العولمة وتوظيف مقولة الاختلاف ما بعد الحداثيّة بالتفتيت

العولمة وتوظيف مقولة الاختلاف ما بعد الحداثيّة بالتفتيت

ما يتبدّى لنا في الخطابات ما بعد الحداثية من خلال هجومها على الشكل الجدليّ للسيادة الحداثيّة لعصر التنوير، يتبيّن لنا عزماً على أن تكون أكثر قدرةً على مشاهدة كيفية قيامها بمعارضة منظومات السيطرة والتحكّم، مثل العنصرية والتفريق ما بين الجنسين، عن طريق تفكيك الحدود التي تحافظ على التراتب الهرميّ بين الأبيض والزنجيّ، وبين الذكر والأنثى، إلخ...

 

غريغوار مرشو ـــ تلك هي الطريقة التي يطمح من خلالها أساطين ما بعد الحداثة إلى إدراك ممارستهم النظريّة بوصفها وريثة طيفٍ كاملٍ من النضالات التحرريّة، ما يجري على تفسير أشكال تحدّي الهيمنة السياسية والاقتصادية الأوروبية وحكمها الاستعماريّ.
بموجب هذا الطرح نرى أن نجاحات حركات التحرّر الوطنية والحركات النسائية والنضالات المعادية للعنصرية والتيارات الإسلاميّة المتشدّدة، على أنّها نتائج السياسة ما بعد الحداثية. وهذا بكونها هي الأخرى تستهدف نسف نظام السياسة الحداثية وثنائيّاتها. فإذا كان الحديث مثلاً هو ميدان سلطة الأبيض الذكر الأوروبيّ، فإنّ ما بعد الحداثي سيكون بطريقة متناظرة تماماً ميدان تحرّر من ليس أبيض، ومن ليس ذكراً ومن ليس أوروبياً. فأيّة سياسة، بأفضل أشكال ممارستها ما بعد الحداثية الجذريّة، لا تجسّد فقط، برأي أصحابها، قيم وأصوات المهجّرين والمهمّشين والمستغَلّين والمضطهَدين في الأرض، ولا تنسف ثنائيات جديدة، بل يتمّ تركها تفعل فعلها عبر الحدود.
تقسيم المقسَم وتشييء الآخر

إلاّ أن هذه المقاربة بالرغم ممّا تشي بأنّ الكثيرين من منظّري ما بعد الحداثة المختلفين صريحون في رفضهم المطلق لمنطق السيادة الحداثية، نراهم عموماً شديدي الارتباك إزاء طبيعة تحررنا العربيّ المحتمل منها. وهذا يعود، على الأرجح وبالتحديد، إلى أنّهم لا يستطيعون أن يتعرّفوا بوضوح على أشكال السلطة التي باتت اليوم قادرة على أن تحلّ محلّها. وهم الأعداء القدامى، ضدّ فلاسفة عصر التنوير، أو على الأرجح ضدّ الأشكال الحداثية للسيادة واختزالاتها الثنائية للاختلاف والتعدديّة إلى بديلٍ وحيد بين الذات والآخر. إلاّ أن تأكيد الهجنة والتحرّك الطليق لألوان التباين غير المحدود، لا يكونان عاملي تحرير إلاّ في سياق توظّفه السلطة لوضع التراتبية الهرميّة حصريّاً عبر هويات جوهرانية، وانقسامات ثنائية، وتعارضات راسخة ومستقرّة ثابتة، بحيث تبقى السلطة وأشكال منطقها في العالم المعاصر شبه منيعة كليّاً على الأسلحة التحرريّة لسياسة الاختلاف ما بعد الحداثية؛ ممّا يجعل النزعة الإمبراطورية هي الأخرى ميَّالة في الحقيقة لنسف تلك الأشكال الحديثة من السيادة، ولتمكين أوجه الانفلات من كلّ ضروب الحدود الحمائيّة الفاصلة بين الدول.
هذا ما تحاول اليوم الولايات الامريكية المتحدة القيام به - رغم أنّها لم تعد مستأثرة بالأحادية القطبية لظهور أقطابٍ أخرى على الساحة الدولية - بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وبوتيرةٍ أسرع بعد حادثة البرجين (11/ايلول/2001) عبر غزوها أفغانستان والعراق وتقسيمها للسودان وتدخّلها الجويّ العسكريّ في ليبيا إبّان الانتفاضات العارمة في بعض البلدان العربية (تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين والمغرب ثم سورية والأردن....)، بدايةً عام 2011، واختراقها لسيادات دول عالم الجنوب سواء لوحدها أو عبر حلف الأطلسيّ أو وكلائها المحليين. كلّ ذلك بهدف تسليع الشعوب المستهدفة وما لديها من رساميل معنوية وماديّة واستباحتها بغية إعادة التقسيم والهيكلة لدويلات على قواعد مذهبيّة أو دينيّة أو إثنيّة.
تسليع الشعوب واختزالها إلى كيانات تضاديّة

كلّ هذا يجعلنا ندرك تماماً إلى أيّ مدى لا يهدف النظام العالميّ الاستهلاكي الجديد للديمقراطيّة المفخّخة إلى تمكين الجماهير من التحكّم في مصيرها، وإنّما هي أداته في اقتحام الحدود وإعطاب الدولة القوميّة المركزيّة الصغيرة - صنيعة أسلافه - حتّى يتسنى لهذا النظام قولبة البشر وإزالة العوائق الإنسانية والأخلاقية، وحتّى تصبح كلّ الأمور متساوية ونسبية حتّى التسييب، ويسود ما يسمى "تساوٍ معرفيّ كام"، ما هو في الواقع سوى عملية تسوويّة غير تكافؤية بالمضمون. بذلك تُمحى كلّ الثنائيات بحيث تُمسي الأجساد سلعة، والعقول آليات، والعالم عقارات، والأوطان فنادق وملاهي، أو يُراد أن تكون فريسة للمزاد لتوطين قواعدٍ عسكرية وإقامة شركات متعدّدة الجنسيات للاستثمار منفلتة من القيود الضريبيّة الحمائية. هذا عدا عن تقليص التزامات الدولة، مما يجعل الدولة تستقيل عن القيام بدورها الرعائي لشؤون التنمية والاجتماعية والصحية... أمّا ما ينفع الإنسان الطبيعي فيختزل إلى انخراط جنينيّ (نسبة إلى الجنين) في المنظومة الآليّة.
بحيث يصبح الجميع سواسية مثل أسنان المشط الأمريكي البلاستيكي. على أثر ذلك، يتمّ التخفيف من عبء الهويّة والضمير والاختيارات الأخلاقية المركّبة. ويتمّ طرح سنغافورة مثلاً أعلى يُحتذى به، وهي بلدٌ معقّم من التاريخ والذاكرة، إذ أنّها شوارع إسفلتية عرضيّة وأبراج إسمنتية تشكّل مجموعة هائلة من المصانع (دون شروط صحيّة) والمتاجر والملاهي. هذا ما يُراد (ولكن على شكلٍ أسوأ) لبلدانٍ كمصر ولبنان والأردن وسوريا وغيرها من البلدان العربية وغير العربيّة، من خلال تجزئتها إلى كيانات مصَغرة ممصوصة القوى على شكل جزرٍ مقطوعة الأوصال، منهوبة متاحفها وكنوزها الأثريّة وثرواتها الطبيعية كما حصل في العراق وليبيا ويحصل اليوم في سورية.
بهذا المعنى يمكن القول بأنّ النظام الجديد هو إمبريالية ما بعد حداثية؛ إذ سيجد الإنسان نفسه في عالمٍ بلا تاريخ وبلا ذاكرة (كما يحصل في العراق وفلسطين وفي سورية) تتفكّك فيه علاقة الدال بالمدلول، وينزلق فيه الإنسان من الخصوصيّة الإنسانيّة التاريخية إلى عالم الطبيعة والمادّة والجنس. تحيط به إمبريالية ناعمة في دورانها مطابقة لدوران حريّة السوق والاقتصاد، مدمّرة في مفاعيلها، تأبى أن تسمّي نفسها إمبريالية... وإنّما النظام الدولي الجديد [1].
تكمن المخاطر في معظم النظريّات ما بعد الحداثية، حينما تفضي باهتمامها وبمزيد من الإصرار لا إلى هدم نمط أشكال السلطة فقط، وإنما إلى تقليص مهمّات الدولة، التي يخيّل لها إنها هاربة منها لا تلبث أن تسقط في غفلة في أحضان وقبضة السلطة الجديدة المتمثلة اليوم بالليبراليين الجدد على اختلاف ألوان جلدتهم. من هذا المنظور، يمكن لحملة التأكيدات التهليليّة الاحتفالية لفرسان ما بعد الحداثة النخبوية وظلالهم في عالم الجنوب، وبالتحديد في المشرق والمغرب العربيين، أن تبدو في قسمٍ منها ساذجة في تفاؤليّتها، إن لم أقلّ مضلّلة إلى حدٍّ خطير في دعواها.
كيف ذلك؟ لقد تناسلت كثرة من المذاهب العزيزة على قلوب أساطين ما بعد الحداثة، وتناغمت تناغماً كاملاً مع الإيديولوجية الراهنة لرأس المال المشترك وحرية السوق المعولمة. بدليل أن إيديولوجيّة إطلاق العنان لحرية السوق العالمية ظلّت باستمرار الخطاب المعادي للأسس والجواهر، بالمطلق، ولتدخّلات الدولة الرعائية للمجتمع، بحيث باتت شروط انتعاش إمكانيات وجودها بالذات مرهونة بنزيفٍ من التداول والدوران والحرية والاختلاف [2] إلى حدّ استثماره في تصنيع سلسلة من الخلافات التضاديّة الإحترابية على حساب الإغناء والإئتلاف. بذلك صارت التجارة تحرص على الجمع بين أوجه الاختلاف وتدفع، بموجب هذا الأخير، إلى توليد أشكال متكاثرة من التباين بلا حدود، على صعيد الكتل السكانية والثقافات.
تجريف العقبات أمام حرية السوق

مع انطلاق حريّة السوق العالمية في الثمانينات (الحقبة الريغانية -التاتشرية) وبلوغ ذروة انتشارها في التسعينات من القرن الفائت، على يد الولايات المتحدة ثمّ حلفائها، أصبحت حرية السوق المعولمة تميل إلى تفكيك حدود الدول القوميّة، وبخاصّة في بلدان الجنوب باعتبارها باتت تبدو، بنظر السوق العالمية، عقبات للأداء يقتضي خرق سياداتها وإعادة هيكلتها أو تعطيل ما تبقّى لها من حدود دنيا حمائيّة رسمية، تتمّ ممارستها فقط مع الشعوب، أو استباحتها وتقسيمها على خلفيّات دينيّة ومذهبية أو إثنية وجهويّة وقبلية (الاتحاد السوفياتي، يوغوسلافيا، الصومال، إلخ ...).
ضمن هذا السياق، إنبرى وزير العمل الأمريكي السابق روبرت إيش مهللاً للتغلّب على الحدود القوميّة الوطنيّة في السوق العالمية، بدعوى أن فكرة الاقتصاد القومي بالذات تغدو دون معنى بمقدار ما تصبح جلّ عناصر الإنتاج عدا العمل - المال والتكنولوجيا والمصانع والمعدّات - قادرة على الانتقال دون عناء عبر الحدود. وفي المستقبل لن يكون ثمّة منتجات أو تكنولوجيات وطنيّة-قوميّة وشركات قومية وصناعات قومية [3].
وفي الواقع إنّ إيديولوجيّة الاختلاف العالميّة المجذّرة من قبل السوق العالميّة لا تحرص جديّاً على الحركة الحرّة والمساواة والتكافؤ بين الأمم والشعوب، بل على العكس تقوم على فرض تراتبيات محكومة بالتمييز القيميّ حسب الأصول الثقافية الجوهرانية كي يسهل إحتواء ومحاربة تنظيم العمال أو تكسير التضامن والتعاضد والتواصل ما بين الأفراد أو الجماعات أو الشعوب ، من أجل تحقيق المزيد من الأرباح لأصحاب الشركات المتعددة الجنسيات عابرة القارات والقوميات.
ضمن هذا السياق يمكن القول أنّ منظري ما بعد الحداثة يتمّ استثمارهم وتوظيفهم كحرّاس يشرون إلى هذا المعبر مما يتعذر عنهم على هذا الصعيد. ولعلّ هذا ما حدا بقسمٍ كبير من اليساريين التروتسكيين السابقين، الذين أجهدهم انتظار الفردوس الشيوعيّ المنشود، إلى إيجاد ملاذٍ لهم في الليبرالية الجديدة يعوّض عن انحسار جمهورهم من حولهم [4]. هكذا استبدلوا حتمية سقوط الإمبريالية بحتمية العولمة الواعدة تحت راية توزيع الديمقراطيّة في العالم بتوجيهات القيادة الأمريكية.
بناءً على ما تقدّم نرى أن سياسة الاختلاف تؤدّي إلى عكس المآلات المرتجى منها: التفاعل والإغناء والائتلاف. كونها تنزلق إلى ركوب قاطرة عولمة ملغومة، متأهّبة إلى إعادة تقسيم المقسّم - السايكس-بيكوي في المشرق العربي - لافتعال حروب استباقية مدمّرة من قبل مستبدّيها، واصطناع حروب إقليمية أو أهليّة بالوكالة على قاعدة مذهبيّة أو دينية أو إثنية وجهويّة وقبلية، لا للحيلولة دون نجاع نهوضٍ تحرّري لشعوبٍ طامحة للإطاحة بمستبدّيها الذين كانت القوى العظمى وراء تثبيتهم على صدورها فحسب، وإنّما لوأد استحقاقاتها عبر التدخّل في شؤون مصيرها عسكرياً لقولبتها وفق مصالحها باسم حرصهم على مسار "الربيع العربي".

* باحث وأكاديميّ مقيم في فرنسا، ألّف مؤخّراً: "من الاستتباع إلى الاستبداد، حفريّات في آليّات احتلال العقل"، دار الملتقى، حلب، سوريا، 2009.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] راجع بالتفصيل عبد الوهاب المسيري: "الحداثة ما بعد الحداثة، حوارات القرن الجديد"، دار الفكر، دمشق، 2003 ص175-176
[2] مذكور في كتاب الإمبراطورية، مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، ترجمة فاضل حتكر، مطبعة العبيكان، السعودية ص 231-232
[3] Robert Reich : the Work of Nations, New York-London, 1992 p 83.
[4] Alain Touraine : Critique de la Modernite, Fayard , Paris p 16

معلومات إضافية

المصدر:
لوموند دبلوماتيك