لا تلقوا باللائمة على «أسلوب الحياة»
بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، حوّلت شركات تصنيع المواد الكيماوية، مثل دوبونت وشِل ومونسانتو، إنتاجها الحربي إلى "الحرب على الآفات" المحليّة
لورا أورلاندو لورا أورلاندو

لا تلقوا باللائمة على «أسلوب الحياة»

تم وضع المركبات الكيميائية التي تؤدي للشلل أو للقتل، مثل الفوسين والكلور وكبريت الخردل، في قذائف المدفعية الألمانية وإطلاقها بمدافع "هاوتزر" على الخطوط الأمامية في الحرب العالمية الأولى. وكان قطر القذيفة 5.9 بوصة، ممّا دفع الجنود البريطانيين لتسميتها "الخمسة-تسعة". وبحلول نهاية الحرب كان الطرفان يتبادلان رمايتها. وسواء كانت "الخمسة-تسعة" محمّلة بسلاح كيميائي أم لا، فإنّ سقوطها في خندقك لم يكن له علاقة بالحظ أو بأسلوب حياتك. لقد خلقت الحرب ظروف التعرّض للمواد الكيميائية.

تعريب وإعداد: عروة درويش

بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، حوّلت شركات تصنيع المواد الكيماوية، مثل دوبونت وشِل ومونسانتو، إنتاجها الحربي إلى "الحرب على الآفات" المحليّة. ويتمّ في ترسانة جبال روكي، حيث وحدات الكيمياء الأمريكيّة، تصنيع أسلحة كيميائية جنباً إلى جنب مع شركات خاصّة مثل شركة شِل للنفط، والتي تستأجر المنشآت العسكرية هناك لصناعة المبيدات الكيميائية.
تقدّر قيمة الصناعات الكيميائية في الولايات المتحدة اليوم بـثمانمائة مليار دولار، والتي سجلت أكثر من 80 ألف منتج كيميائي للاستخدام في الولايات المتحدة، مع تقديم ألفي منتج جديد كلّ عام. نشكّل أنا وأنت أماكن تخزينٍ لهذه المواد الكيميائيّة. فحتّى إن أقلعت عن التدخين، فلا تزال تستنشق البنزين من عوادم المركبات ومن الانبعاثات الصناعيّة. تحدّث التقرير الوطني الرابع الصادر عن مراكز مكافحة الأمراض عام 2009 والذي تمّ تحديث بياناته عام 2017، عن التعرّض البشري للمواد الكيميائيّة، فوجد 308 مادة كيميائية صناعية في دم أو بول الأمريكيين، ووجدها على نطاق واسع.
تمّ إيجاد بعض المركبات الكيميائية، مثل البيركلورات التي تسبب اعتلال نظام الغدد الصماء والإنجاب والمصنفة كمادة مسرطنة من قبل وكالة حماية البيئة، في بول جميع من تمّ فحصهم. إن أخذنا بالاعتبار تعرضنا للسموم في كلّ مرحلة من حياتنا، فإنّ إيقاف التسميم المنهجي لغذائنا ولمياهنا ولهوائنا ولتربتنا هو أمرٌ أساسي لإعطاء الأفراد فرصة لائقة لتحسين حياتهم الصحيّة.
في عام 2017، تمّ تشخيص أكثر من 1.6 مليون شخص مصاب بالسرطان في الولايات المتحدة. ويمكن إرجاع نسبة صغيرة من هذه السرطانات إلى مشاكل وراثية، في حين أن سبب نسبة الـ 90 إلى 95% المتبقية من السرطانات هي العوامل المؤثرة الآتية من خارج الجسم، والتي تغيّر ما يحدث داخله. يمكنك التحكم ببعض هذه العوامل بينما لا يمكنك ذلك ببعضها الآخر. لقد تمّ وصف تلك العوامل التي قيل لنا بأنّنا قادرون على السيطرة عليها، مثل تدخين السجائر والحمية الغذائيّة والكحول والتعرّض لأشعة الشمس والإجهاد والبدانة والخمول البدني، بكونها "عوامل أسلوب الحياة" أو "أسلوب الحياة" اختصاراً.
يمكن للأفراد، من خلال أفعالهم، المساعدة على تقدّم مراحل السرطان أو تقليل خطر الإصابة به في المقام الأول، وذلك بفرض امتلاك المرء للمال والتعليم والخيارات الوظيفية التي تسمح له بالاختيار وبالوقوف على الخيارات التي يجب اتخاذها.
ومع ذلك، يبدو أنّ التركيز على أسلوب الحياة دائماً ما يأتي على حساب نقاش السياسات العامّة ذات الأهميّة. فهو يحوّل انتباه الجمهور عن حلّ المشاكل الجماعية وعن عمليات صنع القرار المجتمعي المتعلقة بالكيفية التي يمكن بها للمواد الكيميائية، وتحت أي ظروف، أن تسبب ضرراً، وماذا علينا أن نفعل حيال الأمر.
لقد أظهرت دراسة تمّ إجراؤها في كاليفورنيا عام 2015، وتتألف من متابعة 20،754 حالة حمل على مدار 54 عاماً، بأنّ النساء اللواتي تعرضن للمبيدات وهنّ في الرحم قد تضاعفت مخاطر إصابتهن بسرطان الثدي أربعة أضعاف. لقد تمّ استخدام أكثر من 85 ألف طن من المبيدات في ذروة الاستخدام عام 1962. ليس للطفل الذي يسكن رحم أمّه أيّ خيار في هذا الأمر. تقع مسؤولية مكافحة المواد الكيميائية المسببة للسرطان على عاتق المجتمع، وليس على عاتق الفرد.
ها نحن وقد مضى على نهاية الحرب العالمية الأولى مائة عام، ولا يزال الناس حول العالم يفتقرون للحماية من المواد الكيميائيّة التي تنتجها الشركات التي تحقّر صحّة الإنسان. يخبرنا روري أونيل، بروفسور سياسات الصحّة المهنيّة والبيئيّة في جامعة سترلنغ في إسكتلندا، بأن لا ندع الأضواء المسلطة على "أسلوب الحياة" تخدعنا بوصفه المسبب الرئيس للسرطان:
(هناك عدّة مشاكل بشأن التركيز على أسلوب الحياة كسبب للكثير من الاضطرابات المزمنة، بدءاً من السرطان ومروراً بمرض السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية ووصولاً إلى الأمراض العصبية وغيرها ... إنّها جميعاً، بالإضافة للأمراض العقلية والانتحار على رأسها، ليست أشياء تحدث بتأثير "أسلوب الحياة"، بل بسبب:
- التعمية الأولى: رغم أنّ الأبحاث تُظهر مخاوف حقيقيّة بشأن المخاطر البيئية والمهنيّة، يتمّ التشكيك بالنتائج وإغفال الدلائل القويّة عليها، وتبقى الاستجابة بأنّ أسلوب الحياة هو المشكلة الحقيقية. يتم تسويق هذا عبر وسائل ممولة جيداً من قبل الصناعات السرطانية، وقد وصف هذه العملية بشكل وافٍ كلّ من ديفرا ديفيس وجانيت شيرمان وجو لادو وبارزون غيرهم.
- التعمية الثانية: حيث تثبت الأبحاث وجود ارتباط بين الصناعات الكيميائية والسرطان، توجد دائماً جوقة تقول: دعونا نضع هذا الهراء البيئي والمهني المراد به لفت الأنظار وراءنا، ولنركز على أسلوب الحياة الذي يشكّل السبب الحقيقي. انظروا لما حصل مع الورقة البحثية الصادرة مؤخراً عن جامعة أكسفورد، والتي تستبعد الارتباط بين خطر الإصابة بسرطان الثدي والعمل في نوبات ليليّة. لقد تمّ تناقل هذه الورقة بشكل واسع غير نقدي في وسائل الإعلام. كان العنوان الذي نشرته بي.بي.سي: "لا تزيد النوبات الليلية احتمال الإصابة بالسرطان". عندما يتمّ نشر بحثٍ يربط الكيماويات أو أماكن العمل بالسرطان لا يحدث هذا، فمجموعات أسلوب الحياة تكون بالانتظار في الأروقة ومعها دفوعها في كلّ مرة.
- أنت المخطئ: عندما يثار تغيير أسلوب الحياة كأمر وقائي، تكون اللهجة عموماً لائمة: تتبع الحمية الغذائية الخاطئة أو تشرب الكثير من الكحول أو تدخن أو لا تمارس الرياضة ... ولكن هذه الأشياء هي العواقب وليست الأسباب. إنّ الأجور المنخفضة والأعمال الرديئة والبطالة وانعدام الأمن وولادتك في طبقة اجتماعيّة-اقتصادية متدنية والبقاء محاصراً فيها، هي المشاكل التي تحتاج لنعالجها. تدفع الظروف بالعادات السيئة لإزالة الخيارات الإيجابيّة. كمثال: سوف "تختار" الأطعمة المعالجة والمشبعة بالسكريات إن كانت ميزانيتك وساعات عملك الطويلة ذات الأجر الضئيل أو إن كنت عاطلاً عن العمل، حيث أنّ البدائل المتاحة لك ستكون معدومة بشكل عملي.
العمّال المثقلون والمضغوطون أكثر عرضة للتدخين ولاتباع كلّ العادات السيئة الأخرى. ضعهم في نوبات ليليّة دون القدرة على الحصول على طعام لائق أو جدول نوم لائق وسوف ترى التأثير. وأضف إلى ذلك التحيّز على أساس الجنس أو العرق، وستضخّم من هذه الأثار. إنّ لوم الناس على أسلوب حياتهم دون النظر إلى الدوافع الاجتماعية-الاقتصادية التي تحفّز "خياراتهم" هو بمثابة نكأ الجرح بملح.
- العلم متحيّز: لقد بات علم الصحّة المهنيّة والبيئيّة المستقل المموّل من القطاع العام، سواء من قبل الأكاديميين أو من الهيئات العامّة، أمراً نادراً. فالأبحاث يتمّ تمويلها (وغالباً بشكل سري) من قبل الصناعات التي تقوم بذلك بدافع الخوف من الآثار القانونيّة للأبحاث الطبيّة وليس بدافع الخوف على الصحّة العامّة. انظر إلى قانون معايير عنصر البيرليوم الذي تمّ انتظار تشريعه مدّة أربعين عاماً والذي تم إقراره في آذار 2016، أو قانون معايير السليكا القابل للاستنشاق، أو "الاحتيال العلمي" الذي استخدم للدفاع عن استخدام حرير الكريستويل الصخري (والممنوع استخدامه في كندا، ولكن وبفضل جماعات الضغط لا يزال مشروعاً في أمريكا)، وإنكار أنّ النسب المنخفضة من التعرض للبنزين تسبب السرطان (شكراً لجمعية السرطان الأمريكية)، الرابط بين المنغنيز ومرض باركنسون، وقلّة التشريعات الناظمة لتوزيع الكيماويات، وتطول القائمة.
لقد عبرت قائمة الإرشادات الهزلية لصناعة التبغ من صناعة لأخرى، حيث كانت عملية زرع بذار الشك مجزية للغاية وكافية لإدامة جيل آخر من التعريض للمخاطر، وعقدٍ آخر أو اثنين من جني الأرباح.
لا تكمن المسألة فيما إن كان الدور الذي يلعبه أسلوب الحياة في التسبب بالسرطان حقيقي، بل في كيفيّة استخدامه كعذرٍ لتقويض أو إنكار أيّ دور تلعبه الصناعة، عبر التحيّز الاجتماعي والحرمان الاقتصادي، في إدامة الظروف التي تؤدي إلى الكثير من السرطانات والتي تؤثر على معدلات النجاة من السرطان. لكن عندما نثير هذه المسائل، يتم إسكاتنا وضخّ المال لمواجهتنا من قبل ذات الشركات والمصالح التي تستفيد من الإبقاء على الوضع الراهن).

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني