أربع سنوات من الصراع السوري: الحداثة VS التخلف
بين بداية الأحداث، واللحظة الراهنة. تجليات متباينة، وتناقضات وتحولات وانحرافات ساهمت في إبعاد البدايات عن نهاياتها المفترضة. وبين المقدمات والنهايات بحر من دماء، وأشباح تهيمن على حاضر السوريين ومستقبلهم. وبسبب تمفصل مجريات الصراع مع المستوى الإقليمي والدولي. فإن تحديد المآلات المستقبلية في سورية، يحتاج إلى مزيد من التدقيق والمتابعة السياسية والميدانية. ومع ذلك، فإن القارئ الموضوعي للأحداث لن يجد صعوبة في ضبط خيوط الصراع وحوامله، وتحديد ملامحه وأهدافه الأساسية.
إن الأزمة السورية تتجلى في مستويات عدة، نذكر منها: تغيرات جغرافية نتيجة الدمار العمراني والتلاعب بالحدود المناطقية والإقليمية ـ تغيرات ديمغرافية بفعل الهجرة القسرية ـ تغيرات في القيم الاجتماعية والسياسية والسلوكية ـ مأساة إنسانية تتجلى في المستويات والأشكال كافة. ويندرج في هذا المستوى موضوع اللاجئين والنازحين ـ كارثة اقتصادية دمّرت البنى الاقتصادية العامة والخاصة، وانعكست تداعيات ذلك على الحياة اليومية للمواطن، فتدهور المستوى المعاشي، وتراجعت المستويات التعليمية والصحية والخدمية، وانتشرت الأمراض النفسية والعصبية والاضطرابات السلوكية ـ تغيرات سياسية انعكست على فئات واسعة من السوريين، فتبدلت مواقفهم السياسية بالتزامن مع تغيرات ميدانية ساهمت في انكشاف حقائق ملتبسة ـ تغيرات بنيوية داخل القوى السياسية، وفي أشكال وأنماط التفكير ـ تصدّع البنى التنظيمية والسياسية ـ هجرة الكوادر للتنظيمات السياسية ـ ازدياد كتلة المستقلين ـ ازدياد حدة التباين بين الفصائل السياسية ـ نشوء أحزاب وتحالفات سياسية جديدة ـ فشل القيادات السياسية (العتيقة) في ضبط آليات التحولات السياسية، وفي تشكيل تحالفات سياسية عريضة تستند إلى كتل اجتماعية واسعة ـ انكفاء الغالبية الشعبية عن ساحة الفعل السياسي نتيجة التغيرات والتناقضات التي برزت في المشهدين السياسي والميداني، ونتيجة طغيان المجموعات الجهادية التكفيرية على المشهد العام.
لا وجود لإسلام سياسي معتدل وإسلام سياسي متطرف. فكلاهما وجهان لعملة واحدة
وأيضاً نتيجة هيمنة شيوخ المعارضة على المشهد السياسي. ومن الأسباب أيضاً، غياب الديمقراطية داخل القوى السياسي، واستشراء الفساد المالي والإداري داخل بعض الفصائل المعارضة السياسية والمسلحة. وأيضاً الارتهان إلى قوى دولية وإقليمية ــ عجز قوى المعارضة عن تقديم برنامج سياسي موضوعي يستقطب الفئات الشعبية والشباب إلى حقل الممارسة السياسية. وهذا يتزامن مع ارتفاع الضريبة التي يتحملها الشخص نتيجة نشاطه السياسي ــ ارتهان الأزمة السورية إلى الأطراف الإقليمية والدولية.
إن انتهاء الصراع سيضع بالتأكيد حداً للقتل والدمار والتشرّد. لكنه سيفتح الباب واسعاً إلى بروز تحوّلات إيديولوجية معقّدة، يمكن أن تستمر فترات طويلة، ومن الممكن أن تساهم في إنتاج أزمات أخرى نتيجة تفاعل وتباين وتناقض مواقف تيارات إسلامية، علمانية ووسطية، من دور الشريعة الإسلامية، والسياسة والتاريخ والتراث، والقيم العالمية في بناء المجتمع.
لقد كشفت الفوضى، وتداخل أسباب وعوامل وحوامل وتجليات الصراع. أن لا وجود لإسلام سياسي معتدل وإسلام سياسي متطرف. فكلاهما وجهان لعملة واحدة. وفي اللحظة التي تدّعي فيها الأطراف والمجموعات الإسلامية احتكار تمثيل الإرادة الإلهية، يصبح القتل بذريعة تطبيق الإسلام وحدود الشريعة، عملية استعراضية. القاتل يبرر جريمته مدعياً أنه يطبّق قيم الإسلام وحدوده، تنفيذاً لإرادة الله ومشيئته. ويدّعي بذات اللحظة أنه يمثّل المرجعية الفقهية للقاتل والمقتول. التنظيمات السلفية ـ الجهادية تقود الصراع باسم الدفاع عن الدين على ثلاثة مستويات: الأول ضمن التيارات الإسلامية. الثاني ضد من ينتمي إلى الأديان الأخرى. الثالث: بينها وبين باقي الفصائل المقاتلة. وتندرج المستويات الثلاثة في سياق الانتماء الديني و»الموقف السياسي من النظام الحاكم». لكن هدفها هو القبض على السلطة السياسية، والتحكّم بمصير الشعب والثروات الوطنية.
من الواضح أن تشابهاً كبيراً يكتنف بنية الصراع وتجلياته في «بلدان الربيع العربي». ومن الممكن أن يصل في بعض اللحظات إلى درجة التماثل. وذلك من جهة تداخل السلفية الجهادية مع الجهاد الدعوي. ويشكّل الجهاد الدعوي الأساس المتين لأي ظاهرة جهادية. فالتنظيمات السلفية تشكلت بوصفها حركات دعوية. لكن السياق التاريخي لرموز الجهاد الدعوى السلفي، ودورهم في الصراع السوري، يدلّل على أنهم يشاركون في قيادة الجهاد المسلح من منصة أيديولوجية دعوية. ويبدو أن من الصعوبة بمكان وجود جهة قادرة على الفصل بين الجهاد الدعوي والجهاد المسلح. أو تمتلك الكلمة الفصل في تحديد المجموعات التي تُمثّل الإرادة الإلهية.
إن التوتر الذي يخيّم على العديد من الدول العربية، وتصدع التحالف العربية والإقليمية. يساهم في نشوء تحالفات سياسية ودينية وعرقية تزيد من تصدّع التوازنات السياسية، ومن عجز الأنظمة، وتبعيتها إلى محاور إقليمية ودولية بدأت ملامحها تظهر إلى العلن. وهذا سيقود المنطقة العربية إلى الضياع في تحالفت أوسع، وإلى تعميق التمزق والتشتت وفقدان القرار المستقل. لذلك فإن تجاوز الأوضاع الراهنة، يستدعي البحث عن صيغ جديدة للتعاون والتضامن السياسي والاقتصادي العربي. فالإرهاب إضافة إلى كونه يساهم في نشر ثقافة الموت والدمار والفساد. فإنه يساهم في تفكيك البلدان والمجتمعات العربية، وفي خسارة الشعب إلى هويته الثقافية والحضارية. لذلك فإن الحفاظ على ذاتنا وهويتنا الحضارية، يستدعي مكافحة جذور الإرهاب وتجلياته الثقافية والاجتماعية. وهذا لن يكون منفصلاً عن بحث علاقة المستقبل مع الماضي. فالاستفادة من التاريخ، واستلهام لحظاته المشرقة يندرجان في سياق سعي الشعوب الطامحة إلى تغيير واقعها. وعليه، سيكون للتراث الفني والأدبي والثقافة الوطنية دور بالغ الأهمية في بناء المستقبل. إن الصراع مع «داعش» والجهاديين، يتجاوز حدود الصرع بين الأديان، وصراع التيارات المتباينة داخل الدين الواحد. فهو صراع بين نمطين من التفكير، وكل منهما ينتمي إلى عصر. الأول وطني يُعبّر عن الحداثة والعلمانية والعقلانية. والثاني «جهادي» يُعبّر عن نمط تفكير يعود إلى ما قبل التاريخ.
فالصراع ضد داعش وباقي المجموعات الجهادية هو صراع الحداثة ضد التخلف. ومن الضروري أن يخاض هذا الصراع باسم الوطن والحداثة والتطور والديمقراطية والعقلانية والعلمانية، ومصالح الفئات الاجتماعية المقهورة. لأن الصراع الذي يتحدد على قواعد دينية، يساهم في إرساء أسس طائفية تقود إلى توسيع دائرة المعارك التي يقودها من يدّعي تمثيل الإرادة الإلهية إلى داخل كل طائفة، وبين مكوناتها. وذلك بذريعة محاربة المنحرفين عن الدين. صراع الحداثة والوطنية والعلمانية ضد التخلف والتكفير، ليس صراعاً حول نصوص قرآنية. لكنه صراع ضد آليات وأنماط تفكير تعمل على إعادة المجتمع إلى عصور ما قبل التاريخ. ويجب أن يتشكّل هذا الصراع ويتطور في سياق بناء دولة مدنية/ علمانية تستغرق التعدد والتنوع في إطار الوحدة. لذلك هو من أجل القضاء على التخلف في سياق التطور والانفتاح والحداثة والعدالة الاجتماعية. وفي سياق هذا الصراع يجب أن تعاد إلى الفرد حقوق المواطنة كفرد يمتلك الحق في الحياة وتقرير المصير والتعبير الحر المستقل. المجموعات الجهادية تضع من تُكفرهم في سياق تاريخي يكون فيه الفرد جزءاً من قطيع. الفرد يعاقب بسبب انتمائه الطائفي، الديني، العرقي، الإثني، الجغرافي. وليس لأنه متهم بجريمة ما. من هذا المنظور، ينظر إلى الفرد بكونه ابن قطيع مجرماً بالوراثة. ومن هذا المنظور يتم إدغام الفرد في الكل، واختصار هويته الفردية إلى أسباب ولادته الأولى.
إن الصراع في سورية هو صراع سياسي. ذلك يتضح في سياق قيام المجموعات الجهادية بدورها الوظيفي، الذي تتموضع بموجبه في حقل التطرف والإرهاب والتكفير. ومن المؤكد أن مبرر وجودها سينتهي لحظة إنجاز المهمات المنوطة بها. أو في اللحظة التي تعجز فيها عن تحقيق أهداف الدول الداعمة لها. وفي كلتي الحالتين ستظهر نتائج الصراع بشكل ملموس في الحقل السياسي. وهذا يعني أن وجود المجموعات الجهادية في المشهد السوري يرتبط بالأوضاع والمتغيرات السياسية الداخلية والإقليمية والدولية، التي ترتبط بدورها مع الأوضاع الميدانية. لكنّ الفقراء والمضطهدين يتحملون أكثر من غيرهم، تداعيات الصراع ونتائجه. لذلك هم معنيون بخوض صراع وطني ضد حوامل الصراع الطائفي، وتجلياته السياسية والاجتماعية والفكرية. وهذا يضع على السوريين كافة واجباً وطنياً يتجلى في مستويين: مستوى ذاتي يتجلى في التخلص من رواسب التخلف. ويشكّل هذا المستوى المدخل الحقيقي إلى بناء ثقافة عقلانية ديمقراطية وعلمانية. مستوى عام يتجلى في تجاوز الأزمة الراهنة والانتقال إلى مجتمع القيم والحقوق والمواطنة والانفتاح السياسي. ويشكل تلازم المستويين وترابطهما الجدلي، ضرورة ملحّة من أجل تجاوز أسباب التخلف والأزمة التي تهيمن على المشهد العربي.
المصدر: الأخبار