فكرة الدولة والوساطة الثقافية
لا يدرك قيمة الدولة إلا من فقدها وعانى نتائج انهيارها أو ضعف سلطتها وهيبتها، فالدولة أسمنت المجتمع وهيكله العظمي الذي لا قيام للأول ولا انتظام في وظائفه، من دونه . ليست الدولة شيئاً آخر غير المجتمع منظماً .
ومن يتخيلها سلطة جاثمة على صدر شعب أو مجتمع، لا يعرف معنى الدولة، والغالب عليه أن يختزلها إلى مجرد سلطة وقانون ملزم، ذاهلاً عن وجوهها الأخرى التي هي سر تماسك الاجتماع الإنساني: التنمية والرعاية والأمن الاجتماعي والتنظيم المدني والسيادة . وما من شك في أن مقتضيات الدولة ومقوماتها السلطة، ولكن السلطة ليست - حصراً - القهر، وإنما إنفاذ الإرادة العامة الممثلة في القانون، والإنفاذ هذا قد يقتضي قدراً ضرورياً - وشرعياً - من الإلزام المادي، وربما من العنف، غير أنه العنف الذي ينتمي إلى منظومة الشرعية (الذي يسميه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بالعنف الشرعي)، أي الذي يبرر نفسه باستناده إلى القانون، وبارتباطه بغائية أخلاقية اجتماعية عليا هي: حماية الأمن والاستقرار ووحدة الجماعة الوطنية وخدمة المصلحة العامة .
مازال أمامنا شوط فكري كبير علينا أن نقطعه، في المجتمع، والثقافة العربيين، لندرك معنى الدولة - على التحقيق - ونميزه مما يتلبسه ويخالطه من معان أخرى غير مطابقة مثل السلطة والنظام السياسي، أي تلك المعاني التي تجري المرادفة غير المشروعة بينها ومعنى الدولة في التداول الجماعي . ومما هو مستبد وطبيعي أن أهل النظر في هذا، والقيام على أمره، إنما هم أهل الفكر حصراً، والمتخصصون منهم في علم السياسة والفلسفة السياسية على وجه التحديد، ولسنا ممن يذهب إلى القول إن هؤلاء ما أشبعوا الموضوع بحثاً وإضاءة - وإن كنا نرى أن ذلك في الغالب وقع من غير عدة نظرية تكفي - وإنما نميل إلى الظن أن الوسطاء بين نصوصهم والجمهور الأوسع من القراء لم يحسنوا - على الأرجح - تنزيل المركب من أفكارهم إلى التفصيل الذي تتحصل به المعارف العمومية .
والوسطاء الذين نعنيهم ليسوا قليلي الشأن في ميدان التنمية الثقافية، كما قد يظن، بل هم المعول عليهم لتوزيع المعرفة في الوسط الاجتماعي الأوسع، أي هم أولئك الذين لا سبيل إلى مجتمعية المعرفة، ولا إلى اكتسابها من دون أدوارهم في أوساط الجمهور الاجتماعي الأعرض، فالاعتقاد لدينا مكيف بأنه لا قيمة لمعرفة لا تجد طريقها إلى الناس، فتبقى سجينة بيئاتها الأكاديمية الضيقة، تماماً كما لا قيمة لمزروعات أو بضائع ينتجها منتجوها ولا تجد سبيلاً إلى الناس .
إن هؤلاء الوسطاء، المتعلمين القائمين بوظيفة تزويد المجتمع بالمعارف والقيم الرمزية، يشكلون "طبقة" عريضة مؤلفة من فئات مهنية عدة (معلمون، أساتذة، كتاب، صحفيون، وإعلاميون) . وتوصف هذه الفئات - وصفاً اجتماعياً - بأنها تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وهي طبقة ذات خطر وشأن في المجتمعات الحديثة والمعاصرة، مثلما ينسب إليها - نحواً من النسبة غير مبالغ فيه - دور بناء الرأي العام وتشكيل وعي الجمهور المتعلم، بسبب تمركزها في مؤسسات المعرفة (المدارس، الجامعات) والمعلومات (الصحافة والإعلام)، وقد لا نجادل في أن هذه الفئات، الناهضة بأدوار الوساطة، لا تنتج في معظمها المعرفة بل تنقلها وتوزعها في النطاقات الاجتماعية الأوسع، بعد أن تبسط مركبها وتحوله إلى مادة قابلة للاستقبال والاستيعاب، لكنا لا نملك أن نجادل في أنها هي، بالذات، من تعود إليه وظيفة تحقيق الهيمنة الثقافية في المجتمع بالمعنى الذي يفيده مفهوم الهيمنة عند أنطونيو غرامشي، الذي عنه أخذه مفكرو السياسة والاجتماع المعاصرون .
ولا يبخسن أحد أدوار هذه الفئات الوسيطة، في ميداني المعرفة والثقافة، بالقول - مثلاً - إنها أدوار فنية فحسب لا تجاوز حدود النقل، وأن لا شيء من الأصالة فيها، إذ الناظر إليها بهذا المنظار يخطئ إدراك حقيقتين تحايثان تلك الأدوار: أولاهما أن الوساطة ليس نقلاً حرفياً، وإلا ما كانت إليها حاجة عند المتلقي الذي يسعه الاتصال بالأصول، وإنما فيها قدر كبير من التدخل المنهجي والبيداغوجي والتقني للوسطاء يهدف إلى جعل المادة المنقولة قابلة للإدراك العام .
والمستفاد من هذا أمران: أن الوسطاء ذوو تكوين عالٍ يسمح لهم بالاتصال بمصادر المعرفة، وفهمها واستيعابها، وليسوا مجرد نقلة فنيين، ثم إن المادة النظرية أو الفكرية التي يستقبلها الجمهور الأعرض - عبر أولئك الوسطاء - ليست قابلة للإدراك والتمثل إلا بتدخل أولئك الذين يتقنون وسائل إبلاغها ومناهجه . وثاني الحقيقتين أن هذه الفئات الوسيطة هي من ينهض بدور حاسم في تحويل المعرفة من قيمة استعمالية، عند من ينتجونها، إلى قيمة تبادلية إن استخدمنا عبارات ماركس في تعريف السلعة، وفي الظن أنه التحويل الحاسم الذي لا قيمة للمعرفة، ولا وظيفة اجتماعية لها، من دونه .
يشبه دور هذه الفئة دور البيروقراطية، في الدولة . إن الطبقة الإدارية "البيروقراطية" هي صاحبة الأدوار الأكثر حساسية في الدولة . لا قيمة لأي قرار سياسي أو برنامج اجتماعي - اقتصادي أو إصلاح سياسي إن لم تكن البيروقراطية قناة مروره التنفيذية، هي من ينجح خياراً في الدولة وهي من يفشله، ويتوقف الأمر كله على مدى تأهيلها كطبقة إدارية، ومدى سلامة جسمها الوظيفي وسلامة أدائها . من يجادل، إذن، في أن طبقة الوسطاء الثقافية (لِنقل طبقة مديري المعرفة والثقافة) تستقيم أدوارها- هي الأخرى - متى ما منحت التأهيل العلمي الكافي، واكتسبت المهارات المنهجية والبيداغوجية التي تتيح لها أداء تلك الأدوار على النحو الأمثل، هذا ما يحملنا على الظن أن فكرة الدولة، في الوعي الجمعي العام، تتضرر اليوم كثيراً من عدم وجود حاملها الوسيط داخل هذه الطبقة التي تدير ميدان المعرفة والثقافة، من دون أن نبرئ من يكتبون في الدولة من المسؤولية .
المصدر: موقع الخليج