فيرغسون: الصراخ في وجه الأكثرية ودولتها
العنف في الولايات المتحدة له جذور قديمة داخل مجتمع الأكثرية البيضاء، وغيابه عن النصوص القانونية التي تبيح ممارسته ضدّ الأقلّيات وخصوصاً «السوداء» منها لا يعني أنه لم يعد موجوداً في الواقع. بهذا المعنى تصبح «المساواة» التي تحقّقت للأقلّية السوداء بمعيّة حركة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كينغ «شكلية» إلى حدّ كبير، فهي بالإضافة إلى غيابها عن حقل الممارسة الواقعية للقانون - وخصوصاً الجنائي - لم تفض إلى تعديل كبير في تعامل المؤسّسة الحاكمة مع الأميركيين من أصول افريقية.
شكلياً، يحفظ لهم الدستور الأميركي حقوقاً متساوية مع البيض، ولكن عملياً يحدث العكس بدليل تعرّض أحيائهم ومدنهم الفقيرة (هارلم، فيرغسون، ذا برونكس... الخ) أكثر من سواها لعنف الشرطة وقوى الأمن. يحصل ذلك باسم مكافحة المخدّرات والجريمة، ويتحوّل بفعل التواتر إلى عرف يلصِق «بالسود» دون غيرهم وأكثر من غيرهم صفة «المجرمين»، ويحوّلهم في نظر مجتمع الغالبية البيضاء إلى خطر داهم على وحدة النسيج الاجتماعي الأميركي واستقراره. لا يتدخّل القانون هنا لتعديل هذه النظرة، فالعرف عندما يستقوي بمجتمع الغالبية يصبح أقوى منه - أي من القانون - وتصبح الدولة نفسها مضطرّة إلى تبني العرف ومساندة ممارسيه حتى لا تخسر مواطنيها المنتمين إلى الغالبية. من هنا يبدأ التمييز ضدّ الأقلية «السوداء»، ويتكرّس واقعياً، بحيث تتحوّل كلّ المكاسب التي جرى تحصيلها في الماضي لمصلحة هذه الأخيرة أثراً بعد عين.
العنف ضدّ «السود» بوصفه سياسة دولة
هكذا، لا يعود العنف الممارس ضدّ «السود» وأحيائهم وضواحيهم استثنائياً، ويصبح مع الوقت طبيعياً، لا بل يتحوّل الاعتراض عليه إلى خروج على القانون الذي يجرّم في هذه الحالة الممارسات الاحتجاجية والاعتراضية ويسمح للشرطة وحدها بأن تفعل ما تشاء. في فيرغسون حصل ما هو أسوأ، إذ خرجت الأمور عن السيطرة ولم تستطع الشرطة ضبط الأمر وحدها، فجرى استدعاء المئات من قوّات الحرس الوطني التي يوكل إليها القانون مهمّات أخرى غير مواجهة الاحتجاجات و«أعمال الشغب».
الدولة - ممثّلة في حاكم ولاية ميزوري - عبر هذا الإجراء تقول لسكّان فيرغسون إنها غير عابئة باحتجاجاتهم، ومستعدّة لتخطي القانون في سبيل فرض الأمن في أنحاء المدينة. هي لا تريد للأمر أن يتطوّر، وتفضّل التعامل معه خارج سياقه الاجتماعي، فالتعامل الاقتصادي ــ الاجتماعي مع المسألة ستترتّب عليه بالضرورة مقاربة حقوقية تتناول الظلم الواقع بحقّ الأقلية السوداء، وهو ما سيفرض على الدولة الفدرالية وحكّام الولايات التنازل عن الحصانة المعطاة لجهاز الشرطة أثناء تأديته لمهامه الزجرية. ومن ضمن شروط هذه الحصانة بالطبع الحقّ في إطلاق الرصاص على أيّ مشتبه به ترى الشرطة أنه يمثّل خطراً على المجتمع أو يقوّض الأمن الاجتماعي في أميركا. وهو بالضبط ما حدث مع مايكل براون، وقبله مع آخرين من عمره، وكلّهم طبعاً من اليافعين المنتمين إلى الأقلّية «السوداء» في الولايات المتحدة. الدولة هناك تعرف أنّ مثل هذه الجرائم كفيلة بنزع الشرعية عن النصوص الدستورية التي تساوي شكلياً بين الأميركيين من مختلف الأعراق والديانات،
ومع ذلك تسمح باستمرارها بوتيرة معيّنة، فهي تدرك أنها - أي الدولة - لا تمثّل كلّ الأميركيين بمقدار متساوٍ، وإنما تعبّر في العمق عن الأكثرية البيضاء، وتتخلّل هذا التعبير العميق والكلّي أنماط متفاوتة من التعبيرات الجزئية والرمزية عن وجود الأقلّيات العرقية والسياسية. هذا المفهوم الأميركي للأمّة البيضاء المتسامحة مع الآخرين يسمح باستمرار جرائم قتل المواطنين من أصول افريقية، ولا يضع حدّاً لها إلا حين تصبح تهديداً للنسيج الاجتماعي الأميركي برمّته، وهو ما لم يحدث حتى الآن. بعد ذلك تأتي مرحلة أخرى من التلفيق الإيديولوجي اسمها الحفاظ على تماسك الغالبية البيضاء. فلكي تبقى الغالبية هذه على ولائها للدولة ولا تخرج عنها تعبيرات مماثلة لما يحصل الآن في بعض مدن أميركا من تظاهرات لشبّان وشابات بيض متضامنين مع فيرغسون لا بدّ من تأويل الأحداث بعض الشيء، وعدم تركها للمحتجّين وحدهم.
التأويل الجنائي للاحتجاجات
غالباً ما تؤوَّل أحداث العنف التي تلي قتل المواطنين السود جنائياً، فحين يقع «التخريب» بالمنشآت العامة وتحرق السيارات والمحالّ التجارية وتنهب الأسواق تنسى «الأكثرية» المحظيّة ما وقع بالأمس من قتل عمد للسكّان السود وينصبّ اهتمامها بدفع من الدولة وأجهزة إعلامها على ردود الفعل التي يجرى تضخيمها إعلامياً، وإلباسها لبوس الجريمة المنظّمة التي تتعيّن مكافحتها فوراً. هكذا، لا يعود قتل مايكل براون برصاص شرطي أبيض هو الأساس، وتصبح المسألة هي أعمال التخريب التي تطاول المدينة، وتمنع السكان من مزاولة حياتهم الاعتيادية. مع هذا التطوّر تبدأ الغالبية في تقبّل فكرة وجود الحرس الوطني في شوارع فيرغسون وسانت لويس، فمع أنّ المهمة ليست مهمّتها بالأساس إلا أنها غدت بفعل «التخريب» الذي طاول ممتلكات المواطنين وسيلة ممكنة ومشروعة لتفادي عجز الشرطة عن احتواء الموقف. الأكثرية هنا تطالب بمزيد من الأمن ولا تبالي بخرق القوانين المعمول بها في أحداث مماثلة، فما دامت الغاية من الزجّ بمزيد من «القوات الخاصّة» إلى جانب الشرطة إنهاء الاحتجاجات وإيقاف عمليات التخريب فلا بأس بتجاوز الدستور قليلاً، وخصوصاً أنّ التجاوزات لن تطاول مجتمع الغالبية، وستنحصر في تأديب أهل الضحية وأصدقائه وجيرانه الذين لم يستثنوا أحداً من عنفهم، بما في ذلك الشرطة نفسها.
تدخّل الدولة مجدّداً
المشكلة أنّ الدولة هنا أيضاً لا تقف على الحياد، وإنما تتدخّل بقوة ضدّ الأقلية عبر إعلامها المملوك لأصحاب الرساميل - وجميعهم بيض بالمناسبة -، فتحضّ من خلاله على نزع الطابع السياسي عن الاحتجاجات وإلصاق شتّى التهم بها، من قبيل ما فعلته محطة «سي أن أن» أخيراً حين زعمت في تقرير لها أنّ رائحة الماريغوانا تفوح من هواء فيرغسون. وما قالته القناة الليبرالية العظيمة بالحرف هو الآتي: «الهواء في فيرغسون من الواضح أنّ فيه رائحة ماريغوانا». لا يمكن وصف هذا الأمر بالتحيّز ضدّ الأقلية المضطهدة فقط، فهو أكبر من ذلك بكثير، ويمكن إدراجه في سياق توجّه الدولة لتوحيد الحملة ضدّ أهالي فيرغسون، وبالتالي ازالة الفوارق الشكلية بين إعلامي اليمين و»اليسار» لدى تناولهما القضية. «سي أن أن» هنا لا تعود صوت «اليسار» الأميركي ويصبح تحريضها ضدّ الأميركيين «السود» مماثلاً لتحريض «فوكس نيوز» اليمينية، هذا إن لم يفقه حدّة ووقاحة. الكلّ يتحول في لحظة التهديد التي تمثّلها «انتفاضة فيرغسون» إلى صوت من أصوات الدولة التي تختفي ليبراليتها فجأة لتحلّ محلّها نزعة التعبير الفجّ والمباشر عن الغالبية البيضاء.
الخوف على تماسك الغالبية
لم يحصل أن تعرّضت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة لاختبار مماثل، فديمقراطيتها الصورية المرنة كانت تستوعب دائماً موجات الاحتجاج، وتبقيها في إطار التعبير عن الغضب، بحيث لا تقترب من عصب الدولة ولا تفضح انحيازها إلى أكثريتها البيضاء. حتى احتجاجات وول ستريت ضدّ البنوك ورؤوس الأموال وأصحاب الرساميل الذين ورّطوا البلاد في أزمة الديون العقارية بقيت ضمن هذا الإطار، ولم تتجاوزه كثيراً. وبالمقارنة مع ما يحدث اليوم في فيرغسون تبدو تلك الاحتجاجات كظلّ شاحب وهزيل، فهي وان كانت «تطرح تغييراً جذرياً في بنية النظام» إلا أنها بقيت عملياً خارج إطار المواجهة الجدّية معه. ويمكن القول أيضاً إنّ بنيتها البيضاء الخالية من عناصر الصدام هي السبب في انتهائها، وبالتالي تحوّلها إلى شكل من أشكال تفريغ الغضب لدى شرائح معيّنة من الأكثرية (أبناء وبنات الطبقة الوسطى المنتمون إلى اليسار الخائفين على مكتسباتهم من تغوّل الرأسمالية الحاكمة). هؤلاء يعاودون اليوم الاحتجاج ولكن بعيداً من متلازمة «احتلّوا» وعلى مقربة من الناس الذين يقتلون يومياً برصاص الشرطة ولا يجدون من ضمن الأكثرية من يتضامن معهم جدّياً أو يردّ عنهم بعض الرصاصات. إذا توسّعت هذه الاحتجاجات أكثر وانتقلت خصوصاً إلى المدن الكبرى مثل نيويورك وواشنطن وشيكاغو و... الخ فسيكون تأثيرها أكبر بكثير من تأثير حركة «احتلّوا»، وستمهّد لانشقاق جدّي ضمن الأكثرية البيضاء التي لا تزال تراهن على احتواء الموقف، عبر دفع الدولة إلى مزيد من الصدام مع الناس في فيرغسون.
خاتمة
ربما تنتهي هذه الموجة كما انتهت سابقاتها، وتعود أجهزة الدولة للسيطرة على الوضع من دون تقديم أيّ تنازل لأهالي فرغسون، وهذا احتمال وارد، غير أنّ الجديد في الأمر هو إدراك الناس هناك للحدود التي يمكن أن تذهب إليها الدولة في مواجهتهم. فقد قتلت أبناءهم مراراً وتكراراً ولم يرتدعوا عن مواجهتها، والآن تجرّب وسيلة جديدة عبر تطويق المدينة و»عزلها» وملئها بالحرس الوطني المدجّج بالسلاح بعدما تأكّد عجز جهاز الشرطة عن احتواء المواجهات. ماذا تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك؟ لقد مرّغ أهالي فرغسون أنفها بالتراب وأظهروا انحيازها إلى السكّان البيض كما لم يفعل أحد قبلهم، وهذا وحده كاف لنجاح «انتفاضتهم»، حتى لو لم يكسبوا شيئاً وخسروا المزيد من أبنائهم. هم يعرفون أكثر من غيرهم كيف تنتزع الحقوق من دولة الأكثرية المدجّجة بالسلاح وبرؤوس الأموال العفنة، ولهذا يعوّلون على التراكم وعلى الانتفاضات «الموسمية». مايكل براون ليس الأوّل ولن يكون الأخير.
المصدر: الأخبار