سياسة الحلف الغربي تواصل زعزعة المنطقة
لا يختلف اثنان أنّ الولايات المتحدة الأميركية والتحالف المنضوي تحت جناحها لا يزال يملك الكثير من عوامل القوة، والتأثير، والفعالية، والتدخل في أماكن مختلفة من العالم.
فهو لا يزال يملك الكثير من القدرات الهائلة، وخبرة التخطيط والتنظيم وقبل كل شيء: الاستعداد الدائم للهجوم والمجابهة، رغم أنه خسر الكثير من المقدرة وقوة الضغط التي كانت لديه في السابق تحت تأثير خسارته لمعارك استراتيجية كأفغانستان والعراق، يقابله تصاعد موضوعي للمحور المواجه له المكون أساساً من روسيا والصين وإيران وحلفائها، كما أنه يواجه أزمة مالية عصفت بنظامه الليبرالي، إلا أن ذلك لا يعني البتة هزيمته النهائية، ولا استسلامه أمام أزماته، والتخلي عن مصالحه الاستراتيجية الكبيرة.
كانت الولايات المتحدة الأميركية قد سارت في الشرق وفق الخطة التي أطلقت عليها تسمية «الفوضى البناءة»، وأهم أهدافها السيطرة على منطقة الشرق بتفكيك دوله، وشرذمتها، وفرط جيوشه المتوسطة القوة بغية إقامة دول هزيلة لا تملك مقومات المواجهة لها، من جهة، وإلحاق هذه الدول بالنمط الليبرالي الذي يتبعه الغرب، من جهة ثانية.
منذ عقود، تمكّن الحلف الغربي من إخراج مصر من الصراع عبر اتفاقية «كامب ديفيد» أواخر السبعينيات، فهمّش دور الدولة، وجيشها، وألحقها بركب النمط الليبرالي الغربي، وأوقعها تحت سيطرة البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي وقروض الاستدانة وفق الآليات المعروفة التي يتبعها الغرب، وقد تحقق ذلك من دون استخدام آلة الحرب الأميركية المباشرة المدمرة. لكن إطلاق خطة «الفوضى البناءة» ترافق مع سقوط الاتحاد السوفياتي حيث باتت الساحات مفتوحة أمام الغرب لتحقيق المشاريع التي تتناسب مع مصالحه واستراتيجياته. وبذلك كانت حرب العراق الأولى والثانية التي قضت على أول الدول المتوسطة القوة، وتمكنت من فكفكة الجيش العراقي الذي كان واحداً من أول عشرة جيوش في العالم قوة. وانتقلت الخطة في محورها الثاني نحو سوريا، وفي آفاقها إيران، توصلاً لاحقاً إلى محاصرة روسيا والصين.
بدأ الفصل الثاني من الخطة في لبنان بهجوم صاعق بدأ باغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، وإخراج الجيش السوري من لبنان، وسيطرة القوى الموالية للحلف الغربي على الساحة اللبنانية، وانكفأ الجيش السوري إلى الداخل خاسراً لبنان، ساحة الحماية الأكبر له، وبذلك تأمنت إمكانية استهداف سوريا كثاني دولة متوسطة القوة، ومتماسكة السلطة والجيش. ثم جاءت التحركات الشعبية في العالم العربي، في ما سمي «الربيع العربي»، لتؤمن الشحن السياسي والتعبوي لانطلاق الأحداث السورية، بينما الواقع السوري يفتقر إلى المعارضة لأسباب شتى، فمهدت التحركات المصرية والتونسية والحدث الليبي لنقل المعركة إلى سوريا عبر الحراك المستخدم لعواطف ومعاناة فئات واسعة من الجماهير، وارتباط فئات أخرى بدول الخارج والخليج. ولا شك أنّ الغرب لا يحتاج الى شهادة بقدراته الهائلة على التنظيم والتخطيط والمجابهة، وقدرته الكبيرة على لعب دور المايسترو العالمي، يصعّد «موسيقاه» في هذه البقعة، ويخفضها في البقعة الثانية، ومتى أراد يقلب أدوار «العازفين» وفقاً لخططه.
لكن المحطة الثانية لخطة «الفوضى البناءة» الحالية في سوريا التي افترضت انهيار النظام، والجيش السوري للانتقال إلى المرحلة التالية إيران، باءت بعد عامين من الصراع على الساحة السورية بالفشل حتى الآن، فلم يتفكك الجيش، ولم تسقط السلطة، ولم تستطع المعارضة المسلحة تحقيق أي نصر فعلي مؤثر على ميزان القوى الداخلي، ولا السيطرة على أي مدينة هامة، وبقيت سيطرتها مقتصرة على أنحاء من الأرياف السورية.
ورغم كل الضغط الخارجي والدعم للمعارضة، لم تتمكن الدول المنخرطة في الصراع السوري، توصلاً إلى تفكيك الدولة والجيش، من تحقيق ما يمكنها من بسط سيطرتها على البلد، والانطلاق شرقاً، وكل ما تحقق كان حيّزاً واسعاً من التدمير المديني، والعمراني، واستمرار عمليات القتل وأشكال مختلفة من ممارسات تفكيك المجتمع.
حدث الكثير من القتل والخراب والدمار، لكن البلد وجيشه ودولته لا تزال موحدة ومتماسكة. وقفت خطة «الفوضى البناءة» عاجزة عن التقدم أمام السد السوري، وبدا أن أي تغيير سوري وفقاً للمشيئة الغربية غير قابل للتحقيق. هذا الانسداد السوري، في الوقت الذي تتوقف فيه الحوارات توصلاً إلى حلّ الأزمة بسبب الخلل في ميزان القوى، وعدم إمساك المحور الغربي بأي أوراق ضاغطة في الميدان تفرض تنازلات على النظام، والمحور الداعم له. بينما كانت تدور أحاديث ونداءات ومفاوضات لحل سلمي في سوريا، بالحوار والتفاوض، وكان جنيف الأول والثاني بتوافق عالمي، وخصوصاً على محوري روسيا والولايات المتحدة الأميركية.
كذلك صدرت تصريحات ملطّفة للإدارة الأميركية حول الملف السوري قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، فلم يبدر عنها أي موقف داعم لتسليح المعارضة السورية، ولم تطالب برحيل الرئيس السوري بشار الأسد. نأت الولايات المتحدة بنفسها عن الدخول في مطالبات بقية الدول كفرنسا وإنكلترا، والدول العربية الدائرة في فلك التحالف الغربي للأسد بالرحيل، وبتسليح المعارضة السورية. لم تكن الانتخابات الرئاسية الأميركية قد انتهت، فنحا أوباما في طروحاته نحو الولاية الثانية منحى يدغدغ عواطف الشعب الأميركي الذي تنتشر في أوساطه على نطاق واسع دعوات الانسحاب من العالم، وتركيز اهتمام إدارته على الشؤون الأميركية، والسعي لحلّ الأزمة المالية، ووقف تداعياتها.
في ظل هذا الواقع، تأتي زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة، لتكشف أن الولايات المتحدة الأميركية، وتحالفها، لم تتخلّ عن نزعتها الهجومية في خطة «الفوضى البناءة». فأمام الانسداد السوري يتوقف الكلام عن الحوار، وتبدأ الولايات المتحدة بتشكيل المحاور المعروفة الطبيعة والأهداف. ولذلك اقتصرت الزيارة إلى الشرق الأوسط على الأرض المحتلة والأردن، واستبعدت أي لفتة حوار حول الوضع السوري، فأوباما لم يأت لـ«يأخذ ناراً، إنما ليشعل البيت
ناراً».
وفي قراءة بسيطة لما قام به أوباما، فقد حقق ثلاثة أهداف رئيسية: ترميم التحالف التركي ـــ الإسرائيلي، تبريد الملف الفلسطيني وجرّ الأردن إلى المعركة ضد سوريا. ثلاث خطوات لا تحتاج إلى كثير تفسير، وهي أن الولايات المتحدة تعيد لملمة صفوفها، وتتهيأ لصوغ خطة هجومية جديدة، علها تفتح ثغرة أمام خطتها «البناءة».
تتقدم الولايات المتحدة بقيادة أوباما بعد فوزه بالولاية الثانية، حيث لم يعد له ما يعد لاحتسابه الانتخابي المقبل، علّه يحقق بعض تقدم يثبّت أقداماً لبلاده في الشرق بعد العديد من الإخفاقات، ولا عجب أن يلعب لعبة «شمشون» التلمودية الانتحارية. ألم يظهر، في الكثير من كلامه، تحليه في الأرض المحتلة بثقافة تلمودية عريقة؟ فالولايات المتحدة تخشى تصاعد الماردين الروسي والصيني، ولا تتحمل التخلي عن لعب دور يحمي مصالح كارتلاتها الاقتصادية، فتهاجم لتضع المنطقة، والعالم، أمام تصعيد عسكري خطير، وتدخلها في نفق مظلم. لا تتقبل خسارتها، ولا تقبل بالاستسلام أمام تراجع أوضاعها، وتصاعد قوة خصومها.
ونحن في العام المئة على الحرب العالمية الأولى التي أحرقت فيها الإمبريالية العالم للمرة الأولى، تأتي زيارة أوباما لتضع العالم من جديد على أبواب مرحلة مبهمة في التوترات والحروب قد لا تكون أقل خطورة من تلك الحرب الأولى، وما تلاها من حروب.
* كاتب لبناني ــــ الاخبار