في الهوية الوطنيّة والإسلام السياسي
ناشد عبد النور ناشد عبد النور

في الهوية الوطنيّة والإسلام السياسي

«أنا إسلاميّ التّربية، مسيحي الدّيانة، إشتراكيّ الانتماء»

هذا ما قاله يومًا حكيم الثورة جورج حبش. جملة إذا تمعّنا في تفاصيلها إلى ما بعد المجرّد، حتمًا سنجد أن في طيّاتها فلسفة تعبّر عن سيرورة القضية الفلسطينية الوجودية. لم تكن المقولة وليدة الصدفة، فالتاريخ لا يعترف بالصدف، وإنما يستوعب فلسفةً رهينة الأحداث وأقاويلًا تصبّ في إطار الوضع القائم.

تمرّ كلّ قضيّة بصراعاتٍ ذاتيّة تشكّل خارطة الصراع الأكبر والأعم والأشمل، وترسمها. فما كان من الصراع الفلسطيني الصهويني إلا بادئاً لافرازات داخلية لدى طرفيه، ولعلّ الفكرة القائلة بأن تبلور الهوية الفلسطينية أتى ردّاً على تبلور الصهيونية، تمتلك الكثير من الصحّة. هذه الافرازات أنتجت ردود أفعالٍ على المستوى الداخلي للفلسطينيين، نظريًا وعمليًا، وكانت مقولة الحكيم وما زالت جزءًا من ردود الفعل هذه. وفي الوقت ذاته، هي تختصرُ قضيّة. ومن جملة هذه الإفرازات، يحضر توصيف "إسلاميّ التّربية". فكيف يكون المسيحي إسلامي التربية والثقافة في فلسطين؟

 

الأرض "المقدّسة"

أدّى الدّين الإسلامي، بكافة عناصره الثقافية والفقهية، دورًا في تبلور الهوية الفلسطينية. فكانت الثقافة الإسلامية حاضنة وممهدّة لأشكال الهيكل المجتمعي. شموليّة الإسلام شكّلت عاملَ أساسٍ لتداخل الدّين في مفهوم الوطنية الفلسطينية، وتشكيلها حتى. فمن الفتوحات إلى السلطة في بلاد الشام وترسيخ التعاليم الفقهية وبناء المساجد، تثبّت الموروث وحُفظ جيلًا بعد جيل، وصار الدّين جزءًا من الهيكلية الفلسطينية.

أمّا اليوم، وفي خضم الصراعات الإقليمية، فنلاحظ تعارضًا بين الدّين والوطنية، تعبّر عن هذا التعارض حركات الإسلام السياسي على مختلف درجاتها تطرفًا واعتدالًا. تغيّرت المصطلحات وتبدّلت المعايير، وصار الثائر مجاهدًا، العدو يهوديًا، والأرض مقدّسة في مقابل المطامع الاستعمارية. الفرق الذي يمكن أن نجده بين المفهوم الحديث للوطنية وبين نظرة الإسلام للأرض والدّار، هو أن الإسلام ينظر إلى الأرض كجزء من كُل، فبقعة الأرض هي جزء من الدولة الإسلامية. أما الوطنية بمفهومها الحديث فتنظر إلى الأرض كبقعة جغرافية محدّدة، لها عادات وتقاليد تختلف عن الأطر الأخرى، وهي التي أدت إلى تبلور الهوية للجماعة الساكنة في هذه البقعة.

معنى كلمة وطن، كما وردت في الموسوعة الإسلامية، تعني أنها "الأرض الأب، الأرض المنزل"، أي أنها الأرض الأصل للمواطن أو لساكنها، وهي كانت تعتبر أرض الولادة والأرض التي يستمر المولود فيها بالعيش فيها. أما الوطنية فمذكورة في الموسوعة الإسلامية على أنها "الفجر الوطني" أو "مواطنة" وتقابلها في الإنجليزية patriotism أو nationalism.

بما أننا تحدّثنا عن الفرق في المفاهيم الحديثة والإختلاف في الرؤى، لا بد من الإشارة إلى أن الحديث عن الوطنية بالمفهوم السابق يعني الحديث عن الدولة الحديثة وعن الأنظمة السياسية الحديثة.

 

فكرة لامحدودة للجغرافيا

يفصل الباحث السوري بسام طيبي بين رؤية الإسلام كدين وبين الإسلام السياسي كحركة منظمة، فيقول إن الإسلام كدين هو عقائدي وروحاني ومعياريّ قيميّ، أما الإسلام السياسي فيحاول دائمًا أن يدمج الدين مع الدولة والسلطة، وهي عوامل بدورها تسعى لتقريب الديمقراطية من الإسلام. فينظرون إلى الإسلام على أنه الدين الذي سيحكم الدولة بأدواتٍ تتشابه مع مفهوم الحكم الديمقراطي.

يمكن الدمج بين مفهوم الحدود الجغرافية المعاصر كأساس لتكوّن الهوية الجماعية وتبلورها، وبين رؤية الإسلام للمكان والجغرافيا السياسية الإدارية القاضية بفصل "الإداري" عن "الديني" وعن هدف الرسالة الأممي. فالهوية الفلسطينية، كأي هوية، تتشكل وفقًا لبقعة جغرافية معينة. وإنتاج الهوية الوطنية منوط بحدودٍ جغرافيّة موضوعة أو متخيلة، بحسب رأي الباحث بنديكت أندرسون. وقد رأى أندرسون أن الجغرافيا هي أساس من أسس تبلور هوية جماعية لمجموعة معينة، تضاف إلى العناصر الأخرى. أما الإسلام فيرى واجب الدفاع عن الأرض وفق البقعة الجغرافية المحددة ضمن الدولة الإسلامية، انطلاقاً من وجود أرض فلسطين في بقعةٍ جغرافية كانت تابعة يومًا للدول الإسلامية المتعاقبة ضمن ما يسمّى بسوريا الكبرى أو بلاد الشام. ويمكن أن يستنتج أمرين من هذا الفصل: الأول، أن الإسلام السياسي ينظر إلى فلسطين كبقعة جغرافيّة ذات هوية إسلامية اكتسبتها عبر الفتوحات وعبر التراث الديني الإسلامي، ما أوجب القتال لتحريرها من أيّ اعتداء. الثاني، إن فلسطين والأرض تحلان كجزء من الهوية الإسلامية العامة، ولا تنفصلان عن الحدود الإسلامية التي تقسمت مع الزمان وصولاً إلى نهاية الإمبراطورية العثمانية في العام 1922.

بناء على ذلك، يمكننا القول أن الإنتماء العقائدي لأرض فلسطين ليس محصورًا بالوطنية بمفهومها الحديث، وليس مقصورًا على معنى الوطنية التي توضحت بعد الإسلام بمئات السنين، بل يرى الإسلام السياسي في فلسطين إنتماءً للأرض والدين والتاريخ والتراث. وهو بذلك يقترب من الرؤية العامة للعالم، وليس من الرؤية الإقليمية المحدودة.

من هنا، يتضح أن الدمج بين القومية والإسلام ليس دمجًا فعليًا إنما هو دمج في الفكرة اللامحدودة للجغرافيا. فبعض الإسلاميين يرى أن الإسلام هو مركّب للقومية العربية، وجزء لا يتجزأ ولا ينفصل منها، انطلاقاً من مبدأ أن القرآن الكريم كتب باللغة العربية. ومن هؤلاء، نذكر محمد عبده ومحمد رشيد رضا. ويشير الباحث ميشال واين أيضاً إلى رؤية الإسلام للجغرافيا والوطن هذه، بالقول إن الإسلام يتعدى الحدود، وإن الإسلام كعقيدة هو دين عالمي وأممي غير محصور، وإن الإسلام لا يفصل الدين عن الدولة.

 

التباس "الأمة الجامعة"

لا تعترف الدولة الدينية أو غيرها من الأنظمة الشمولية بالانتماءات الفكرية المقابلة، وهي تحاولُ دائمًا تعريف الهوية الدينية للفئة والأفراد متجاهلة الفكر المغاير والمناوئ لها. فيكون الأخر إمّا خارجًا عن الملّة أو كافرًا ستحاربه بكافة الوسائل، متناسية المشروع المطروح من الأفكار وما يمكن أن يساهم منها في بناء الدولة والمؤسسات.

الحرّية الفكرية هي ضامنة إجتماعية للاستقرار والإنماء وحفظ التعددية. أمّا الدّور الإقصائي التي تؤديه حركات مشروع "الدّولة الإسلامية" فيعود بسلبياته على تبلور الهوية لتصبح هويةً ملتبسة تختلط بين العلمانية والحداثة والدّين ومفهوم "الأمّة الجامعة". الدّمج بين المسيحي والمسلم لا يكون إلا ضمن إطار وطني جامع وحاضن ومتعدّد. فلا تكون الأقليّات مفرزة على أساسٍ دينيّ أو مذهبي، بل يصبح المسيحيّ(ة) والمسلم(ة) مواطنين فلسطينيين يشكلّان النسيج المجتمعي.

إن إصرار الحكيم جورج حبش على قول "مسيحيّ الدّيانة"، هو برأيي تأكيدٌ على أهميّة التصنيف الوطني لا المذهبي للشخص. فالإسلام السياسي كان ولا يزال جزءًا هاماً في الصراع الفلسطينيّ مع العدو. وإن لم يكن كذلك في شقّه السياسيّ المنظم، فقد رافق العمل الإسلامي الديني مراحل تنظيم "الحركة الوطنية الفلسطينية". وتعتبر الحركات الإسلامية نفسها حركات وطنية، كما تبيّن من ميثاق "حركة المقاومة الإسلامية – حماس". ما يعني أنهم ينظرون إلى الأرض كجزءٍ هام من أهداف الشريعة وتحقيقها.

من كلّ ما قيل آنفًا، واطلاقاً من الجملة المقتبسة في بداية الكلام، تبقى فلسطين معلّقة رهينة الأحداث والمتغيّرات، تتبدّل فيها المعايير والأفكار ويبقى المحور واحد، الأرض وقضيتها. أما الهوية التي رآها البعض عصارة رد الفعل على تشكل الصهوينية العالمية فقد حملت مع خصالها التراثية الإسلامية طابع التحدي والمواجهة.

المصدر: السفير