إشارات خطر..!
نعم هناك إشارات خطر تُومض في الفضاء الداخلي، تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، مؤدّاها أن عوامل متعددة، وعناصر متنوعة، تتفاعل في وعاء واحد، لإنتاج حالة تهديد واسع تطول الجبهة الداخلية المصرية، يتم توظيفها لإحداث اضطراب كبير، وتلك حقيقة موضوعية بغض النظر عن أسبابها وأدواتها، وعن حجم الجزء الظاهر أو الخفي منها.
غير أن جانباً من المستوى الفكري، المعنيّ بمواجهة هذا التفاعل ومنعه من أن يصل إلى منتوجه المدمّر، هو الذى يلقى فيه، عن غفلة أو عن غير ذلك، بمواد منشطّة، تعين التفاعل على أن يكمل دورته المدمّرة، على نحو أسرع زمناً وأوسع تأثيراً. وظني أنه إذا ظل مستوى التفكير الذى أنتج (تقدير الموقف) الذى انبنى عليه اتفاق جزيرتى صنافير وتيران، شكلاً ومضموناً وإخراجاً وتوقيتاً، مع كل ما أحاط به، هو القائم على إنتاج (تقدير الموقف) الجديد لمواجهة التداعيات والمخاطر، في حيز هذا التفاعل الراهن، فإن ذلك إنما يشكّل أولى إشارات الخطر.
أولاً..
لقد كان على (تقدير الموقف) ومازال عليه أن يدرك – أولاً – أن منسوب الحالة المعنويّة العامة في المجتمع قد تراجع على نحو ظاهر، وأن منحناه قد انحنى إلى نقطة غير مسبوقة منذ ثورة 30 يونيو، لأن الجسور التي تحمل الطبقات الاجتماعية المتوسطة والدنيا، تئن تحت وطأة أثقالها التي أنتجتها سياسات اقتصادية فقيرة وعاجزة، وأن الأعمدة التي تحمل هذه الجسور غدت مجهدة إلى الحد الذي لا تتحمل معه أية هزات أو زلازل مهما تدنّت قوتها.
ثانياً..
وقد كان على (تقدير الموقف) ومازال عليه أن يدرك – ثانياً – أن البيئة الداخلية تغّص بصفوف من الخنادق المضادة من كل لون وصنف، تختلط فيها عناصر الاختراق الأجنبي، وقوى شرطة العولمة المحلية، ومنصات أجهزة مخابرات أجنبية وإقليمية، وكثير ممن مثّلت لهم ثورة 30 يونيو مغنماً ذاتياً لم يتحقق، وكثير ممن مّثلت لهم هذه الثورة ثأرا متأجّجاّ لم ينطفئ، وأنها جميعها تبحث عن فرصة ذات طابع وطني عام، تتداخل بموجبها الخنادق والوجوه والشعارات، وتتشارك الجهود لإنتاج حالة اضطراب كبير، تتوزّع آثارها على شقوق المجتمع وسطوحه.
ثالثاً..
وقد كان على (تقدير الموقف) ومازال عليه أن يدرك – ثالثاً – أن التوقيت في حد ذاته، قابل لأن يخلق حساسيات ذات طبيعة خاصة، فهو على بعد أيام من احتفالات وطنية، بتحرير كامل التراب الوطني، وعلى بعد أسابيع من مرور عامين على صعود الرئيس إلى سدة الحكم، وكلا الأمرين يحتاج إلى مناخ يُعين على التماسك، والوحدة، أكثر من التصدّع والفرقة.
رابعاً..
وقد كان على (تقدير الموقف) وما يزال عليه أن يدرك – رابعاً – أن غاية الهدف الاستراتيجي المضاد لمصر، منذ ثورة 30 يونيو، هو تفكيك أضلاع مثلث القوة، الذى أنجز هذه الثورة، وقد كانت قاعدته الشعب المصري العظيم، وأحد أهم أضلاعه الجيش المصري، بينما كان بقية ما تبقى من مؤسسات الدولة وبعض نخبها ومنابرها السياسية والإعلامية، موزعة على ضلعه الثالث. وأن الوصول إلى ذلك، ظل يشكّل كافة الضغوط والأوضاع التي تم فرضها على مصر، وبالتالي فإن الحفاظ على وحدة أضلاع هذا المثلث، يتحتم أن تحظى بالأولوية المطلقة، وألا توضع بذاتها، تحت نيران مضادة داخلية أو خارجية.
خامساً..
وقد كان على (تقدير الموقف) ومازال عليه أن يدرك – خامساً – أن إخراج هذه الاتفاقية بالنحو الذى تم به، بغض النظر حتى عن مسألة الحقوق والحقائق، هو بطبيعة القضية التي يعبّر عنها، بمثابة عملية شحن مكثّف، لمجتمع تكاثرت وتضاعفت عوامل شحنه خلال حّيز زمني قصير، وذلك من عدة وجوه: أولها أن قضية الأرض بالنسبة للشعب المصري تتمتع بحساسية خاصة للغاية، فهي تكاد أن تكون وجدانية خاصة، أكثر منها عقلية خالصة، وفي المساحة الأقرب إلى الوجدان، فإن الحرارة أعلى ما تكون ارتفاعاً، كما أن انتقالها وانتشارها بحكم عوامل الطبيعة، هو الأبسط والأسرع، وثانيها: أنها بطبيعتها قضية غير قابلة للقسمة على طرفين، وليست مما يمكن تجسير المسافة بين جانبيها، وليست مما هو قابل للحلول الوسط، ولذلك فإنها قابلة لأن توظف كأداة انقسام وفتنه بغير انقطاع، وثالثها: أنها قضية تدخل في صلب الثقافة التاريخية للشعب المصري، وقد أكدت أكثر من مرة، أن الشعوب والأمم، تتوحّد بالثقافة، أكثر مما تتوحّد بالاقتصاد، وتصير زُمراً وقبائل بالثقافة، أكثر مما تصير بالاقتصاد.
سادساً..
وقد كان على (تقدير الموقف) وما زال عليه أن يدرك – سادساً – أن الخطاب العام للحكومة ومنابرها ووجوهها، لا يصحّ أن يتحول، بفعل وجوه قديمة محترقة في منظور الرأي العام، من خطاب دفاع عن الاتفاقية، إلى خطاب هجوم مبتذل على كل من سمح لعقله، أو لوجدانه، أن يتلامس معها وطنياً، بغير منطق التأييد المطلق، أو التسليم الأعمى، وهو ما أدى إلى اختلاق أحكام غير صحيحة، لفرز سياسي واسع اعتبر أن هؤلاء المؤيدين والمدافعين عن الاتفاقية، هم مؤيدو الدولة والنظام والرئيس، وأن أولئك المعارضين للاتفاقية، هم معارضو الدولة والنظام والرئيس، وهذا منهج لا يتسم بالرشاد، لأن رفض الاتفاقية أو انتقادها ليس دالة ولا ينبغي أن يكون، لتحديد معسكر التأييد أو المعارضة، سواء على مستوى الدولة أو النظام أو الرئيس، فضلاً عن أنه منهج تفتيت على جانب لمعسكر الدولة، وتجميع على الجانب الآخر المناهض لها، وكأن هناك من سعى بضيق أفق نادر، إلى تآكل النواة الصلبة حول الدولة، بل لقد بلغ الشطط ببعض أجهزة الدولة، أنها أعادت تحديد موقفها من بعض الأشخاص لا على قاعدة موقفهم من الدولة أو من النظام، وإنما على أساس موقفهم من التمدد السعودي، ومن دوره الوظيفي الذى يقسّم الإقليم بالطول والعرض والعمق، وهو شطط لم يدانيه شطط، ولم يسبقه سياسياً أو أمنياً في مصر ما يماثله، أو يشكّل سابقه شبيهة به، فلم يبلغ تأثير (اللوبي) الأمريكي في مصر، خلال أي مرحلة سابقة، هذا المدى الذي بلغه تأثير (اللوبي) السعودي في هذه المرحلة، وللأسف فإننا – دون دخول في التفاصيل – أمام إشعاع لا تخالطه المبادئ الوطنية والقومية، بقدر ما تخالطه المنافع الذاتية والشخصية.
مهام ملحّة
لقد أصبحنا باختصار، في قلب حالة، يختلط فيها ما هو ذاتي بما هو موضوعي، وما هو سياسي بما هو أمنى، وما هو حقيقي بما هو زائف، وما هو وطني، بما هو غير ذلك، ولذلك لا ينبغي فرز المواقف على قاعدة الاتفاق أو الاختلاف حول الاتفاقية، وإنما على قاعدة الوطنية الصادقة والولاء للدولة، ولذلك فإن المهمة، ليست تمرير الاتفاقية بوسائل بيروقراطية، وإنما إيقاف التداعيات التي نشأت حولها، والمخاطر التي اتخذت منها سلاحاً لفتح جبهات معركة صدامية، تلوح مخاطرها، ولذلك – أيضاً – فإن المهمة العاجلة لا تدخل في سياق السعي إلى تخفيض التناقضات مع الخارج، لأنها تمت في أغلب الأحوال على حساب تصعيد التناقضات في الداخل، وإنما الموازنة بين الأمرين بميزان من ذهب، ولذلك – أيضاً – فإن المهمة العاجلة ليست تسخين الأجواء بمفردات هذا الخطاب الإعلامي غير الرشيد، والذى تحول أحياناً، إلى حملة تهديد ضد النواب، وأحياناً إلى حملة تأديب لمعارضين للاتفاقية، لا يمكن لأحد أن يتحمل مسؤولية التشكيك في وطنيتهم الغامرة، ولا في انحيازهم الجارف للدولة.
تبقى واحدة من علامات الخطر، مرت أو تم تمريرها كما لو كانت جزءاً من ظواهر الطبيعية، وهو البيان الذى أصدره البيت الأبيض، عشية دعوات للتظاهر ضد الاتفاقية، وقد شدّد على أن أمريكا تراقب الوضع الداخلي في مصر عن كثب، ولست أعتقد أن ملمحاً ما فوق الساحة المصرية، يمكن أن يعطي مبرراً لإصدار مثل هذا البيان في هذا التوقيت، فهو إجراء غير طبيعي، في ظروف طبيعية، ولست أعتقد أيضاً أنه يمثّل كما فسّر البعض، رسالة مزدوجة في وجهها الأول تحذير لجانب، وفى وجهها الثاني تحريض لجانب، لكنني أرى البيان في جملته وتوقيته، ومفرداته، إنما يمثل تحديداً، في ضوء الحالة الراهنة في مصر، والمنتوج المطلوب لتفاعلاتها (البيان الأمريكى رقم 1)، أي أننا أمام حلقة أولى في مسلسل يعرف سوانا، أنه متعدد الحلقات، ممتد المراحل، وصولاً إلى الذروة الدرامية.
إننا باختصار في ممر حرج، رغم أنه مازال مفتوحاً، وفى لحظة انشداد، يراد لها أن تتحول إلى شدّة، وتلك بدورها واحدة من إشارات الخطر!
المصدر : مدونة الكاتب على الأنترنيت