سورية من الكارثة إلى الفرصة:  قراءة افتراضية في إمكانات التحول
حسان ثابت حسان ثابت

سورية من الكارثة إلى الفرصة: قراءة افتراضية في إمكانات التحول

أثبتت التحولات العالمية العميقة، وتحديداً بعد تبدل ميزان القوى وتوتر العلاقات الأميركية- الصينية، أن الدول التي تمر بأزمات ليست بالضرورة محكومة بالتوسل، أو الفشل. فثمة دول استطاعت تحويل التحديات إلى فرص، وإعادة بناء موقعها في النظام الدولي أو الإقليمي عبر إدارة سياسية ذكية، قادرة على إبداع الحلول لأن التاريخ لا يحركه حجم الموارد فحسب، بل الإرادة وقدرة الفاعلين على قراءة اللحظة.

تُعد الصين المثال الأبرز، فحين فرضت إدارة دونالد ترامب رسوماً جمركية قاسية ظناً أن بكين مرتهنة للسوق الأمريكية، لم تنجرّ الصين إلى اللهاث وراء إرضاء الأمريكي، بل أعادت بهدوء بناء منظومتها التجارية. فحققت صادرات بـ 1,3 تريليون دولار، ونمواً بنسبة 6% خلال ذروة الحرب التجارية، وخفضت اعتمادها على السوق الأمريكية من 22% إلى 12%، وتحوّلت إلى الشريك التجاري الأول لـ 70 دولة. الدرس الأهم ليس في الأرقام بل في الذهنية: تحويل التهديد إلى فرصة، والتركيز على بناء مزايا مطلقة في صناعات حيوية.
استدعاء المثال الصيني ليس لمقارنة ميكانيكية مع سورية، بل للسؤال: هل يمكن لبلد يعيش مأزقاً تاريخياً معقداً كـسورية أن يستثمر التحديات الكبرى ليعيد تشكيل مستقبله ضمن شروطه وإمكانياته؟ هذه المقاربة لا تهدف لتزيين الواقع كما سيظن البعض، بل للبحث في إمكان التفكير خارج وقائع اللحظة، واستكشاف فرص موضوعية في السياسة والاقتصاد والمجتمع،
تمتلك سورية الكثير لتواجه بها المأزق التاريخي الوجودي الراهن:


أولاً: الجغرافيا السياسية المورد الذي لا ينضب


على الرغم من دمار الدولة وتفكك الاقتصاد وضعف المؤسسات، ما تزال سورية واحدة من أهم النقاط الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وبالتالي في العالم، ولكن الجغرافيا لا تعطي القوة تلقائياً، لكنها تمنح إمكانات كبرى.
اليوم، وبعد خمسة عشر عاماً من الحرب، تُعد سورية نقطة التقاء وتزاحم بين قوى دولية وإقليمية كبرى: روسيا تمتلك قواعد بحرية وجوية ثابتة تعدّ ركيزة نفوذها الدولي، الولايات المتحدة تسيطر على مناطق شرق الفرات ضمن استراتيجيتها لاحتواء روسيا وإيران، تركيا حاضرة عسكرياً وسياسياً وتستخدم الملف السوري ضمن رؤيتها الإقليمية، «إسرائيل» تشن ضربات مستمرة داخل سورية، بريطانيا وفرنسا لهما حضور فاعل، إيران ودول الخليج تمارس كل منها تأثيراً مباشراً أو غير مباشر.
هذا التزاحم نفسه يكشف مقدار الأهمية الاستراتيجية للجغرافيا السياسية السورية.
لكن إدارة الجغرافيا في العقدين الأخيرين على الأقل، بما فيها ما بعد 8 ديسمبر 2024، انتهت نحو استخدام الموقع لتثبيت السلطة بدل تقوية الدولة، وإلى الارتهان للعلاقات الدولية بدل التفاوض الندّي، ما جعل الموقع ورقة ضغط على سورية لا ورقة قوة لها، وحوّله من نعمة إلى نقمة.
إلا أن الجغرافيا ما تزال تتيح فرصاً مهمة لو أُديرت بعقل سياسي ابداعي:
- تحويل الموقع إلى عامل توازن وليس تبعية وارتهان، عبر علاقات متوازنة تقوم على استعادة السيادة، وخروج القوى الأجنبية، ودعم إعادة الإعمار، واسترداد الأموال المنهوبة.
- لعب دور التشابك الإقليمي بحكم الاتصال بالعراق وتركيا والخليج ولبنان والأردن، ما يجعل سورية قناة طبيعية للتجارة والطاقة.
- تحويل البلاد إلى مركز لوجستي اقتصادي ضمن مشاريع كـ“الحزام والطريق” إذا ما استعاد البلد الاستقرار.
الجغرافيا مورد لا ينضب، لكنه يحتاج إلى إدارة سياسية توظفه لمصلحة الدولة، وليس لأجل تثبيت واستمرار السلطة.


ثانياً: الألم المشترك – طاقة كامنة لإعادة البناء


تعرض المجتمع السوري خلال العقد الأخير لزلزال نفسي واجتماعي غير مسبوق: دمار المدن، فقدان الأمان، انهيار الاقتصاد، التفكك الاجتماعي، الهجرة الجماعية، وانبعاث الهويات الطائفية والقومية كملاذات خوف. هذا الواقع خلق جرحاً عميقاً، لكنه يفتح أيضاً مساحة للتساؤل: هل يمكن للسوريين الاتكاء على هويات ضيقة كحل؟ هل العودة للطائفة أو القومية أو الخلاص الفردي يكفي؟
تُظهر التجربة أن الطائفة لم تحمِ أبناءها، والقومية لم تقدّم مشروع إنقاذ، والخلاص الفردي لم يتحقق إلا عبر الهجرة. ومع أن خطوط “نحن” و “هم” باتت واضحة مع الأسف، ولكنها موضوعياً تتآكل؛ فلا مناطق آمنة وأخرى غير آمنة، ولا جماعات نجت من الألم. فقد صار الألم مشتركاً بين الجميع، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.
هذا الألم، رغم قسوته، يمتلك ثلاث إمكانيات إيجابية، يمكن ملاحظتها لكل من يعايش الناس على الأرض رغم ضجيج السوشيال ميديا:
- انهيار أوهام الحماية الضيقة لدى قطاع واسع بعد أن ثبت أنها غير فعالة.
- تشكّل وعي جمعي جديد أساسه أن الخلاص لا يمكن أن يكون فردياً أو فئوياً.
- قابلية الألم للتحول إلى طاقة سياسية إذا وُجدت قيادة قادرة على تحويل الصدمة إلى قوة، كما حدث في دول عديدة بعد الكوارث الكبرى.
الطاقة الكامنة في المجتمع السوري اليوم هائلة لكنها مبعثرة، ويمكن تحويلها من حالة انكسار إلى فرصة تحول تاريخي إذا توفر الحامل السياسي المناسب.


ثالثاً: الميزات الاقتصادية المطلقة حوامل لانعطاف تاريخي.


رغم الدمار الواسع، تتمتع سورية بموارد اقتصادية نسبية ومطلقة لم تختفِ، بل تحتاج إلى إدارة رشيدة:
- الزراعة والاقتصاد الريفي: سورية غنية بالموارد النسبية، مثل: القمح والقطن والزيتون والفستق والخضار والفواكه، والعديد من الميزات المطلقة، مثل: الأعشاب الطبية والوردة الشامية. إعادة تنظيم القطاع وتطوير الصناعات الغذائية والبنية اللوجستية يمكن أن يعيد له دوره المركزي.
الثروات الطبيعية: الثروات التي لا يمتلكها إلا عدد محدود من الدول وسورية منها، النباتات الطبيعية، غنم العواس، احتياطي الفوسفات، النفط والغاز (خاصة مع إمكانات اكتشاف مستقبلية)، المعادن، والحجر الجيري يعزز قدرة البلاد على بناء قطاعات إنتاجية حقيقية.
ممرات الطاقة: الموقع الجغرافي يجعل سورية نقطة عبور محتملة لخطوط النفط والغاز من العراق وإيران والخليج نحو المتوسط، بما يدر إيرادات ضخمة عند توفر سيادة على القرار السياسي واتفاقات متوازنة.
رأس المال البشري: الكفاءات العلمية والطبية والهندسية والعمالة الصناعية، إضافة إلى ملايين المغتربين، يشكلون طاقة قادرة على الانخراط في أي عملية إعادة إعمار.
الشتات السوري: وجود أكثر من 6 ملايين سوري في الخارج، بينهم رجال أعمال وخبرات عالية، يخلق إمكانية ضخ استثمارات كبيرة حال توفر ضمانات سياسية وقانونية.
الاندماج بسلاسل الانتاج العالمية: من خلال الصناعات التحويلية والتصنيع الخفيف وخدمات النقل والمرافئ، والاستثمار في مهارة اليد العاملة، والمواد الخام التي تختص بها سورية، هو مسار قابل للتفعيل إذا توفرت رؤية اقتصادية متماسكة.
هذه الإمكانات واقعية، لكنها معطلة بفعل غياب القيادة السياسية القادرة على صياغة مشروع اقتصادي وطني.


ما بين الصين وسورية… الفكرة لا التشابه


استدعاء تجربة الصين ليس مقارنة بين قوى غير متماثلة، وظروف مختلفة بل لاستحضار (فلسفة التعامل مع الزمن والواقع). الصين لم تواجه الحرب التجارية بالشكوى والادّعاء، بل بصناعة المستقبل اعتماداً على طاقاتها الذاتية، ولم ترَ الأزمة مجرد تهديد، بل أيضاً فرصة لتقليص الاعتماد على الغير، وإعادة هندسة الاقتصاد، وعلاقات دولية متوازنة نديّة.
السؤال السوري اليوم هو: هل نريد أن نتعلم من الفكرة؟ هل يمكن تحويل الأزمة إلى فرصة؟
هل الجغرافيا والاقتصاد والمجتمع– رغم الجراح– ما تزال تحمل إمكانات لبناء مسار جديد؟ الإجابة: نعم، إذا تغيّر منطق التفكير.
فما تحتاجه سورية ليس معجزة، بل انتقال من منطق السلطة إلى منطق الدولة، ومن إدارة الأزمة إلى إدارة التحول، ومن سياسة رد الفعل إلى سياسة الفعل.
وإذا كان الدمار مشتركاً، فإن بناء المستقبل يمكن أن يكون مشتركاً أيضاً، إن تمكن السوريون من تحويل لحظتهم التاريخية إلى بداية جديدة، من خلال بنية سياسية جديدة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1256