إيبولا و«داعش»... التشابه والتباين
جان عزيز جان عزيز

إيبولا و«داعش»... التشابه والتباين

نوعان من العناوين يتصدّران الصحافة والإعلام الكونيين: إيبولا و«داعش». حتى تحوّلت المفردتان من اسمي علم إلى اسمي جنس. لم يعد ثمة حاجة إلى أي إنسان على وجه الأرض لتشرح له معنيي الكلمتين أو مضمونهما أو نتائجهما أو التداعيات. لا بل صارتا في قواميس عارفي السياسة والعلم، أكبر خطرين يهدّدان البشرية اليوم. فهل هي مفارقة؟

في الأساس إيبولا اسم فيروس. أي أنه تنظيم معين لمركبات وذرّات. «داعش» أيضاً تنظيم مقابل، لخلايا وأفراد. الفيروس الأول ليس جديداً. أول ظهور وبائي له سجل سنة 1976. الفيروس الثاني ليس جديداً أيضاً. ظهوراته العامة معروفة منذ سبعة قرون على الأقل. إيبولا انتقل بداية من الحيوان إلى الإنسان. «داعش» عكست المسار، فنقلت الإنسان إلى مستوى وحشي غير مسبوق. علماً أن انتقال إيبولا إلى الإنسان كان حادثاً غير مقصود. فيما انتقال «داعش» بإنسانها إلى مستوى الوحوش كان حدثاً مقصوداً ومدروساً ومخططاً له بدقة وعناية وعن سبق قصد وتصميم. حتى أن أول رؤية استراتيجية لنشر وباء «داعش»، كانت دراسة شاملة وضعت بين العامين 2007 و2008، تحت عنوان «إدارة التوحش». إيبولا يدخل جسم الإنسان وينام. تتراوح فترة سباته داخله بين يومين وثلاثة أسابيع. يكون الفيروس خلالها قد تمكن من قوته وفاعليته وأذاه وضرره، قبل أن ينفجر في داخل الجسم اجتياحاً لكل ما فيه. «داعش» تملك الآلية نفسها. تدخل إلى الجسم المجتمعي تحت غطاء خلايا نائمة. تعمل سراً في مرحلة «التمكين». حتى تتأكد من قدرتها على الانتقال إلى العلانية والقتل. فتتجلى بأقسى فظاعاتها. إيبولا يرفع حرارة الجسم اليشري. «داعش» تدفع بحمى المجتمعات إلى الانفجار. إيبولا يُضعف كل عضل في جسم الفرد. «داعش» تسلخ كل عضل في أجسام الأفراد والجماعات، تحزّه، تجزّه، تسحقه تدهسه وتمحقه. إيبولا ينتهي بعوارض في الدم، ترفع نسبة الكريات البيضاء. «داعش» تبدأ بإظهار الدم، بهرقه غزيراً، بتحويله نهراً يكسو وجهها ويمحو كل لون. فلا يبقى في الأرض التي تفترسها غير وجوه حمراء ومخلوقات سوداء... في النتيجة يظل المشترك الأهم بين الوباءين، هذه القدرة على الفتك والزهق. على الإبادة. على الإفناء والقتل الجماعي. على محو كل حضارة وثقافة، على طمس كل جمال واجتراح كل بشاعة. على وأد كل خير ونشر كل شر. على أن يكون كل منهما نذيراً لمن لا يصدق، أن لزمن أرضنا حداً، ولتاريخ بشريتنا نهاية. إيبولا و«داعش» مؤشران على ذلك. هذا أبرز ما يجمع بينهما في الشكل.

غير أن دلالات أهم تجمع بين الخطرين. مثلاً، لم يأت فيروس إيبولا من العدم. تماماً كما «داعش». الأول جاء من صيغة سابقة لفيروس سابق. من نوع آخر أقل خطورة من مجموعة فيروسات الرشح والإنفلونزا. مثله جاءت «داعش» من صيغ سابقة من الأصولية التكفيرية الإرهابية. الفيروسات السابقة لإيبولا، لم يعطها العالم أهمية. لم يقدر حق قدرها من الخطر. تركها تتطوّر وتتفجّر في مناطق وبائية معروفة. اعتقد أن تداعياتها لن تبلغه. فهي بعيدة عنه. في تلك القارة السوداء التي يكتفي بامتصاص ثرواتها لرجله الأبيض، وترك أوبائها لأطفالها السود. في أحسن الأحوال، وهبهم «العالم المتحضر» حبة أسبيرين وعلبة بسكويت فرنسية.
«
داعش» سارت وفق النمط نفسه. ولدت في رحم حلفاء الغرب. منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ونظرية محاصرة الماركسية بالإسلاميين، إلى «مجاهدي» أفغانستان وإنجازات واشنطن الغبية في ما كان ملحقات موسكو السوفياتية، إلى ما كان يوغوسلافيا وتفكيكها بالأحقاد الدينية واستخدامات القضاء الدولي، إلى كوسوفو وكسر قواعد القانون الدولي حول سيادة الدول وحدودها، إلى عراق جاي غارنر وولاية أشهره الستة، التي اعتقدها المحافظون الجدد أكثر من كافية لبناء ديمقراطية جيفرسونية مكان صدام، إلى سوريا وكل الشر المتدفق من بطن إردوغان وحدوده تجاهها... كل ذلك كان المسار الأميركي لفيروس «داعش»، وكانت واشنطن تغطيه ببرميل نفط بدل حبة الإسبرين، وبحب أهل البترودولار، بدل حب المريض وفق الأخلاقية البروتستانتية.
أمران اثنان غفل عنهما الرجل الغربي، أو تغافل: أولاً إذا كان فيروس إيبولا يتنامى في المجتمعات الفقيرة، فلماذا يتكاثر فيروس الدواعش في مجتمعات النفط والوفرة والبطر المالي والفحش المادي؟ مسألة أساسية هي هذه، لفهم طبيعة الفيروس الثاني وكيفية انتقاله وتطوّره وعمله وإمكان مكافحته. فإذا كانت تنمية أفريقيا ــــ آخر هموم الرجل الأبيض قطعاً ــــ سبيلاً ممكناً لتجفيف مصادر إيبولا، فكيف تجفف البذار الغنية للدواعش الأثرياء؟
ثانياً، ورغم كل محاولات حصره في مجاهل الكولونيالية المستدامة، وصل إيبولا إلى قلب الغرب. وثانياً أيضاً، ورغم كل أوهام استثماره بين الموصل وكوباني حصراً، وصلت «داعش» إلى عنق الغرب.
فارقان يفرضان السؤال الملح : قد تكون بداية استئصال إيبولا بأنسنة أفريقيا، بدل استعبادها من الغرب. فلا تظل صورتها في ذهن الرجل الأبيض ومصالحه، تماماً كمثل صورة ذلك المعالج المتلحف بألف عازل وواق حيال مصاب بالفيروس القاتل. لكن استئصال «داعش» يبدأ بأنسنة من وماذا؟ هل من يجرؤ على الجواب؟!

المصدر: الأخبار