العرب والعنف.. لماذا استيقظ الوحش
يطرح مشهد العنف في العالم العربي أسئلة معقدة حول العوامل الآيلة إلى تنامي العنفيات المحيطة بنا. ليست الحرب والدموية والعدوان خصائص تطبع تاريخ العرب وحدهم. عرفت الأمم في مسارها المتعرج عنفاً ثلاثياً: سياسيا ومجتمعيا ودينيا. العنف ظاهرة ما قبل تاريخية سبقت الإنسان المتحضر وما زالت إلى الآن تصنع حاضره. شهدت الإمبراطوريات كافة عدوانية تتجاوز إلى حد ما ملحمة الدم والثأر في الديار العربية، أرض الخلافات والوصايات.
أجمعت غالبية المؤرخين والمفكرين على أن تاريخ البشر هو تاريخ العنف. لم تعش البشرية في حال وئام إلاّ في غضون ثلاثمائة سنة ليس أكثر. في القرن السابع عشر هلك 3,3 ملايين إنسان، وفي القرن الثامن عشر هلك 5,2 ملايين إنسان، أما في الحربين العالميتين فقد حصدتا 9,5 ملايين إنسان في الأولى، وما يقارب الخمسين مليون إنسان في الثانية. (راجع: سهيل العروسي، العنف: مقدمات ونتائج).
يتحدث سيغموند فرويد (1856 ـ 1939) في كتابه "مستقبل وهم" عن أن كل "إنسان تعشّش فيه ميول هدامة مناهضة للاجتماع والمدنية (...) إذا رُفع كل حظر أو التزام حضاري". وقد رأى البرفيسور عدنان حب الله (1935 ـ 2009) أن الكائن البشري "يحمل في طيات نفسه جرثومة الحرب الأهلية، بمعنى أن ما من مجتمع معصوم منها، إذ يكفي أن تتوافر الشروط الضرورية كي يستعاد ما كان مكبوتاً، ماحياً حقوق الإنسان واحترام حق الاختلاف وحتى مفهوم الديموقراطية".
كتب مختصون في مجالات مختلفة عن الدوافع العدوانية في سلوك البشر، ويُعد كتاب عالم النفس الألماني إريك فروم (1900 ـ 1980) "تشريح التدميرية البشرية" من الكتب الرائدة . لم تحظَ عنفيات العرب بالاهتمام العلمي الكافي في فهم مسبباتها، وستبقى الأدبيات عاجزة عن الاحاطة بها ما دام السلطان السياسي والديني يمارس لعبة التجهيل والإخفاء لفهم أزماتنا الدورية.
ثمة حال من الخوف والرعب في العالم العربي منذ استفحال الصاقع الداعشي الجهادي الذي يتفنن ويمارس أشد أنواع العنف باسم الدين، فيستبيح الجماعات والدول ويبدل معالم الخرائط ويذبح ويرجم ويقتل بلا أي رادع أخلاقي أو ديني. يتساءل البعض كيف استيقظ هذا الوحش؟ وهل هناك أرضية عميقة ساعدته على الخروج من عتمة الماضي؟ تشكل المجتمعات العربية مختبراً حياً لمن يريد من علماء الاجتماع والسياسة والتحليل النفسي درس أسباب العنف وبواطنه التاريخية المتعددة المشارب والعميقة بنيوياً.
يحتل العنف الديني موقع الصدارة عند العرب. عدد لا يستهان به من المعاهد والمدارس الدينية الإسلامية تنتج ثقافة إقصاء الآخر والموت، وتصور الإله في صورة الله الثأري والمنتقم؛ رب الجماعة الناجية وفرقها المتقاتلة والمتصارعة على المقدس. الأخطر أن المؤسسات الرسمية في دول عربية عدة تبارك وتسكت عمّا ينتجه شيوخ الفتنة الذين يعانون من نرجسية عدوانية باسم المتعالي، فيبيحون استخدام العنف الرمزي والمادي، المستمد من إسلام الفقهاء، ويروجون للكراهية والحقد، تجاه كل من يختلف عنهم من مسلمين وغير مسلمين، ويغذون شعائر وطقوس الموت التي تتبدى في حلقات التعليم الديني وتتمظهر في بعدين: تكريس العداء تحت راية الجهاد؛ وتكفير الآخرين، أي قتلهم وإلغاؤهم من الوجود. لا تندرج كل حلقات التعليم الديني في العالمين العربي والإسلامي ضمن هذه الخانة، فهناك محاولات للإصلاح لكنها تجري ببطء شديد لا يواكبها تشجيع رسمي يسمح بارساء التعايش بين أبناء الدين الواحد، ويجعل الدين قاعدة من قواعد انتاج المعرفة الدينية واعتباره جزءاً من المنظومة الأخلاقية.
سياسياً، حولت الأنظمة العربية الطغيانية المجتمعات إلى بؤر متوترة ومضطربة بسبب إفراطها في الاستبداد واحتكارها للسلطة باسم الأبوية السلطانية، فهمشت المعارضة، ولم ترسِ قواعد متينة للعدالة الاجتماعية التي تأتي في طليعتها معالجة مشاكل الفقر ومحو الأمية. هذه المعطيات وغيرها فجرت مستويات من العنف تتضح بشكل جلي في الدول التي دخلت قاطرة "الثورات العربية". لماذا؟ لأن الدولة ضمن شروطها الأدنى غابت، فخرج كل العفن التاريخي وكل الأمراض الاجتماعية المتراكمة والمكبوتة. إذ إن "السلطة والعنف متعارضان؛ فحين يحكم أحدهما حكماً مطلقاً يكون الآخر غائباً"، هذا ما خلصت إليه الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت (1906 ـ 1975). ولكن كيف يترجم عربياً؟ تظهر السلطة عندنا في إطار الدولة الريعية: دولة الطوائف والمذاهب والقبائل والعشائرية السياسية، أي تلك الدول غير الراغبة في الاصلاح والدمقرطة والتغيير، فتحكم الجموع الغفيرة والغفورة باسم أحادية تعزل الجمهور عن صناعة القرار. هذه السلطات في الأساس سلطات مأزومة، أي توتر داخلي أو حراك احتجاجي مطلبي يفقدها الشروط الأولية لادارة الأزمة فتمارس هنا أدواراً مختلفة: القمع، طمس الحقائق، والتعمية. ولعل كبت الحريات في أنظمتنا وغياب أساليب التعبير عن الرأي وتقليص حراك المجتمع المدني وهدر كرامة الإنسان، ساعدت كلها على تدشين العنف المجتمعي المستمد من عنف السلطة والعنف الديني أيضاً الذي يقدم الغطاء الشرعي للأول.
يرى عالم النفس المصري مصطفى صفوان أن المجتمعات العربية تعيش في حال حداد مستمر على الحرية. الحداد يصاحبه قلق جماعي من المستقبل وتمسك بالماضي كأنه جسر الخلاص من الحاضر المؤلم والغد الغامض. هذا إلى جانب الكآبة الملحوظة في المزاج العربي العام، حيث تفاقمت في موازاة العنف الجهادي رمزيات العنف المجتمعي التي عبرت عن نفسها في أنماط عدة، من ضمنها اعتياد الناس على التلقي السلبي لمشاهد القتل الفردي والجماعي، الذي تنقله وسائل الإعلام العربية بلا رقابة. وهذا يجعل كل "شخص يشاهد العنف مهيأ أكثر من غيره ليكون هو نفسه عدوانياً، لأنه لا يستطيع التخلص من منبهات العنف"، كما استنتج ليونارد بيركينز. يمكن الكشف عن مؤشرات أخرى للعنف الرمزي تظهر في ردود أفعال الناس حيال مشاهد القتل، حيث يلاحظ المراقب أن ثمة لامبالاة عامة. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى غياب الجامع الإنساني بين العرب، فغدت كل أمة لنفسها غير معنية بما يجري حولها. يُرَبَّى الفرد في العائلات العربية على التبعية وعدم استقلالية الرأي والارتباط بالطائفة والمذهب والعشيرة بدل الولاء للوطن، ويتم تأطيره كي يكون كائناً دينياً يسلم بالغيبيات، كما يكرس المجتمع ثقافة الإذعان ما يؤدي إلى هدر الوعي الفردي الناقد وإلى تحجر العقول.
يستمد العنف في العالم العربي قوته من منابع سياسية ودينية ومجتمعية. لا يمكن إحالته على مصدر واحد، غير أن العنفيات من زاويتها الدينية تعتبر الأخطر، كونها تراهن على المقدس الجاري الصراع عليه، وتريد اعادتنا بالقوة إلى حروب صفين وأخواتها، ما يؤكد مستوى العجر في مواجهة المشاكل وتوفير الحلول لها. لقد أيقظ الوحش الجهادي التكفيري بقعة سوداء نائمة، فأثار المخزون العنفي التاريخي الكامن في مجتمعات كئيبة مختطفة من قبل الاستبدادين الديني والسياسي.
المصدر: السفير