جيل «الذين كفروا»... جيل الانتفاضة الثالثة
من هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ من الذي يحركهم؟ وما الذي استجَدَّ فجأة على حيواتهم وتوجهاتهم وأمزجتهم وأحلامهم وهواجسهم وتوقعاتهم، كي ينقلبوا على أنفسهم، وعلى الوضع القائم، بهذه الحماسة المفاجئة والاندفاع المباغت؟
لقد ترسخت في الأذهان انطباعات تصل أحياناً إلى درجة اليقين، بأن المجتمع الفلسطيني، وخصوصاً مجتمعَ ما بعد انطفاء التوهُّج الانتفاضي في تسعينات القرن الفائت، قد أصبح من السهل تطويعه وتسييره الى حيث يريد صندوق سكينر التجريبي.
إلا أن الوضع المتفجر في هذه الأيام في فلسطين المحتلة، رغم انه لم يمر عليه زمن طويل، ولم يتضح بعد في أي مسار يسير، وبأي اتجاه يذهب، والى أي مصير ينتهي، يمكنه أن يساعدنا في مراجعة استنتاجاتنا، وفي إعادة قراءة الواقع بعمق أكثر، ومن دون أحكام مسبقة جاهزة، سطحية ومتسرعة.
ولعل من أهم عناصر الصدمة التي تستحق إعادة النظر ودقة الفهم، هو العنصر المحرك للمياه التي طال ركودها في المجتمع، وبات لزاماً علينا أن نتعرف إليه أكثر. من وجهة نظر هذه المقالة، فإن عنصراً فعالاً يساهم في عودة الروح الى القضية الوطنية الفلسطينية، هو جيل يمكن ان نسميه جيل «الذين كفروا». وما يهمنا في هذه العجالة هو معرفة: من هم؟ وبماذا كفروا؟
انهم الجيل الذي ساد لوقت طويل اعتقاد أخذ في الترسخ، بأن حقبة التيه الفقاعية في التاريخ الفلسطيني قد نجحت في تدجينه واحتوائه وحرفه عن المصير الجمعي الوطني والانساني اللائق به وبشعبه ووطنه وقضيته. كان الرهان قوياً على استحالة استفاقته أو نهوضه أو تمرده على الأفق المسدود والضغط الهائل الذي يعيش تحت نيره، استناداً الى الظن بأن مكونات المجتمع بكل مشاربها وتلاوينها تفتقد لأي دينامية داخلية حيوية وخلاقة يمكنها أن تنفجر في وجه الممسكين بغطاء الطنجرة مهما اشتد أوار الضغط في داخلها، واقتناعاً بأن هذا الجيل هو جيل الاستهلاك والاستكانة والاهمال والكسل والاستسهال وفقدان الرؤية والقبول والاكتفاء والرضى.
لكن الواقع الطازج يكشف لنا بأننا أمام جيل من الذين كفروا بالأنظمة المستبدة والفاسدة مهما رفعت من شعارات عن الحرية والعدالة والمساواة، وبأسياد الانظمة في ما وراء البحار مهما روجوا من تعاميم، ونظموا من ورش ودورات تدريبية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. وكفروا بفكرة القهر الأبدي والحرية المستحيلة، وديمومة النظام البوليسي، والكولونيالية الاحتلالية، وسلطة الحكم المطلق، واستدامة سحق الوجود الانساني في العالم.
ويتبدى أمامنا بشكل واضح أننا أمام جيل من الذين كفروا بقيادات ومؤسسات سياسية اهترأت وتكلست، ونَخَرَ سوس الفناء السياسي مفاصلها، وتفشى فيروس الاندثار في جسدها المتهالك، مثلما كفر آخرون من قبلهم بأسباب النكبة وأسباب النكسة وأسباب ما بعدهما من نكبات مستمرة، وبمسببي ما توالد بعدهما من كوارث ومآس، في كل مناحي الحياة. لكنهم لم ينجحوا في أن يشكلوا بدائل فعالة تتجاوز هزائم وانكسارات وإخفاقات الماضي المستمر، وما زال الحال قائماً على ما هو عليه، بل يزداد تعقيداً وقسوة وقهراً وتهديداً لاحلام الفلسطيني أينما كان، ولم يتحقق شيء يستحق الذكر في سياق فعل تحرري ناجز. توصلوا الى اقتناع كبير بأن كل ما تم تجريبه حتى الآن من مشاريع وبرامج واستراتيجيات وتكتيكات لم يحقق الطموحات المنشودة، ولن يفتح آفاقاً أفضل، ولن يساهم في تحقيق ما حلم به آباؤهم وأجدادهم. ولا يريدون الانتظار أكثر، لأنّ الانتظار بالنسبة إليهم قتل بطيء لأحلامهم.
إنهم الذين كفروا بكل ادعاء زائف عن انجاز وطني تاريخي تحقق مرتبط بالمشروع الوطني الفلسطيني، أو خطوة فعلية نحو التحرر الفعلي قد أنجزت، وبكل مؤسسات الأمر الواقع الاعتباطي بكل تفرعاتها وأدوارها ومسؤولياتها، ورأوا فيها من الناحية الفعلية عوامل تكبيل وسد للطريق أمام أحلامهم الجماعية والفردية، ورئات تنفس لمزيد من الاحباط واليأس واللاجدوى، وحرفاً ممنهجاً - أو غير ممنهج- عن بوصلة الحقوق الوطنية والانسانية المنشودة.
ان الميدان الفلسطيني في هذه الايام يحتشد بالذين كفروا بـ «جمهوريتين» من الوهم والبؤس والخراب، تقسمان الوطن الى شراذم، وتتسابقان على ذبح الذبيحة بسكين صدئة من المنافع والمصالح بحثاً عن مزايا خائبة، ومساحات وهمية، بشهية مفتوحة على مزيد من العبث والدمار واللامعنى، تتقاسمان الوهم، وتتقاتلان على مزايا السجن، وتحبسان الناس في دوائر المجهول ورهانات المصائر الفصائلية والشخصية. وهم الذين كفروا أيضاً ببدائل سياسية أخرى خائبة، محتضرة لا يُعوَّل عليها، بعدما دجنتها المحاصصة وروضتها المخصصات، وارتضت لنفسها أن تكون ظل السائد، ووصيف المتصدر، وديكور المشهد، فظلت قابعة بكل طمأنية ورخاء في حجرات الشلل المزمن.
ويعلن هذا الجيل بصوت عال عن كفره الصريح بمرحلة كارثية من عمر الوطن، حملت في طياتها نماذج من الوزراء والمدراء العامين والنواب والمستشارين والخبراء والخطباء والمقاولين والسماسرة، والمخاتير والوجهاء والتجار الطارئين والفاسدين والعباقرة والجهابذة والمتفذلكين والمثقفين المدجنين، وأبواق البلاط، و«الحداثيين» والـ «ما بعد حداثيين» والحائزين جوائز المجاملات، والأتباع والموالين الذين يرون أن الوطن هو الرئيس، وأن الدين هو الأمير. وكفروا بالأضواء والألقاب والنياشين والبرستيج والألقاب والرتب والأوسمة، والأفلام التسجيلية «البروباغاندية» وحفلات التكريم والتأبين، والمواكب وبطاقات الـ «في آي بي» وجوازات السفر لمدى الحياة، وتذاكر السفر، ومخيمات الرفاهية الحوارية.
وهم أيضاً الذين كفروا بمبادرات البناء في فراغ واسع، والتشييد على رمل لزج، ومشاريع التمكين الرخوة في المؤسسات والمراكز والمنتديات المجتمعية بمختلف اهتماماتها ومجالات عملها، وبخبراء «البروبوزال» الذين يبتكرون عند صياغة مشاريعهم لضمان الحصول على التمويل مجتمعاً على مقاس المصالح الشخصية، ومقاس أولياء النعمة، وكتبة التقارير الممولة التي تقيس الأنفاس قبل الغوص، وتلتهم الإعانات قبل الغوث، وبكل ما ضاع من أموال طائلة ومبالغ باهظة وظفت لمشاريع لحظية كرنفالية لا تتمتع بالحد الأدنى من الاستدامة والرسوخ. وكفروا بكل الوعود والمزايا وتأويلات المصلحة، وتحويرات الدور، وبكل ما هو رمزي وخيالي غارق في الفانتازيا على حساب الواقع الصادم والحرَاق.
وتتسع مساحة الذين كفروا لتشمل من كفروا بكل ما تعلموه من «حقائق» جغرافية وتاريخية عن الوطن، وما تلقوه من سرديات حول العلاقة بالأمكنة، وشرعية هذه العلاقة ومسوغاتها، وبما استبد من ألوان البطاقات، وأرقام الحدود، وشهادات الميلاد، وشواهد القبور، ورخص البناء، ومستحقات الولادة، وضرائب الاقامة، ووثائق الطابو، وميزانيات المجالس المحلية، وحقوق المعرفة واللغة والحركة والنوم والقيام واللعب، وحروف التخاطب، وقوانين الوجود.
انهم الذين كفروا بمن يسمعونهم في كل يوم عبر ميكروفونات الوصاية على العقل، ويرونهم عبر كاميرات غسيل الوعي، الذين يعيدون صياغة أفكارهم، وصقل وجدانهم، وتحديد أولوياتهم، وتوجيه أحلامهم، وبكل الذين لم يعد أي واحد منهم سوى مجرد ظاهرة صوتية أو صدى لصوت آخر. وكفروا بعشاق العبودية والزيف والكراهية والقتامة والنقل والاتباع، وبمن يواصلون ابتداع أدوات لجم المُغنِّي، وكسر أطراف الدَّبِّيك، وبَترِ يد الرسام، ومحاصرة خيال الشاعر، وقطع لسان الحكَّاء، وفَرم أصابع العازف. وبكل شعوذات الجهل، وأراجيف العبث، وصكوك الادعاء. وبعيد الأضحى والفطر إن لم يحتفل بهما المسيحيون، وبعيد الميلاد والفصح وأحد الشعانين وسبت النور إن لم يحتفل بها المسلمون، وبأذان الصلوات الخمس إن لم يخشع له قلب المسيحي، وبأجراس الكنائس إن لم يطرب من رناتها المسلم.
أنهم الذين كفروا بالقول إن «من علمني حرفاً صرت له عبداً»، ويرون التعلم فعلاً تحررياً يبدأ منهم وبهم ويعود اليهم وبهم، وعندما يكررون «نحن الشباب لنا الغد» لا ينتظرون الغد أن يجيء، ويرون أن المستقبل يأتي اليوم، وأن الفجر لا ينتظر الشمس. وهم الذين مهما تمادوا في رفضهم وتمردهم على السائد والمستقر والبدهي واليقيني والمطلق والثابت، ومهما تطاولوا على الواقع ومكوناته فإنهم من الناحية الفعلية يرون أنفسهم سائرين على الصراط المستقيم، ولسان كل واحد منهم يقول: «أنا مش كافر»!
*كاتب من القدس المحتلة