موسكو لم تتخل عن أحد.. فلماذا الغضب!
بعد يوم واحد من توقيع الرئيس الروسي مرسوما بإلغاء القرارات السابقة بفرض عقوبات على تركيا، أعلن الكرملين أنه لا يستبعد عقد لقاء يجمع الرئيسين الروسي والتركي قبل قمة الـعشرين.
لقد أحدث الاتصال الهاتفي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب إردوغان نوعا من "البلبلة" السياسية وإعادة الحسابات من جهة، وقدرا من التخبط لدى بعض الأطراف التي كانت تراهن على عداء أبدي بين موسكو وأنقرة، وربما نشوب حرب بين البلدين من جهة أخرى. ولكن لم يحدث لا هذا ولا ذاك، انطلاقا من مصالح موسكو بالدرجة الأولى، ومن مصالح كبرى تتضمن ملفات وقضايا تهم دولا ومناطق كثيرة في العالم.
إن توقعات الكرملين بلقاء الرئيسين الروسي والتركي حتى قبيل قمة العشرين في العاصمة الصينية بكين، يشير إلى أن قاطرة تطبيع العلاقات بين موسكو وأنقرة انطلقت بقوة وبغير رجعة، وبصرف النظر عن أسافين وسائل الإعلام، والتصريحات المجهولة لصب الزيت على النار دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح روسيا الاقتصادية والأمنية والجيوسياسية، ومحاولة الاستئثار بالدور الروسي من أجل تحقيق مصالح ضيقة أو ممارسة سياسات قصيرة النظر، أو تصفية حسابات مع هذا الطرف أو ذاك.
لقد ردت أنقرة بلباقة سياسية على تلميحات الكرملين، مشيرة إلى إمكانية ترتيب لقاء في روسيا نفسها بين الرئيسين قبيل انعقاد قمة العشرين في 9 و10 يوليو/تموز الجاري في بكين. وهو ما أكده وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو بأن الرئيس التركي مستعد للقاء نظيره الروسي في روسيا قبل قمة العشرين.
من الممكن أن نراجع تاريخ العلاقات بين موسكو وأنقرة خلال السنوات العشرين الأخيرة، لنكتشف أنهما بذلا جهودا جبارة لإيصال حجم التبادل التجاري بينهما إلى 40 – 60 مليار دولار، إضافة إلى المشروعات النووية السلمية، والتعاون في حوض البحر الأسود، وفي مجال الغاز وطرق نقله والمشروعات قيد البحث في هذا الصدد. وبالتالي، فمن الصعب أن نضرب بكل ذلك عرض الحائط، ونصمم على عداوة تاريخية لا يمكن أن تنتهي إلا بهزيمة مطلقة لأحد الطرفين أو القضاء عليه قضاء مبرما على طريقة القرون الوسطى.
المنطق السياسي يقول إن الأعراض والتداعيات تزول عندما تزول أسبابها والظروف التي تسبب فيها. وهو إجراء برجماتي تماما يراعي المصالح بالدرجة الأولى، ولا يلتفت لتصفية الحسابات والكراهية والحقد، سواء الشخصي أو العرقي أو الديني. فالمسألة تتعلق بمصالح كبرى لا حسابات فيها للسياسات قصيرة النظر أو الغل الشخصي أو التقسيمات العرقية والدينية.
لقد انطلقت روسيا في كل تحركاتها من مصالحها الوطنية. قد يختلف معها هذا الطرف أو ذاك في وجهة النظر، ولكن جوهر الحركة ينطلق من حسابات دقيقة، قد تصيب وقد تخطئ، من المصالح والمصالح فقط. وبالتالي، فموسكو لم تقدم أي وعود لأي طرف على أسس واهية، ولم تخدع أحدا أو تغريه بأوهام، وإنما قامت عمليا وعلى الأرض بتحركات تؤكد أن مصالحها هي الهدف الأول والأساسي والأمر الذي لا يحتمل مقايضة أو مساومة. ومع ذلك فقد لوحظ بعض التململ لدى بعض الأطراف الذي كان يتصور أن روسيا تتحرك انطلاقا من حسابات ضيقة أو بهدف تصفية حسابات مع هذا الطرف أو ذاك، أو محاباة لهذه الدولة أو تلك.
في نهاية المطاف، ونظرا لظهور تلميحات وتصريحات مثيرة للدهشة والتساؤلات، لم تعلن روسيا تخليها عن هذا الطرف أو ذاك، أو إهمال مصالح حلفائها. ومن جهة أخرى، لم يعد بوتين أي أحد بأي شئ. إذ أن كل خطواته تمت انطلاقا من مصالح روسيا، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع وجهات نظره. كل ما في الأمر أن الأطراف التي تختبئ وراء ظهر روسيا، كانت تقوم إما بتشويه تصريحاته أو تحريفها أو قراءتها كما ترغب هي لا على أساس الواقع. بل وتم تفسير تحركات روسيا تفسيرات قسرية وملتوية لكي تخدم بعض الأفكار الضيقة، ويتم استخدامها في نطاقات معينة.
في الحقيقة، خابت ظنون وتوقعات الكثيرين عندما أعلن بوتين في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، عقب إسقاط المقاتلات التركية القاذفة الروسية، أن روسيا لن ترد عسكريا على تركيا. وخابت ظنونهم أكثر عندما التزم الكرملين بالإتيكيت السياسي والدبلوماسي مع السلطات التركية التي حاولت استفزاز موسكو إلى أقصى درجة. وذهب الغضب بالكثيرين عندما بدأت موسكو بالإعلان عن تطبيع العلاقات، وكأن هذه الأطراف كانت تريد أن تدخل روسيا في حروب بالوكالة، أو تقدم مصالح هذا الطرف أو ذاك على مصالحها الوطنية والقومية. وفي الحقيقة فموسكو لم تتخل عن حلفائها، ولم تخدع أحدا، ولم تتراجع عن مواقفها، وإنما تدير هذه المواقف وتنفذ سياسيات خاصة بها وبمصالحها المنتشرة في أكثر من منطقة.
أشرف الصباغ