تركيا والرهانات الخاطئة لـ «المنطقة العازلة»
لم تكن تركيا بحاجة إلى مزيد من الوقت لكي تكشف عن مطامعها وازدواجية سياساتها في الشرق الأوسط .
مذكرة الحكومة التي وافق عليها البرلمان في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وعرفت بمذكرة الثاني من أكتوبر، آخر مثال على سياسة التخبط والهروب إلى الأمام .
فالمذكرة تتيح للحكومة أن ترسل قوات إلى خارج تركيا لمواجهة التهديدات، وتصريحات المسؤولين الأتراك تترجم مضمون التحرك التركي على أنه إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية والعراقية، واستعداد الحكومة أن يتولى حمايتها حتى الجيش التركي بمفرده .
المذكرة لا تشير إلى أن شرط إرسال قوات إلى الخارج هو تعرض تركيا لاعتداء أو هجوم خارجي، وفي هذه الحالة يمكن تبرير ذلك . لكن ما يشير إليه المسؤولون هو عكس ذلك، ولن تنتظر تركيا التعرض لاعتداء . يقول الأتراك إنهم سيسعون إلى استصدار قرار من مجلس الأمن لإقامة مثل هذه المنطقة، واذا لم يحصل ذلك فستسعى إلى أن تكون قوات التحالف الدولي ضد الإرهاب، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هي التي تشارك تركيا الإشراف على المنطقة، وفي حال تعذر ذلك فإن الجيش التركي سيتولى السيطرة على المنطقة بمفرده .
هذا السيناريو يضع تركيا في مصاف الدول المارقة التي تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، من دون أي غطاء شرعي دولي .
وهذا التحول في المقاربة التركية للتطورات في المنطقة يطيح نهائياً بمقولة "القوة الناعمة" التي رفعها حزب العدالة والتنمية في إطار سياسة "صفر مشاكل" التي اتبعها قبل أحداث ما يسمى ب"الربيع العربي" . وباتت تركيا تتكئ على سياسة استخدام القوة لتنفيذ سياسات وأهداف خارجية، وهذا المبدأ ليس جديداً في الأحداث التاريخية، لكن تركيا حزب العدالة والتنمية كانت ترى أن أحد أبرز عناصر قوتها هو حل المشكلات من طريق الدبلوماسية والعلاقات الاقتصادية ومجموعهما "القوة الناعمة"، وانتهاج تركيا نهج القوة والعنف الآن يعني أنها باتت تفقد الآن وبصورة رسمية أحد عناصر قوتها السابقة، علماً أنها فقدته عملياً منذ أن هددت قبرص اليونانية باستخدام القوة لمنع مواصلة التنقيب عن النفط والغاز . كما هددت "إسرائيل" بالتعرض لأي محاولة "إسرائيلية" لاعتراض السفن التركية المحملة بالمواد الإنسانية إلى غزة، علماً أن هذه السفن لم ير أحد لها وجهاً على الإطلاق، ولم تنطلق في الأساس، وهذا لا يعني أننا ضد استخدام القوة لرد العدوان "الإسرائيلي"، لكن فقط نشير إلى مقولات سياسة أردوغان - داود أوغلو الخادعة والمزدوجة والعاجزة في الوقت نفسه، خصوصاً تجاه "إسرائيل" .
إقامة المنطقة العازلة داخل سوريا أولاً، وربما العراق ثانياً، يأتي أيضاً في إطار سياسة التضليل التركية، إذ إن تركيا كانت من أكبر الداعمين لتنظيم "داعش" الإرهابي، وفي وقت كان عناصره يديرون آلة الذبح يومياً، كان الدبلوماسيون الأتراك "المحتجزون" في الموصل يعيشون حياة رغد، ويتواصلون يومياً بالهاتف النقال ولعدة مرات مع وزير الخارجية الذي أصبح رئيساً للحكومة أحمد داود أوغلو، وفي وقت كانت أنقرة تعد الأكراد في تركيا بحل سلمي لمشكلتهم، كانت تطلق آلة الهجوم الداعشية لتشن هجومات وتحتل عشرات القرى الكردية في سوريا، وتذبح سكانها وتهجر الآخرين، وتطبق على مدينة عين العرب (كوباني بالكردية) تحت أعين الأتراك الذين منعوا الشبان الأكراد من الذهاب إلى هناك للدفاع عن كوباني .
لقد تفاجأت تركيا بالتحالف الدولي، لأنه يمكن أن ينهي أو يضعف أداة التأثير التركية الوحيدة الآن في المنطقة، أي تنظيم "داعش"، ومنعاً لحدوث مفاجآت غير متوقعة فإن أنقرة سارعت إلى الإعلان عن إقامة حزام أمني، إذ إنه في حال تطورت الأمور إلى إنهاء تنظيم داعش وخروجه من أن يكون أداة فاعلة بيد تركيا، فإن تركيا تكون قد استعاضت عنه بإقامة حزام أمني يتيح لها استمرار التأثير والابتزاز في سوريا والعراق ومنطقة الشرق الأوسط ككل، خصوصاً أنها فقدت كل أوراق الضغط الأخرى التي كانت بيدها في مصر (عبر الإخوان المسلمين)، وفي ليبيا، وفي تونس وغيرها، ولكن كما غرقت تركيا حزب العدالة والتنمية في مستنقع سياساتها وتقديراتها ورهاناتها الخاطئة السابقة، فليس من أي دليل على أن نتائج خطوتها الحالية لن تكون خلاف نتائج خطواتها السابقة .
المصدر: الخليج