روسيا وأسرار توسيع «الدرع الصاروخي الأمريكي»!
دشن فرانك روز، مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة لشؤون مراقبة التسلح، يوم 12 من الشهر الجاري مراسم تشغيل المجمع الأرضي لمنظومة الدرع الصاروخية الأمريكية في رومانيا، وسوف يضع روز حجر الأساس لمجمع مماثل له في بولندا، أي أن البنتاغون بدأ رسمياً بنشر منظومته الصاروخية في أوروبا، وعلى التخوم الروسية. فهل العالم على عتبة حرب عالمية ثالثة؟
تخوم روسيا
إن الحدود السياسية للدول المختلفة، والمثبتة في خرائط الأمم المتحدة، لا تشكل تعبيراً علمياً كافياً عن الحدود السياسية الحقيقية للدول. ويمكن تخيل الحدود السياسية الحقيقية لأي دولة من الدول، بوضعها في «شبكة الزمكان»، وكلما كان «وزنها السياسي» أكبر فإنّ الانخماص الذي تحدثه في الشبكة سيكون أكبر، وعندها تعبر حواف الانخماص عن الحدود السياسية الحقيقية.
لدولة بحجم روسيا، وبوزنها، فإنّ الحدود السياسية، أو حدود التأثير السياسي المباشر، تمتد أبعد بكثير من الحدود الرسمية. وهي تصل باتجاه الغرب، وعلى أقل تقدير، صوب النمسا وبولندا ورومانيا. وفي الجنوب نحو أفغانستان والباكستان و«الشرق الأوسط»، وفي الشرق نحو اليابان، وفي الشمال الغربي نحو الدول الاسكندنافية.
توسعات «الناتو» و«الدرع»
إنّ عمليات توسع الناتو التدريجية والمتسارعة خلال العقدين الأخيرين وحتى الآن، تتطابق فعلياً مع «الحدود» التي أشرنا إليها أعلاه، وكذلك الأمر مع تمدد الدرع الصاروخية. ففي عام 1999 جرى ضمن كل من بولندا وتشيك والمجر إلى الناتو، وفي 2004 جرى ضم دول البلطيق الثلاثة (أستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، أكثر من 700 كم حدود برية مع روسيا) إضافة إلى بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، وفي 2009 جرى ضم ألبانيا وكرواتيا. ويجري الحديث حالياً عن إمكانية ضم اليابان إلى الحلف، إضافة إلى دول أخرى أقل أهمية.
بالتوازي، جرى توسيع ما يسمى «الدول الحليفة من غير الأعضاء في الناتو» أو Major non-NATO ally. ففي 1989 قام بوش الأب بضم اليابان، وفي 2004 قام بوش الابن بضم باكستان، وفي 2012 قام أوباما بضم أفغانستان.
حرب عالمية؟
إن مختلف التصريحات الأمريكية التي تنفي تهديد الدرع الصاروخي لروسيا، تسقط أمام المعطيات السابقة. رغم ذلك فإنّ القول بأنّ الهدف من هذه الإجراءات هو التحضير لحرب عالمية ثالثة، هو تبسيط وتسطيح للأمور، ذلك أنّ احتمال حرب كهذه، وإن كان من غير الممكن نفيه بشكل مطلق، ولكنه يبقى احتمالاً ضعيفاً جداً و«جنونياً» في ظل امتلاك أطراف عديدة للسلاح النووي بتطويراته المختلفة، ما يجعل من إقدام أي طرف من الأطراف على افتتاح حرب مباشرة، عملية انتحار جماعية.
ما المطلوب إذاً؟
وإذا كانت الأمور كذلك، فإنّ إصرار واشنطن على السعي بهذا الاتجاه يمكن تفسيره ضمن ثلاثة خطوط استراتيجية أساسية سنأتي على ذكرها تالياً، بعد تثبيت الأساس العملي والنظري لها، وهو الأزمة الرأسمالية العالمية التي تضرب في عمق المركز العالمي، في واشنطن، والذي بتأثيره نرى ونلمس في كل الظواهر العالمية السياسية الأساسية، تبدل ميزان القوى الدولي وتراجع واشنطن أمام منافسيها في «بريكس» وفي مقدمتهم، روسيا والصين.
إنّ الخطوط الاستراتيجية الثلاثة، أو الاستهدافات الكبرى الثلاثة من استمرار توسع الناتو والدرع الصاروخية الأمريكية، هي على ما نعتقد:
أولاً: زيادة الضغط على روسيا والصين إلى الحد الأقصى، بهذه الأداة وغيرها، بغية تخفيف زخم الاندفاع والتقدم الذي تقوم به الدولتان، والذي تظهر تجلياته المختلفة، المالية والنقدية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، بما يكفي من الوضح وبما يزيد.
ثانياً: السيطرة على «الحلفاء»، ومنعهم من الخروج من الحظيرة الأمريكية، وتصعيب الخيارات أمامهم، وخصوصاً في منع تشكل «أوراسيا»، أي منع أي تقارب روسي- أوروبي، ووضع مختلف العوائق دونه، بما في ذلك رفع حالة العداء بين روسيا وأوروبا. وأيضاً تحويل اليابان إلى مثير قلاقل كبرى على تخوك روسيا والصين، ومنعه من الاقتراب من أي منهما، ذلك أن التراجع الأمريكي وتقدم الخصوم يفتح الباب أمام «الحلفاء» نحو خيارات أخرى، بعيداً عن الخيار الأمريكي الذي طالما جنى الأرباح وحيداً، ووزع الخسارات على الآخرين.
ثالثاً: السعي نحو القطب الشمالي الذي يمثل أهم خزان احتياطات في العالم لعدد كبير من المواد الأولية، والذي يقع ضمن «الحدود الرسمية» الروسية. في هذا السياق تستخدم ذرائع الأمن والدرع والناتو وغيرها في محاولة لسيطرة مطلقة على الدول المطلة على بحر الشمال، من ذلك اللقاء الذي عقده أوباما قبل يومين مع زعماء السويد والنرويج والدنمارك وفنلندا وايسلندا، وخلص الاجتماع إلى ضرورة «تعزيز تواجدها العسكري في منطقة البلطيق».