تتشخصن الخلافات وتبقى الاستراتيجية ثابتة
لقد كتب عن الخلافات الأمريكية - "الإسرائيلية" في عهد بنيامين نتنياهو ما يكفي ليتصور بعضهم أننا على وشك أن نسمع أن واشنطن سحبت سفيرها بل واعترافها بالكيان الصهيوني . وبدا الأمر وكأن "القلق" يكاد يدفع "الإسرائيليين" إلى الهجرة من فلسطين من جهة، بينما أغرقت "الفرحة" الكثير من الفلسطينيين والعرب من جهة أخرى . لكن من يتجاوز الصراخ المفتعل هنا وهناك، يتبين له أن "لعبة" يمارسها الصهاينة والأمريكيون من خلال شخصنة الخلافات لتبقى الاستراتيجية ثابتة: انحيازاً كاملاً وحماية غير محدودة وتغطية للكيان الصهيوني وسياساته! الفلسطينيون (والعرب) يتعيشون منذ زمن طويل على التصريحات الأمريكية، التي تباع لهم بين حين وآخر كبضاعة فاسدة فيفرحون ويتابعون غفلتهم (وبعضهم عمالتهم)، ويتركون للقيادات "الإسرائيلية" متابعة برامجها الاستيطانية والتهويدية .
فقبل أيام من فتح صناديق الاقتراع يوم 17 مارس/ آذار الجاري والبدء في إجراء انتخابات الكنيست العشرين، أدلى بنيامين نتنياهو بمجموعة من التصريحات، وأجرى عدداً من المقابلات، قال فيها كل ما لديه بالنسبة "لقضايا الحل النهائي"، وأعاد على مسامع الجميع لاءاته المعروفة، من حق العودة إلى "حل الدولتين" وقيام الدولة الفلسطينية، وتقسيم القدس! فماذا قال الرئيس الأمريكي أوباما، وكيف كان الموقف الأمريكي؟! شكك أوباما بإمكانية استئناف المفاوضات في ضوء تصريحات نتنياهو وتنصله من "حل الدولتين"، مذكراً أن هذا "الحل" هو "ضمانة أمن "إسرائيل"" . وإلى جانبه، قال الأمين العام للبيت الأبيض، دينيس ماكدونو، حول تلك التصريحات: إن "الولايات المتحدة لن تكف أبداً عن العمل من أجل حل الدولتين"، معتبراً أنه "على "إسرائيل" أن تنهي احتلالاً مستمراً منذ نحو خمسين عاماً" . طبعاً لا أحد يسأل عن فرحة بعض الفلسطينيين الغامرة بسبب هذين التصريحين، فلم ينتظروا رد نتنياهو، وكيف حاول أن "يلطف الجو ويسترضي" أوباما . لقد قال: "موقفي لم يتغير، لكن الواقع هو الذي تغير" (!!) "الواقع" هو الذي تغير، وهو ما ستمسك به إدارة أوباما، بعد أن تعيد إنتاج "إمكانية استئناف المفاوضات المباشرة"!
وفي عز السجال بين نتنياهو وإدارة أوباما، وقمة "القلق" الذي استبد ببعض الأصوات "الإسرائيلية" نتيجة ارتفاع منسوب "الخصومة" بينهما، كتب وزير الدفاع "الإسرائيلي" السابق موشيه أرينز مقالاً في صحيفة (يديعوت) طمأن "الإسرائيليين" وأخبرهم أن "العلاقات مع الولايات المتحدة ممتازة"، وليس ما يدعو إلى الخوف أو القلق، وكان على حق . ومتزامناً مع زيارة نتنياهو لواشنطن، وإلقائه خطابه في الكونغرس، نشر "مجلس الأمن القومي الأمريكي" تقريراً أظهر فيه أن الكيان الصهيوني في عهد أوباما حصل على ما لم يحصل عليه في عهد أي رئيس أمريكي سبقه . وذكر المعطيات التالية:
* أكثر من 20 مليار دولار، غير المساعدات في المجال الأمني، التي وصفها التقرير بأنها "الأكبر من أي وقت مضى" .
* أكثر من 3 مليارات دولار، لبناء منظومة دفاع صاروخي .
* 3 .1 مليار دولار، لبناء منظومة القبة الحديدية .
* 140 مليون دولار، مساهمة لنقل المهاجرين اليهود من أنحاء العالم إلى فلسطين المحتلة .
* في أكتوبر ،2014 وافقت الولايات المتحدة على عقد صفقة مع الكيان الصهيوني لبيعه 35 طائرة مقاتلة متطورة من طراز (إف- 35) .
أما سياسياً، فقد عارضت الولايات المتحدة 18 قراراً للجمعية العامة للأمم المتحدة ضد الكيان الصهيوني، كان آخرها في مجلس حقوق الإنسان، حول الحرب على غزة، قبل أيام . كذلك زاد التبادل التجاري بين الدولتين بنسب كبيرة، حيث زادت الصادرات الأمريكية بنسبة 64%، وزادت المستوردات بنسبة 58% .
هكذا هي الأمور، تبيع الولايات المتحدة الفلسطينيين (والعرب) تصريحات، تدفع ثمنها للكيان الصهيوني مالاً وسلاحاً ودعماً سياسياً بشكل غير مسبوق، وتغطي قبل ذلك وبعده كل سياسات نتنياهو في التوسع والاستيطان والتهويد . حتى بعض "الإسرائيليين" غير المتعصبين يرون ذلك ويتحدثون عنه . فبالنسبة للموقف الأمريكي من الاستيطان، كتب ديمتري شومسكي مقالاً قبل عدة أشهر، في صحيفة (هآرتس - 11/11/2015)، وكان ذلك بعد إعلان الحكومة "الإسرائيلية" المصادقة على مشروع استيطاني جديد شرقي القدس، قال فيه: "الأمريكيون الذين ينتقدون سياسة الاستيطان في الضفة الغربية وشرقي القدس، يتجادلون مع بنيامين نتنياهو لأن الاحتلال والمستوطنات، من وجهة نظرهم، عمل غير حكيم، وليس لأنه عمل غير عادل . ولأن استمرار الاحتلال والمستوطنات لا يخدم عملية السلام، كما يقول الأمريكيون، وليس لأنهما ليسا عملين غير شرعيين يناقضان الديمقراطية الأمريكية التي تلوح بها أمريكا في كل زاوية من العالم"!!
والحقيقة أن الولايات المتحدة "إسرائيلية أكثر من إسرائيل"، وهي إن كانت تبدو أحياناً غير راضية عن بعض ممارسات "إسرائيل"، فهي تظهر ذلك لخداع الآخرين الذين تستفزهم تلك الممارسات، وحرصاً على "أمن وبقاء إسرائيل"، وأخيراً للتغطية عليها لتواصل ممارساتها في ظل الحماية الأمريكية . وكل ما اتخذته وتتخذه وما يمكن أن تتخذه الإدارات الأمريكية لا يخرج عن هذا الفهم، لأنه أكثر من سياسة أو موقف، ولأنه ثقافة وقيم مشتركة ليست قابلة للتغير والتبدل . وفي مقال تشومسكي المشار إليه آنفاً، تأكيد واضح لهذه الحقيقة، وهو يقول: "الكثير من الأمريكيين - سواء كانوا من رجال الحكم أو مواطنين عاديين، وسواء كانوا مسيحيين محافظين أو علمانيين يؤيدون فصل الدين عن الدولة - من الصعب عليهم فهم العلاقة بين الفلسطينيين وأرض شعب التوراة، ولماذا تعطى أحقية السيادة لمن لا ينتمون للتاريخ المسيحي اليهودي المقدس في أرض إسرائيل"!!
المصدر: الخليج