أبعد من الأبارتايد
عندما اتخذت الأمم المتحدة قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية في العام 1975، والذي حمل الرقم 3379، كانت الدلائل والبراهين التي تجمعت لديها حول الممارسات العنصرية وجرائم الحرب الصهيونية تغطي الفترة ما بين إنشاء الكيان الصهيوني وحتى صدور القرار، قبل أن يتمكن الكيان في عام 1991 من إلغائه بدعم من حلفائه الغربيين وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانخراط العرب في مؤتمر مدريد الذي انتهى إلى فشل ذريع.
ما تشهده كل فلسطين المحتلة الآن، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن نظام الفصل العنصري الصهيوني فاق كل أنظمة «الأبارتايد» المعروفة عسفاً وجبروتاً. فالأمر لم يعد يتوقف عند حدود احتلال إجلائي استيطاني، واقتلاع شعب من أرضه ووطنه، وارتكاب أبشع المذابح الجماعية والفردية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحقه، ومنعه بشتى السبل من حقه في الحرية والاستقلال، بل تعدى ذلك إلى سن قوانين وتشريعات عنصرية بامتياز، شملت مختلف أوجه الحياة للفلسطينيين، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، على نحو لم يعرفه أي نظام «أبارتايد» في العالم.
فقد سبق، على سبيل المثال، أن شق الاحتلال طرقات في الضفة الغربية للمستوطنين فقط، وممنوعة على الفلسطينيين، ولم يكتف بمصادرة كل مصادر المياه في الأرض المحتلة، وتحويلها للمستوطنين، وترك الفلسطيني يعاني شح العطش، بل منعت أي فلسطيني من الضفة متزوج من فلسطينية في المناطق المحتلة عام 1948من الالتحاق بها، بمعنى آخر، منعت لم شمل الأسر الفلسطينية. واليوم مع اندلاع الهبة الشعبية الراهنة لنصرة الأقصى والتخلص من الاحتلال، وامتدادها على مساحة فلسطين التاريخية، ازدادت وتيرة التشريعات الصهيونية العنصرية على نحو غير مسبوق، في «واحة الديمقراطية» التي تصر واشنطن على «حقها في الدفاع عن نفسها».
فقد رفض عتاة حكومة اليمين الصهيوني أي تواجد دولي في القدس والأقصى، وبدلاً من ذلك ذهبوا إلى تشريع القتل، ودعوا كل المستوطنين إلى حمل السلاح واستباحة دماء الفلسطينيين دون تمييز، ما يعني أن الأمن الشخصي للفلسطيني أصبح مهدداً لكونه فلسطينياً، وأصبح الجندي الصهيوني والمستوطن المذعور كلاهما يمارس الإعدام الميداني بدم بارد لمجرد وجود الفلسطيني في المكان. وحوّل الاحتلال أحياء القدس المكتظة بالفلسطينيين إلى معازل، لتلحق بالكانتونات التي تقطع أوصال الضفة، وأقام الحواجز والمتاريس واستدعى الآلاف من قواته الأمنية إلى المدينة المقدسة، معيداً بذلك القدس، التي يعتبرها «عاصمته الأبدية»، إلى سيرتها الأولى، كمدينة محتلة لا تختلف عن مدن الضفة وكل بقاع الوطن. وإلى جانب تشديد العقوبات المشددة أصلاً، قرر الاحتلال حجز جثامين شهداء العمليات الفدائية وعدم تسليمهم إلى ذويهم، ونسف منازلهم على الفور، وهو بصدد اتخاذ قرار بإبعاد أهاليهم من الضفة إلى غزة.
ورغم كل ذلك، فالهبة الفلسطينية لم تتوقف، ويبدو أنها وصلت إلى نقطة اللاعودة، وهي تتطور وتسير قدماً نحو الانتفاضة الشاملة، بعد أن وحدت الفلسطينيين في الضفة وغزة وسخنين والناصرة ويافا وحيفا وعكا، وأصبحت غير قابلة للاحتواء لا من قبل الاحتلال، ولا السلطة المختبئة وراء المطالبة بالحماية الدولية، لسبب بسيط وهو أن عمودها الفقري جيل من الشباب غير منتم بأغلبيته الساحقة إلى تنظيمات وفصائل، ويرفض اتفاق أوسلو ومفاوضات التسوية، والأهم أنه يرفض بقاء الاحتلال.
المصدر: الخليج