اوباما أمام فشل مزدوج لسياسات «محور الشر» و«شبكة الرعب»

اوباما أمام فشل مزدوج لسياسات «محور الشر» و«شبكة الرعب»

في البدء، ينبغي التذكير بسجل الرئيس اوباما الذي يعول عليه كإرث سياسي يصرفه لاحقا لدى اخطبوط «مجمع الحرب على الارهاب الصناعي العسكري والمالي والاعلامي»، الذي يضم اهم واقوى اللاعبين السياسيين والاقتصاديين في اميركا، والمسيّر الحقيقي للسياسات الاميركية العدوانية.

في ظل خمس سنوات قصيرة من عمر رئاسة باراك اوباما، اصدر اوامره للهجوم والاغارة على سبع دول مستقلة (العراق وافغانستان وباكستان والصومال واليمن وليبيا وسورية)، وشن اكثر من 390 غارة بطائرات الدرونز في اليمن وباكستان والصومال (اذ ما استثنينا مالي وجيبوتي في القارة الافريقية)، ونالت “بركاته” العسكرية الحديقة الخلفية لاميركا في بنما وهايتي وغرينادا.

تم تطبيق تلك السياسة العدوانية تحت غطاء واهم بأن باراك اوباما فاز بمنصبه لنيته الاقلاع والتمايز عن سلفه جورج بوش الابن، كما مهدت له الآلة الاعلامية الضخمة في البدء، واستمر في تطبيق ذات السياسة في الهيمنة الكونية مغلفة “بصانع السلام” والاقلاع عن تصنيفات “محور الشر” بالغة التسطيح. جدير بالذكر ايضا ان الولايات المتحدة ومنذ عام 1980 لجأت للتدخل العسكري “37 مرة في 27 دولة.”

للدلالة ايضا على النزعات العدوانية المتأصلة في “الفكر السياسي” الاميركي، مهرت مجلة “الايكونوميست” الرصينة عنوان غلافها الاخير بعبارة تهكمية “المهمة استؤنفت،” معيدة الى الاذهان عبارة جورج بوش الابن، ايار 2003، بان “المهمة انتهت” عقب غزو واحتلال العراق.

بناء على ما تقدم، يمكننا القول ان آفاق المرحلة المقبلة تنذر بمزيد من “نِعَم” الفوضى والدمار المرافقتين للتدخل العسكري الاميركي المباشر؛ بل ان احتلال العراق شكل منصة انطلاق للسياسة “الجديدة” للولايات المتحدة في سورية، بشكل خاص، وبسط هيمنتها على مناطق متعددة اخرى في العالم بدءا من اوكرانيا في اوروبا، وتجسيدها في آسيا لضعضعة بروز الصين ومحاصرة روسيا.

ومن ثم فالغارات الجوية الاميركية على سورية تدل على اتضاح الهدف الابعد للاستراتيجية الاميركية في اعادة رسم خريطة المنطقة خدمة لاهدافها ومصالحها التي عادة تأتي على نقيض مصالح الأمة العربية والشعوب الاخرى، بل من النادر ان يحدث تلاقي او تطابق بينهما. فالاستراتيجية الاميركية، كما تراها بعض النخب السياسية، اضحت تتغذى بهاجس “انتاج عدو جديد،” في كل مرحلة مفصلية، يعسّر اي نزعة مقبلة لأي رئيس قادم التغاضي عنها او القفز عليها، او ثمة التفكير بوضع نهاية “للحرب على الارهاب” او مصطلح اوباما “شبكة الرعب؛” وتجسيدا كذلك لنبوءة الاديب الاميركي يوجين اونيل بأن “الماضي يعيد انتاج نفسه مرة تلو اخرى.”

فالسياسات الاميركية المرسومة، سواء المعلن منها والمضمر، بدءا بمحور الشر ومرورا بشبكة الرعب والموت بطبعتها الاوبامية، تكتسب “زخما وتفقد قابلية لتطويعها على مر الزمن.” عنوان حملة اوباما العدوانية استوجبت ابتداع خطاب وشعار جديد “استهداف شبكة الرعب لداعش،” لتمويه مآربها، وتوضح بجلاء بأن الولايات المتحدة  الرسمية ما فتئت تسعى ولم تدخر جهدا لزعزعة استقرار سورية “ودعم قوى المعارضة المسلحة” التي انتجت داعش وتوابعها ومشتقاتها.

محصلة الغارات الجوية الاميركية على شريط من الارض السورية اسفر عن نتائج متواضعة، من وجهة النظر الامريكية. اذ عنونت صحيفة “نيويورك تايمز” النافذة صفحتها الاولى “في العراق .. فشلت الغارات بزحزحة داعش،” بالرغم من توارد انباء عن مصرع بعض العناصر القيادية لديه، ابو يوسف التركي ومحسن الفضل. على الطرف المقابل في معسكر دعاة الحرب، لم تشفِ الغارات وحجم الدمار غليلها واعتبرتها “وخزة دبوس” تضايق وتزعج لا اكثر، مجددا نداءاته السابقة بضرورة انخراط اميركي اوسع طمعا لاسقاط الدولة السورية واعادة تكوينها وفق ما يلبي مصالحه من مخططات وقوى وادوات تهديد واضطراب.

في هذا الصدد، لا ينبغي القفز على البعد الداخلي الاميركي كأحد العوامل في اعتبارات الرئيس اوباما، والذي رمى لتعزيز ووقف انهيار نسبة شعبيته بعد سلسلة اخفاقات اصابت حلفائه؛ بيد ان نزعته العدوانية لم تؤتِ أكلها، واستمرت وتيرة التدهور دون كوابح، ولم تفلح جهوده والآلة الاعلامية الاميركية الضخمة بتسليط الضوء على سلسلة من الاهداف: داعش، جبهة النصرة، ومجموعة خراسان التي لم يسمع بها تقريبا في الاعلام الاميركي من قبل وبرزت بالتزامن مع بدء الغارات العسكرية. واعتبر بعض الخبراء العسكريين ان تعدد الاطراف المستهدفة ينم عن فشل السياسة الاميركية وعملياتها “السرية” في سورية.

ابتدعت واشنطن صيغة تحالف ينضوي تحت لوائها وقرارها من الدول العربية، لا سيما الخليجية والاردن، والاقليمية (رغم تردد تركيا في البداية)، والدولية تحقق جملة اهداف مرة واحدة: اولها ابراز حجم الدعم الذي تحظى به السياسة الاميركية، ولو شكلا، وتوزيع الكلفة المادية والبشرية على مجموعة اطراف – العربية والاوروبية التقليدية. بعض الخبراء العسكريين الاميركيين ابرز مواطن الضعف في “استراتيجية اوباما،” على المستوى العملياتي، ويتهمه بارتكاب “خطيئة عسكرية كلاسيكية” لدخول اتون المعركة بقوات برية محدودة مقابل طرف معادي يتفوق عليها عدديا، مما يشير الى مواجهة طويلة الأمد تحصد نتائج محدودة وهزيلة مقارنة مع الغرض الابعد بتحقيق نصر حاسم سريع.

ويشير هؤلاء ايضا الى المرونة التي يتمتع بها داعش وقدرته على نشر بعض خلاياه العاملة بعيدا عن ساحة المواجهة الرئيسية وشن عمليات ضد الدول المشاركة في تحالف واشنطن وربما داخل اراضيها. بل سعت على الفور لترجمة ذلك التخوف، اذ لم تمضِ بضع ساعات على القاء الرئيس اوباما خطابه امام الجمعية العامة للامم المتحدة قبل ورود انباء تفيد عن مصرع رهينة فرنسية كانت محتجزة لدى جماعات مسلحة في الجزائر تدين بالولاء للدولة الاسلامية، بجز عنقها، الوسيلة المفضلة لتلك المجموعات. الملفت ايضا ان مجموعة “جند الخلافة” تلك اصدرت بيانا تحذيريا تهدد بقتل الرهينة ان لم تتوقف فرنسا عن مشاركتها في قصف مواقع الدولة الاسلامية في العراق.

قرار وحجم المشاركة تقرره الولايات المتحدة وليس الدول المنضوية تحت لوائها. بعد اعتلاء الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند منصة الجمعية العامة للامم المتحدة اكد ان بلاده ماضية قدما في المشاركة بالغارات الجوية فوق الاراضي العراقية، على الرغم من مقتل الرهينة الفرنسية في الجزائر.

 

الاعيب ام سياسة خارجية لاميركا

خطاب الرئيس اوباما امام الجمعية العامة للامم المتحدة انطوى على بضع رسائل موجهة للداخل الاميركي، وللعالم اجمع، ولم يشأ ان يبقى خارج الاهتمام العالمي هذه المرة من مخاطر الانبعاث الحراري، سيما وان احدى اكبر التظاهرات شهدتها مدينة نيويورك خلال انعقاد الدورة، شارك فيها ما لا يقل عن 400،000 متظاهر. وزعم امام الهيئة الدولية ان بلاده “تسعى الى تحقيق تخفيضات طموحة في انبعاثات غاز الكربون، وانها زادت من حجم استثماراتها في مجال الطاقة المتجددة .. بيد ان نجاحنا (اميركا) في تخفيض الانبعاث الحراري مرهون بمشاركة كل من القوى الرئيسة ..”

توقيت الغارات الجوية الاميركية ضد داعش بالتزامن مع انعقاد الجمعية العامة للامم المتحدة وتنامي اهتمام شعوب العالم بضرورة تقليص الدول الصناعية حجم الغازات الضارة التي تنتجها يثير اهمية البعد الداخلي في خطابه، لا سيما وعينه على الانتخابات النصفية المقبلة. اشار احد اهم مراكز استطلاع الرأي، بيو، في شهر آب الماضي الى تباين اراء القواعد الداعمة للرئيس اوباما في تحديد الاولويات السياسية، لا سيما تقييم حجم وجدية الخطر الارهابي، مقارنة برؤية الشريحة الانتخابية من المستقلين التي يعول عليها عادة في ترجيح كفة الفائز بالانتخابات.

واشارت نتائج استطلاع معهد بيو الى وعي اغلبية معتبرة من الناخبين الديموقراطيين بأولوية التهديد الصادر عن التحول المناخي، بنسبة 65%، فاقت التهديد “المزعوم” من الدولة الاسلامية. بالمقابل، اعتبرت الاغلبية العظمى، 80%، من الناخبين الجمهوريين ان القاعدة ومشتقاتها تمثل التهديد الاساسي للولايات المتحدة، مقابل شريحة بنسبة 25% عبرت عن قلقها من التغير المناخي. اما شريحة “المستقلين” فقد عبرت غالبيتها عن اولوية تهديد القاعدة وتوابعها، 69%، مقابل 44% ابدت اهتمامها بالتغيرات المناخية.

لعل اللغز الكامن في تلك الهوة الشاسعة في الاراء يفسر تراجع شعبية الرئيس اوباما، بل ثبات نسبة التراجع. وسجل اليوم التالي لخطاب اوباما في نيويورك، 11 أيلول، دعم نسبة ضئيلة من المواطنين، 36%، لسياسة الرئيس اوباما الطموحة. وخلال بضعة ايام قلائل انحدرت نسبة التاييد الى 31%.

الجزء الاكبر من اقلاع الجمهور عن دعم اوباما كان مصدره قاعدته من الناخبين الديموقراطيين. ففي الحادي عشر من ايلول الجاري بلغت نسبة تأييده بينهم 67%، وانحدرت الى 59% بعد بضعة ايام؛ وتجدر الاشارة الى تراجع نسبة مؤيديه بين السود الاميركيين، قاعدته المفضلة، 5 نقاط مئوية، من 73% الى 68% في ذات الفترة الزمنية.

لا ينبغي التغاضي عن اهمية تلك النسب الثابت الوحيد في مؤشراتها هو التداعي المستمر للرئيس اوباما خاصة عند استخلاص النتائج لمسيرته المتعثرة  في “محاربة الارهاب” و”تقليص وتدمير داعش.” وما لجوئه للخيار العسكري في هذه الظرف الدقيق من ولايته الرئاسية الا لتعديل ميل موازين القوى لصالح ممثلي الحزب الديموقراطي في الانتخابات المقبلة، طمعا في ابقاء سيطرة مجلس الشيوخ بقبضة الديموقراطيين. وكما اشارت نتائج الاستطلاعات الحديثة فان الجزء الاكبر من قاعدته الانتخابية لا تكترث “للحرب على الارهاب” ومشتقاتها، وتعتبر التغيرات المناخية والانبعاث الحراري محور اولوياتها.

رسالة الحرب والعدوان التي ارساها اوباما حظيت بدعم “مدروس” من قبل خصومه الجمهوريين الذين سيواصلون انتقاداتهم في الجولة الانتخابية المقبلة. ويدرك الرئيس اوباما انه لن يستطيع التماثل التام مع خصومه خشية نفور قاعدته الانتخابية من الديموقراطيين، وكذلك لا يرغب في التقرب اكثر مما هو عليه الحال الراهن من اولويات تلك القاعدة. فالتوفيق بينهما تعوزه الحماسة ولن يحصد سوى مزيد من التردد والتأرجح وربما تصدع وفشل سياسته الخارجية برمتها.

 

 

المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية