بولندا: عودة السياسة
في 20 تموز الماضي، مرّر البرلمان البولندي مجموعة من القوانين في محاولة للسيطرة على السلطة القضائية في البلاد. كان التوقيت مثالياً: إنّها ذروة العطلة، فتوقعت الحكومة تصويتاً سلساً وردود فعلٍ قليلة من الجماهير.
تعريب: هاجر تمام
أثناء ساعات البث المباشر من البرلمان، سرى شعور متزايد بالاستغراق في إعادة بناء تاريخي مشابه لما حدث في عشرينيّات القرن العشرين، عندما دفع النظام الاستبدادي تجاه قانونٍ مماثل. بعد قرن من الزمان، وفي إحدى دول الاتحاد الأوروبي، كان الحزب الحاكم يحاول إقناع الشعب البولندي بأنّ سحق القضاة العصاة هو حقّ ديمقراطي للحكومات المنتخبة.
صوّت البرلمان على مشروع القانون. قام الحزب الحاكم بقمع المعارضة في القاعة وشرع باستكمال أجندته ذلك اليوم. فقد ياروسلاف كاتشينسكي، زعيم حزب القانون والعدالة الحاكم، في وقت لاحق من تلك الليلة التي لا تُنسى، السيطرة على نفسه واتهم المعارضة بقتل شقيقه الذي توفي في حادث طائرة في سمولنسك.
فعندما ازداد جو الاحتقان في البرلمان، مضى كاتشينسكي إلى المنصّة (دون إذن رئيس البرلمان) وصرخ بنواب المعارضة: "لا تذكروا بأفواهكم الغادرة اسم شقيقي. لقد قتلتموه أيها الأوغاد".
هذه هي الطريقة التي صوّت بها برلمان بلدٍ ذي ذاكرة لا تزال عابقة بذكرى بالاستبداد، والذي لا تزال نخبه السياسية متصلة من حيث جذورها بحركة "تضامن"، على إنهاء الفصل بين السلطات. لقد كان وصول حزب القانون والعدالة إلى السلطة تحت شعارات: "ضمان حصول الناس العاديين على العدالة التي يستحقونها" و"إزالة رجالات الحقبة الشيوعيّة من المحاكم" من المحاكم.
هذا بكل تأكيد لا علاقة له بما يحصل في الحقيقة: لقد شهد القطّاع القضائي تغييراً جذرياً منذ عام 1989. بغض النظر عن ذلك، فإنّ كلاً من مشاريع قوانين الحكومة الثلاثة قد هدف لزيادة سلطة وزير العدل، وهو يشغل أيضاً منصب المدعي العام ضمن إطار الهيكل القانوني الحالي. حاولت الحكومة عزل كبار القضاة في البلاد، لتعيّن بدلاً منهم نواباً يرشحهم النائب العام بشكل مباشر. باختصار، لو تمّ إنفاذ القانون لسيطرت الحكومة على السلطة القضائية.
في البداية، وجد أولئك الذين عارضوا التدابير أنفسهم مربكين: ما الذي يعنيه ذلك، هل كانت البداية لنوع من الديكتاتورية؟ وكيف يمكن وقفها والحزب الحاكم يسيطر على مجلس النواب ومجلس الشيوخ والرئاسة؟ من هم المعارضة تحديداً؟
سلسلة من النور:
نزلت المعارضة إلى الشوارع في غضون ساعات. العشرات من منظمات المجتمع المدني الذين انضمت إليهم القوى البرلمانية والقوى خارجه. أطلقوا عشرات، إن لم يكن مئات، المناسبات والمسيرات والمظاهرات والاعتصامات.
ركزت التعبئة على قضيتين: الأولى: الغضب إزاء التسييس المباشر للمحكمة العليا والتأثير المحتمل على حريّة الانتخابات، وثانياً: مطالبة الرئيس باستخدام الفيتو ضد القوانين الثلاثة، وهو السيناريو الذي بدا غير قابل للتصديق في حينه.
اتخذت الاحتجاجات أشكالاً عديدة. وقد نظم "رازم"، وهو الحزب اليساري الأكثر شباباً وحيويّة، العديد من المناسبات احتجاجاً على مشاريع القوانين، بينما بقي في الوقت نفسه ينتقد النظام السائد.
عقدت المعارضة البرلمانية مظاهراتها الخاصة، مع صفّ من سياسيي الشركات الذين ألقوا المواعظ والشعارات النيوليبرالية المتوقعة. ومن المثير للاهتمام قيام مظاهرات بقيادة نسويين من مجموعة "الاحتجاج الأسود"، وهي إحدى أكبر الحركات المؤيدة للنسويّة في تاريخ البلاد، فتظاهروا ضدّ حظر الإجهاض المخطط الذي سرى في تشرين الأول 2016.
ربّما كان أكثر الاحتجاجات نجاحاً، سواء من حيث الأعداد أو المعنويات العامّة، هي سلسلة مظاهرات "لا شعار" التي عرفت باسم "سلسلة النور"، حيث حظّر المنظمون الشعارات السياسيّة بشكل واضح.
تجمّع آلاف المواطنين البولنديين وحملوا الشموع واستمعوا للموسيقى الحيّة وغنوا النشيد الوطني. وفّرت هذه الصيغة منفذاً هاماً لأولئك الذين لا يشعرون بأنّهم مستعدون لموائمة أنفسهم سياسياً. نميل في أوقات الأزمات إلى أن نترك عواطفنا تقودنا قبل أن نقوم بردّ فعل عقلاني: إنّها الحاجة للتعبير عن العاطفة التي لم يتمّ تشكيلها سياسياً بعد.
ولمفاجأة معظم المشاركين بشكل كبير، انتهت عمليات التعبئة بنجاح: فقد وافق الرئيس على استخدام حقّ الفيتو ضد اثنين من ثلاثة القوانين التي صاغها حزبه السابق، وهو القرار الذي لا بدّ كان صعباً للغاية سواء من الناحية السياسيّة أو النفسيّة. لقد بدا غير محتمل أنّ حزب القانون والعدالة هم الذين نظموا هذا المنعطف في الأحداث كما اقترح البعض، وهذا تركهم ضعيفين. وحتّى لو كانوا قد فعلوا، فلم يكن لهم أن يتوقعوا حجم الحشد المجتمعي.
لكنّ المظاهرات الجماهيرية ليست سوى خطوة أولى. لقد عفا الزمن على المشهد السياسي في بولندا، حيث تفتقر معظم أحزابها إلى الوضوح السياسي، ناهيك عن التماسك الأيديولوجي. وينتهي المطاف في مثل هذه الظروف بالتعبئة مجهولة الهويّة وقد اختارت سياسيي الشركات.
هذا ما حصل إلى حدّ كبير مع "الاحتجاج الأسود": إنّ الأحزاب التي كانت في السابق تدعم قوانين صارمة مناهضة للإجهاض، تعاظمت قوتها في استطلاعات الرأي بعد الاحتجاجات. إنّ نجاح الحركات الاجتماعي، في غياب بديلٍ يمكنه حصد الدعم الشعبي، سيخدم فقط تعزيز صورة سياسيي الشركات على أنّهم المعارضة الشرعية.
وقد أثبتت حركات "بلا شعار" قيمتها عندما يلزم اتخاذ إجراء سلبي: حظر التشريعات غير الدستورية، والإعراب عن الغضب إزاء قانون همجي مناهض للإجهاض. إنّها مسارب لإنشاء تحالفات واسعة ولتعظيم المشاركة الاجتماعية ولتوفير الوقت للجهات الفاعلة سياسيّاً كي تأتي بالاستراتيجيّة الصحيحة.
هذا أمر لا يقدر بثمن في وقت الأزمات السياسية. ولكن لا يمكن على المدى الطويل أن ينشأ عنه خطّة عمل إيجابية أو رأس مال سياسي يؤدي للقيام بإصلاحات تدريجية. إن أردنا أن نكسر الحلقة المفرغة التي تستفيد فيها أطراف الشركات من التعبئة الجماهيريّة المناهضة للشركات، فإنّ علينا أن نجعل من مقاومتنا علنيّة سياسيّاً.
توافق الآراء ليس في الوسط:
إنّ البيئة أمرٌ بالغ الأهمية في سبيل إعادة تأكيد السياسة. لقد رافق التحول الاقتصادي في أوروبا الوسطى والشرقية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي ما وصفته ناعومي كلاين بشكل شهير "بعقيدة الصدمة". وكما ذكرت، في أواخر عام 1992 كان لا يزال 60% من المواطنين البولنديين يعارضون خصخصة الصناعة الثقيلة.
ادّعى جيفري ساكس، الذي سيّر هذه السياسات، بأنّه لم يملك الخيار. وقد شبّه دوره بالأمر بالجرّاح في غرفة الإسعاف: "عندما يأتي رجلٌ إلى غرفة الإسعاف وقد توقّف قلبه، تفتح له قفصه الصدري ولا تعبئ بالندوب". ورغم أن ساكس نفسه قد عدّل نهجه بشكل كبير جدّاً وراجع موقفه النيوليبرالي، فإنّ نظرائه البولنديين، الذين يشكلون قادة بارزين بالمعارضة الآن، لا يزالون عالقين في بداية التسعينيات.
إنّنا نرى هذه الندوب التي لم تشفى منذ ما يقرب من ثلاثة عقود. لقد أظهر الناخبون عبر التصويت في عام 2015 لحزب القانون والعدالة بأنّ السياسات النيوليبرالية قد استنفذت ما لديها، لتترك الكثير من الناس دون وظائف أو أمل أو مستقبل. إنّ ما كتبه شانتال موف عن السياسة الوسطيّة لا يزال صالحاً اليوم:
"يسمح توافق الآراء في الوسط للأحزاب الشعبوية بأن تظهر بأنّها القوات الوحيدة المناهضة للشركات، والتي تمثل إرادة الشعب. وبفضل الخطاب الشعبوي الذكي، فإنهم قادرون على التعبير عن العديد من مطالب القطّاعات الشعبية التي ازدرتها نخب العصرنة، وعلى تقديم أنفسهم كضامنٍ للسيادة الشعبية".
الفرق هو أن الخيارين المتاحين ليسا، كما هو الحال في العديد من البلدان الغربية، الوسط والشعبوية اليمينيّة. إن "الوسط" البولندي، الذي يتمّ إجباره حالياً على الخروج من السلطة، أصبح الآن أقرب إلى اليمين من الناحية الاقتصادية منه من أيّ قوة مناظرة له في الغرب. ولا يزال سياسيوه يعتقدون بأنّ المزيد من الخصخصة هو الحلّ لجميع العلل الاجتماعية.
من ناحية أخرى، فإنّ حزب القانون والعدالة هو حزبٌ يدعي معاداته لنمط الشركات مع ميل متزايد نحو الحكم الاستبدادي. وكلّما أصبح المعسكر الليبرالي مهجوراً وغير موجود، كلّما بات من الأسهل على "الخاسرين" الترويج لأنفسهم كرجالات عصر التحوّل.
يتقن كاتشينسكي هذا الفن، وينجح في الصورة الزائفة الحاليّة للجدال السياسي مع حزبه في طرف ومعسكر "الخصخصة هي العبودية" في الطرف الآخر. إنّ محاولة حزب القانون والعدل للهيمنة على القضاء هي فقط الخطوة الأخيرة على طريق الدكتاتوريّة الناعمة، وخططه للمضي أبعد من ذلك بكثير.
تتساءل الكثير من الأصوات من اليسار فيما إن كان عليها أن تدافع في مواجهة أزمة دستوريّة عن مؤسسات الديمقراطية الليبرالية، وخاصّة إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّها غير فاعلة غالباً. لا يمكن تصوّر الاشتراكيّة دون ديمقراطيّة، ومع ذلك فإنّ اليسار منقسم عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن المبادئ الديمقراطية الأساسية.
إنّ الناشطين على الخطوط الأمامية للنضال من أجل إحلال العدل – منع الإخلاء من المنازل ومكافحة قوانين مناهضة الإجهاض وتنظيم العمّال والتحقيق مع المتنفذين – يعرفون بأنّ المحاكم تأخذ جانب الأثرياء. ويبدو الدفاع عن الديمقراطية صعباً للغاية عندما يتحتم عليك الوقوف جنباً إلى جنب مع عرابي عقيدة الصدمة.
وهذا هو بالتحديد السبب في أنّ التعبئة الأخيرة لإنقاذ جهاز قضائي مستقل يشكّل إنجازاً هاماً في مشهدنا السياسي. فقد كانت موجة احتجاجات متعددة الأبعاد ومتنوعة سياسياً تخدم طبقة واسعة من الفاعلين الاجتماعيين الذين كانوا متحدين في التعبير عن غضبهم واستعدادهم للتصرّف. وقد نجح الأمر بشكل لم يكن يتوقعه الكثيرون.
يقول الليبراليون الآن بأنّه يجب علينا أن نشكّل معارضة موحدة لمجابهة كاتشينسكي. هذا بكل تأكيد ما يتوقع منهم فعله، فمع برنامجهم غير الشعبي لم يعد أمامهم خيار سوى لعب ورقة "نحن أو هم". لكن لا يمكن أن يتم تحقيق أيّ تقدم سياسي حقيقي بوجود مثل هذا التحالف. يجب أن يكون الردّ على كاتشينسكي هو تعزيز التعددية السياسية وليس تقليصها، وذلك لرسم سياسات أكثر دقّة وذات مغزى بدلاً من تركها غير واضحة.
لقد جادلت ماريا جانيون، الناقدة الأدبيّة والثقافيّة البارزة، لسنوات عديدة قائلة بأنّ التحوّل الاقتصادي البولندي لم يقابله تطور للرموز والطقوس والممارسات الثقافية.
لقد شددت على أنّ الحركة العاطفية للجماهير تحتاج للنضوج لتصبح حركة فكرية، وإلّا فإنّها ستتحول حتماً إلى الإحباط والفوضى. يتعيّن على اليسار البولندي أن يحلل هذا الوضع بعناية وأن يستخلص الدروس من كلا العمليات المشتركة الجديدة غير المتوقعة، ومن الشروخ الصارخة التي ظهرت في هذه العملية.
إنّ البلد مقسم على مستويات عديدة، ومع ذلك فقد شهدنا خلال العامين الماضيين إعادة إحياء حقيقيّة للشعب البولندي، الذي أظهر استعداده للكفاح من أجل مستقبل أفضل. تكمن مهمتنا في التأكد من عدم إهدار هذه الطاقة، وبأن يملك هذا الشعب السياسة – بدءاً من أصواته في الانتخابات القادمة.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني