ الباليستية.
خصوم اليوم ما عادوا واهنين بل امتلكوا من أنواع القوة ما يكفي لمواجهة استراتيجيات أمريكا المفلسة، التي يمكن تشبيهها بوجبات جاهزة مُفرَّزة تجاوزت مدة الصلاحية، وهو ما ستنبئنا به التطورات القادمة.
وكالات وصحف
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني