تشى غيفارا: أيقونة أم ثائر أممي؟
«أكره أن أرى وجه والدي في منفضة السجائر وعلى أزار (الجينز). هذه هي الماركانتالية. هذه هي الانتهازية. هؤلاء لا يبتغون سوى الربح المالي. ولكنني آمل في الوقت ذاته ان لا يقوم الشباب باللحاق بالموضة، بل بالبحث عن هذا الرجل في المجتمع الاممي الذي ما فتأ يفقد كل قيمه»
إ ليدا غيفارا ــ ابنة إرنستو تشى غيفارا
لقد بلغت شهرة غيفارا وشعبيته الأممية حدوداً تفوق ما حظي به غيره من ثوّار القرن العشرين وربما ما قبل ذلك. ويعود الفضل في هذا الى الأجيال الناشئة التي لعبت دوراً هاماً في تخليد غيفارا الثوري وإرثه. يتسم افتتان هذه الأجيال بتشى غيفارا في طول الكرة الأرضية وعرضها، بالروح الثورية والمثالية والرومانسية، مما يساهم في اضاءة درب النضال والنفق المظلم الذي طالما تجد هذه الأجيال نفسها حبيستة. صحيح أن الافتتان لا يرسم استراتيجية التغيير الثوري ولا يحدد مهام المرحلة وبرنامجها النضالي، ولكنه يُبقي جذوة الثورة متقدة في نفوس الجيل الشاب التوّاق إلى الثورة على الواقع القائم وتغييره، وإلى بزوغ فجرٍ جديد وغدٍ أفضل.
أما افتتان الجيل الذي عاصر غيفارا ونضاله وتابع معاركه وانجازاته، فهو افتتان ممزوج بالألم لجسامة الخسارة التي منيت به الإنسانية برحيله المبكر، وما زال يحمل في ثناياه سؤال: ماذا لو ظلّ هذا المناضل حياً بيننا؟
جاءت هذه المقدمة للتأكيد على أن هذه المعالجة النقدية لغيفارا - الأيقونة أو الأدق أيقنة غيفاراiconization، لا تأتي في اطار التقليل من أهمية تخليد غيفارا وابقاء ذكراه حية، بل في سياق استدراك سلبياتها ومخاطرها.
نتوقف في البداية عند بعض الملاحظات ربما تشكل المدخل والدافع لهذه الكتابة:
الأولى، هي الخشية من تحويل غيفارا الثائر المتسق مع ذاته ومبادئه الى سلعة تُباع وتُشترى في أسواق رأس المال، أو إلى أيقونة ميتافيزيقية، وهو الثائر الماركسي الذي حرص، وكان بين أكثر الماركسيين، نموذجاً للجمع بين النظرية والتطبيق بل غلّب الممارسة الثورية على النظرية ومنحها المقام الأول في صياغة المفاهيم والنظريات.
والثانية، تفادي المغالاة في الأيقونية والتقديس على حساب الفكر الثوري وتغليبها على دراسة وفهم إرث الثوار، دون الانتقاص من ضرورة تخليدهم أو أهمية دورهم في صناعة التاريخ وحراك الشعوب.
الثالثة، هناك مَنْ يرى أنه لا ينبغي القلق من أيقونة غيفارا لأن قدوته وأفكاره الثورية كانت أكثر فعالية في تعبئة الملايين من الفقراء وجماهير الطبقات الشعبية والمهّمشة في هذا العالم الظالم من الصور والأيقونات. ثم يذكروننا بأن هذه الأيقونة، على خلاف غيرها، ارتبطت بقدوته النضالية وبهذا المعنى فقد كانت مكلفة للإمبريالية التي تنحو دوماً نحو التقليل من كلفة وتأثيرات غيفارا وأفكاره وإرثه، وهو ما عبّر عنه إعلامي أميركي بقوله: "قد تكون القصمان رخيصة، أما تشى فقد كان أيقونة مكلفة جداً للإمبريالية".
الأيقنة كاشكالية
(الأيقنة وتزييف الوعي)
لقد درجت الشعوب على تخليد ثوّارها. ولا ضير في ذلك من منظور الحفاظ على الدور الذي لعبه هؤلاء في ثورات الشعوب، وبهدف غرس القيّم الثورية وتعيمق الوعي الشعبي بها وتشجيع المواطنين على متابعة المسيرة الثورية والعمل المتفاني في بناء المجتمع الجديد.
هكذا، على سبيبل المثال، خلّد الكوبيون ذكرى غيفارا وإرثه. وما زلنا، حتى يومنا هذا، نرى شوارع كوبا وأحياءها تزدان بالصور واليافطات التي تعبر عن الحضور الدائم لتشى غيفارا وعن شعارات المقاومة والصمود والتفاني في خدمة الثورة والمجتمع والإنسان الجديد وتعزيز التضامن بين الشعوب.
غير أن الاشكالية تكمن في أن أيقنة غيفارا بلغت حدود التسليع المبتذل لأغراض تجارية وربحية وبغاية تسطيح فكره الثوري. بعبارة أخرى، إن ظاهرة الأيقونية في حالة غيفارا تسلط الضوء على معضلة أعمق أوجزها بما يلي:
■الكل يعي أن غاية الغرب الرأسمالي - الإمبريالي أن يُبقي غيفارا صورةً دون حياة وأيقونيةً جامدة و"تقليعة" يركض خلفها الجيل الناشئ، ما يحول دون وصول فكره الثوري الى وعي هذا الجيل؛
■لا خلاف على أن هذا المسعى يدر الأرباح من جرّاء سلعنة هذه الاسطورة، ولا غرابة في ذلك، فتلك هي وظيفة رأس المال ولا ينبغي أن تفاجئنا، بل هي في صلب طبيعته؛
■غير أن السؤال يبقى حول معرفة والمام الأجيال الناشئة في الوطن العربي والعالم الثالث بالفكر السياسي والثوري لغيفارا، وما الذي حُفر عنه في ذاكرتها غير الصورة أو القميص أو القبعة؟ وأبعد من ذلك، ما هي مسؤولية المثقف الثوري (لم نعد نسمع به، تُرى هل ما زال في معجمنا؟) والأحزاب والتنظيمات السياسية والثورية واليسارية (أو التي تدّعي ذلك) ومثقفيها في الوطن العربي والعالم الثالث بل والعالم بأسره؟ سؤال برسم اليسار العربي (أو ما تبقى منه) ومثقفيه ودورهم في تثقيف الأجيال الناشئة وبناء وعيها وتنشئتها وتحصينها بالفكر الثوري النقدي؟ أم أن التثقيف والتعبئة أصبحت حكراً على منابر التكفيريين والسلفيين؟
■تكتسب هذه الهواجس راهنيتها وأهميتها من الأوضاع الراهنة التي نعيشها خاصة خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، والتي تستدعي ضرورة ترسيخ فكر المقاومة بكافة أشكالها (الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية)، لا ضد المخططات الإمبريالية في بلادنا وحسب، ولا ضد الأنظمة الرجعية والعميلة لوحدها، بل ضد العملية التربوية بأسرها (الدينية وغير الدينية) في بلادنا وضد الفكر السلفي والتكفيري والظلامي بكافة مدارسه ومنابره وفضائياته ووسائل إلاعلامه الفتّاكة، هذا الفكر الذي أخذ بقطاعاتٍ عريضة من أجيالنا الناشئة وهيمن على عقولها.
هنا يجدر بنا التوقف عند سمة خاصة تميز بها تشى غيفارا. فعلاوة على كونه شهيداً ثورياً ذا لمسة رومانسية متألقه، فقد ثابر غيفارا على الدعوة الى تكوين "الوعي الجديد" واعتبره ضرورة وشرطا لخلق "الإنسان الجديد"، كما كان قائداً ثورياً ومفكراً في حقبة تاريخية صعبة ومعقدة، وقد تميزت فترة نضاله بالعديد من الإستراتيجيات وطرق النضال الخاصة والمميزة لتلك الحقبة، تجدر دراستها والافادة منها في صياغة برامج النضال العربي التي نحن بأمس الحاجة اليها اليوم. وخلافاً للعديد من الثوّار (بما فيه الماركسيون الكلاسيكيون وماركسيو "اليسار" الجديد)، شكّلت المقاومة الركيزة الأساسية لفكر غيفارا وممارسته، فاعتنق العنف الثوري بوضوح وبدون استيحاء ولا إعتذار وأصر على أن الكفاح المسلح حق للشعوب التي تناضل من أجل تحرير أوطانها ونيل الحرية وتحقيق السيادة والاستقلال والتنمية. وهنا بالضبط تتجلى دلالة مقولته التي اعتاد أن يختم بها أحاديثه وخطابته: إما الوطن وإما الموت patria o muerte.
نحن، إذن، ازاء ثغرة معرفية لدى الأجيال الناشئة بفكر تشى غيفارا وإرثه السياسي والثوري، يقابله افتتان بالصورة والقميص والتقليعة...الخ.
يحق لنا - وسنجد بيننا من سيقوم بذلك - أن نلوم الإعلام الغربي، والأميركي على وجه الخصوص، الذي يتمتع بسطوة كبيرة على كافة وسائل الإعلام والثقافة لا في الغرب فحسب، بل وفي المجتمعات العربية والعالمثالثية. ولا نغالي إذا قلنا إن هذا الإعلام يتحكم الى حدٍ كبير بما نعرفه وما لا نعرفه، أي ما يريدونا أن نعرفه وأن لا نعرفه.
نعم، يحق ان نلوم مَنْ نشاء، ولكنه ليس من حقنا أن نعفي أنفسنا من المسؤولية الملقاة بالدرجة الأولى على عاتقنا، ولا أن نبرر تقاعسنا الذي طال عقوداً طويلة أخذ التاريخ يئن من ثقل حملها.
أيقنة غيفارا: في تشابك المصادر والعوامل
كيف ولماذا أصبح تشى غيفارا أيقونة؟ وما هي العوامل والظروف (الذاتية والموضوعية) التي تُبقي على اسطورته حيةً في ديمومة مستمرة؟ وإلى أي حدٍ ساهمت، وتساهم، العوامل التجارية والربح من كافة أشكال "تحويل الاسطورة الى سلعة" بدءً من صناعات هوليوود واستخدام النجوم السينمائية (مثل عمر الشريف) في تمثيل دور غيفارا الى سيل لا ينتهي من الصور الملصقة على صدور القمصان والقبعات وساعات اليد والملصقات الجدرانية...وغيرها.
في الاجابة على هذا السؤال تتشابك العوامل الذاتية والموضوعية، ومعها تتشابك المصادر التي تنبع منها هذه الأيقنة.
في هذا الصدد أبدي الملاحظات التاليه:
"اسطورة تشى": الاسطورة الثورية، في أبسط تعاريفها، شخص أو شخصية تلتزم برسالة معينة وتكرس حياتها للنضال من أجلها نضالاً لا يعرف المهادنة رغم كل التضحيات حتى لو أدركها الموت في سبيلها فتصبح "اسطورة".
ليس هناك من شك بأن مسيرة غيفارا والسمات الثورية التي تَحلّى بها، ومظهره وكاريزمته، اضافة الى مواقفه ومسار حياته الثورية، كل هذه لعبت دوراً هاما ليس في الحفاظ على الإرث الذي أودعنا إياه فحسب، بل في خلق "تشى الأسطورة" والأيقونة والقدوة.
ديمومة غيفارا: رغم تعدد العوامل وتشعبها، فان السبب الرئيس في ديمومة غيفارا يكمن في أن القضية التي كرس غيفارا حياته ونضاله من أجلها ما زالت حية ونابضة في عروق الملايين من شعوب الارض. ولعل حالتنا العربية مثال على ذلك. ومن هنا، فإن ديمومة غيفارا تنبع من نضاله ووقوفه ضد كافة أشكال الاستغلال والقفر والظلم. تلك هي قصة غيفارا ومسيرة المقاومة التي لازمت حياتة. وما لم تنتصر الشعوب المظلومة، فسوف تظل صور تشى تعتلى صدور شبابنا، وطالما كان هناك "معذبون في الارض" فستظل قدوته وقوداً يشحذ همة الجماهير، وكلما أمعن راس المال في جشعه وهمجيته وحروبه (العسكرية والاقتصادية والثقافية) على الفقراء والملونين من شعوب العالم الثالث، كلما عَلَت صرخة غيفارا في اشعال المقاومة في "فيتنام... وثانية وثالثة."
أممية غيفارا: اتسم غيفارا بافق ثوري أممي وجعل من العالم بأسره ساحة كفاحه، ولم يعرف نضاله حدوداً للخوف أو التردد، ولم ينحصر في مكان أو سياق جغرافي معين فغدا رمزاً عالمياً لكل المظلومين والفقراء وكل من يناضل من أجل قضية عادلة.
رحيله المبكر: لقد استشهد غيفارا قبل أن يكمل عامه الأربعين، وقضى حياته حتى الرمق الأخير مثالاً للتضحية والالتزام والتفاني، ولم يتواني لحظة عن العطاء.
كاريزما غيفارا: توفرت في غيفارا شخصية الثائر ربما أكثر من أي شخصية ثورية في التاريخ المعاصر. فقد اتسم بصفات يسهل توظفيها في خلق الشخصية الكازمية والنجومية والأيقونية لا سيما بعد إستشهاده. اضافة الى ما اتسم به طيلة حياته من تناغمٍ بين أقواله وأفعاله، وبين نظريته وممارسته. وقد عثر كثيرون ممن سعوا الى شخصنة غيفارا وأيقنته، عثروا في صفاته الكارزمية هذه على مادة وفيرة لمنتوجات وسلع يسهل ترويجها في سوق عالمية واسعة.
تشِمانيا (Chemania): اسطورة أم لعنة؟
)الآثار السلبية للأيقنة)
ما يعنينا هنا هو قراءة مخاطر أيقنة غيفارا من منظور النأي بالأجيال الناشئة عن الدراسة الجدية والقراءة النقدية لفكره الثوري. فعندما تصل أيقونة غيفارا الى هذا الحد من الانتشار، بل من الانفلات، يصبح الفضاء رحباً أمام الثورة المضادة وأعداء الماركسية والاشتراكية، كي يندس اولئك الذين يحاولون تصوير تشى "قديساً" أو "رومانسياً حالماً" او حتى "فوضوياً"، ناهيك عن اؤلئك الذين صوروه كواحدٍ من رجال العصابات والقَتَلة وقطّاع الطرق، الى آخر تلك المعزوفة من السخافات المغرضة التي كان غيفارا في حقيقته وحياته وممارساته وفكره براءة منها. وربما من هنا نفهم ضرورة الدعوة التي انطلقت منذ بضعة سنوات لتأسيس "جمعية حماية تشى غيفارا".
لقد ساهمت النزعة الأيقونية في العزوف عن دراسة فكر غيفارا والتي أضحت محصورة في عدد من الباحثين والاكاديميين. هذه النزعة تتفادى الدراسة الجدية وتعمد الى مداعبة العواطف، كي تحوّل جل الاهتمام بغيفارا الى شعارات ثورية وبرّاقة وسريعة. هذه الحفاوة والافتتان وما يرافقهما من رومانسية سريعاً ما تنطفئ ومعها تنطفئ جذوة النضال العملي والممارسة الثورية وتتحوّل هذه الطافة المتفجرة الى مظاهر سطحية رخيصة وأنماط من المسلكية لا تتجاوز الملبس أو التسريحة وغيرها من القشور. وعلى الرغم من حسن نية أصحابها (أو بعضهم)، فان نزعة الأيقونية وإن كانت في ظاهرها تلامس التماهي مع الثائر أو الاقتداء به، إلا انها كثيراً ما تنتهي عند الافتتان به ولا تصل الى الدراسة الجدية لفكره وطروحاته.
لعل أخطر ما يتعرض له الثائر هو تأليه فكره الثوري وأيقنة صورته لأنها تختزل الفكر الثوري وتُسطحه ولا تسهم في بناء وعي ثوري جذري. ولعل إرنستو تشى غيفارا يشكّل النموذج الأنصع لهذه الظاهرة وأكبر ضحاياها منذ إغتياله في اكتوبر 1967.
لذا تصبح مهمة الفكر الثوري هي رفض هذا النهج وتعريته والعودة دوماً الى مناهل فكر هؤلاء الثوّار وإحياء تراثهم الثوري واغناء المكتبة العربية بأدبياتهم ووضعها في خدمة العملية التثقيفية والتربوية الثورية من منظور بناء الوعي الثوري وشحذ إرادة المقاومة والصمود لدى الشعوب والجماهير. بكلام آخر، فان المهمة الملحة تكمن في التثقيف الثوري وخلق الوعي حول غيفارا المفكر والإنسان والثائر والحيلولة دون ان يتحول الى صورة وأيقونة مفرغة من مضمونها الثوري والسياسي والإنساني.
فهل مَن يقرع الجرس؟
المصدر: «كنعان الالكترونية»