تحديات حقّ تقرير المصير وإغراء الانفصال في العالم المعاصر

تحديات حقّ تقرير المصير وإغراء الانفصال في العالم المعاصر

يُعدّ حقّ تقرير المصير واحداً من أكثر المفاهيم السياسية التي شهدت تحولات جوهرية عبر التاريخ، إذ تغيّرت مضامينه بتغير الظروف الدولية وتطور بنية الدولة الحديثة. فمنذ أن برز المفهوم في صورته الأولية إبّان الثورتين الفرنسية والأمريكية في أواخر القرن الثامن عشر، مروراً بصياغاته القومية في أوروبا القرن التاسع عشر، وصولًا إلى تكريسه في القانون الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، ظلّ حقّ تقرير المصير محوراً صراعياً يحدد مصائر شعوب ودول، ويعيد رسم الخرائط السياسية عالميًّا.

ففي الثورة الفرنسية، برزت الفكرة عبر شعار أن «الأمة هي مصدر الشرعية»، وفي الثورة الأمريكية عبر تأكيد المستعمرات الـ13 أن للشعوب الحق في اختيار حكومتها، أثناء مواجهة الهيمنة البريطانية. لاحقاً، حمل روّاد الفكر القومي -خصوصاً في ألمانيا وإيطاليا- الراية، حين نادوا بحقّ الأمم في تشكيل دولها الخاصة. لكن التحول الأكبر جاء مع الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون مطلع القرن العشرين، ومبادئه الأربعة عشر التي جعلت من «حقّ تقرير المصير» قاعدة لبناء توازنات ما بعد الحرب العالمية الأولى.
أما الصياغة النظرية الأكثر اكتمالاً، فكانت على يد فلاديمير لينين الذي يُعد أول من استخدم مصطلح «حقّ الأمم في تقرير مصيرها» بصيغته المتداولة اليوم، حين اعتبر هذا الحق شرطاً حقاً مشروعاً لتحرير الشعوب في سياق عملية التقدم الاجتماعي، ثم جاء ميثاق الأمم المتحدة عام 1945 ليمنح المفهوم بُعداً قانونياً، قبل أن تتكرّس مرجعيته في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1966، ليصبح ركيزة قانونية في العلاقات الدولية.


التحدي الاقتصادي - النقدي


مع موجات التحرر في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أصبح حقّ تقرير المصير الإطار السياسي الذي خاضت عبره الشعوب معاركها لإنهاء الاستعمار التقليدي. تشكلت دول جديدة، وولد جيل كامل من الجمهوريات المستقلة، محمولاً على وعود الحرية والسيادة والتنمية.
لكن سرعان ما تبيّن أن الاستقلال السياسي، رغم أهميته التاريخية، لم يكن كافياً لتأسيس استقلال حقيقي. فمع تفكك الإمبراطوريات العسكرية التقليدية، ظهر نمط جديد من الهيمنة، تُمارسه القوى الكبرى عبر الاقتصاد والعملة والديون. وشكّلت اتفاقية بريتون وودز عام 1944 مفترق طرق حاسماً، حين رُسّخ الدولار كعملة احتياط عالمية، ما منح الولايات المتحدة سلطة استثنائية على النظام المالي الدولي.
وهكذا باتت واشنطن—بحكم سيطرتها على مفاصل النظام النقدي العالمي—شريكاً إجبارياً في كل عملية تبادل تجاري، من خلال رسملة الدولار واحتياطاته في البنوك المركزية. ومع تصاعد الاعتماد على القروض والديون، تحوّل الاقتصاد ذاته إلى آلية ضغط سياسي، نستطيع أن نسمّيه اليوم «بالاستعمار الدولاري». وما العقوبات الأمريكية، ولا الرسوم الجمركية، ولا أدوات حصار التحويلات المالية، إلا مظاهر لهذه الهيمنة التي تجعل من استقلال كثير من الدول استقلالاً هشاً منقوصاً.
لذلك أخذ مفهوم السيادة يتوسع ليشمل السيادة الاقتصادية والنقدية باعتبارها جزءاً من حقّ تقرير المصير. فالتحرر السياسي في غياب التحرر الاقتصادي ليس قادراً على تأمين حرية القرار الوطني، ولا حماية الاستقلال من الابتزاز المالي أو العقوبات العابرة للحدود، وهذا ما يفسر الفوضى العارمة في العلاقات الدولية وعدم استقرار نموذج الدولة التابعة.


التحدي الرقمي


مع الثورة العلمية التقنية التي يعيشها العالم اليوم، بات مفهوم حقّ تقرير المصير يحتاج إلى قراءة
جديدة، لكن هذه المرة في سياق مختلف كلياً؛ عالم تحكمه البيانات، وتتحرك قواته العسكرية وفق أنظمة تحديد المواقع، وتدار اقتصادات دوله عبر شبكات رقمية عابرة للحدود.
لم يعد سؤال السيادة محصوراً في الأرض والحدود والقوة العسكرية، بل صار يشمل السيادة الرقمية. فالدول التي تعتمد بشكل كامل على منظومات تكنولوجية خارجية، تجد نفسها في موقع هشّ أمام إمكانات الاختراق، والتجسس، وتعطيل البنى التحتية الحساسة.
اليوم، تتحكم في الفضاء الرقمي العالمي أربع منظومات رئيسية لتحديد المواقع والملاحة:
النظام الأمريكي (GPS)- النظام الصيني -(BeiDou) النظام الروسي (GLONASS)- النظام الأوروبي (GALILEO)
ظهور هذه التعددية الرقمية قطع الطريق أمام احتكار واشنطن لهذا المجال لعقود، بعدما كان يُنظر إلى نظام GPS على أنه خدمة مدنية مفتوحة، بينما استخدمته الولايات المتحدة كأداة تفوق عسكرية وسياسية واضحة. وما حدث خلال ضربات أمريكية دقيقة لأهداف إيرانية، أو أثناء عمليات عسكرية في الشرق الأوسط، إلا مثال على قدرة الدولة التي تسيطر على البنية التكنولوجية على التأثير المباشر في السيادة الوطنية لغيرها.
ومع توسع الذكاء الاصطناعي، وتزايد الاعتماد على قواعد البيانات العملاقة، تتعاظم الحاجة إلى بناء أنظمة وطنية أو إقليمية مستقلة قادرة على حماية المعلومات والاتصالات. وهكذا يصبح «التحرر الرقمي» أحد الشروط الجديدة لحقّ تقرير المصير في زمن التكنولوجيا.


التحدي السياسي – القانوني


إضافة إلى ما سبق ثمة تحديات ذات طابع إجرائي بأبعاد سياسية – قانونية فالتجربة الكاتولونية مثلاً، اصطدمت بموقف المحكمة الأوربية لحقوق الانسان، وتجربة استفتاء إقليم كردستان عام 1917 تعرضت لانتكاسة على إثر موقف مجلس الأمن الدولي، والصحراء الغربية لم تسلم من تحديات من هذا النوع ، أما التجارب التي اعتمدت على اعتراف دولة أو مجموعة دول فلم تتجاوز إلا حدود الاعتراف الوظيفي وبقيت تجارب هشة تحت رحمة التجاذب الدولي والإقليمي


حقّ تقرير المصير بين المثالية والواقع


أمام هذه التحديات مجموعة أو فرادى، يبدو واضحاً أن حقّ تقرير المصير لم يعد مجرد حقّ لشعب يطالب باستقلاله السياسي، بل صار منظومة شاملة من الحقوق المتشابكة:
سياسية - قانونية، اقتصادية - نقدية، رقمية، وسيبرانية
فلا استقلال بلا سيطرة على العملة الوطنية، ولا سيادة بلا حماية للبيانات، ولا حرية قرار بلا قدرة على الفكاك من الضغوط الاقتصادية. وفي عالم يتجه نحو تعددية قطبية، تتغير قواعد الجغرافيا السياسية بسرعة أكبر من قدرة الدول الصغيرة على التكيف، وبالتالي فان (حق تقرير المصير) بالصيغة الكلاسيكية وتفسيره بالانفصال حصراً ليس بالضرورة أن يكون معياراً للتحرر، بل قد يكون باباً لهزائم تاريخية جديدة.
ومع ذلك، فإن تطور المفهوم منذ الثورة الفرنسية حتى عصر الذكاء الاصطناعي تُظهر أنه مفهوم حيّ، يتوسع بقدر ما يتغير العالم. حقّ تقرير المصير اليوم لم يعد مجرد شعار سياسي، بل أصبح معركة مركّبة تتداخل فيها القوة العسكرية مع الرقمنة، والمنصات الإلكترونية مع الدبلوماسية التقليدية، في عالم باتت فيه السيادة شبكة معقدة من المعايير التي تتجاوز الحدود والجيوش.
إن التحدي الحقيقي يكمن في قدرة الدول-خصوصاً النامية منها-على إعادة تعريف استقلالها بما يتناسب مع أدوات القرن الحادي والعشرين، بعيداً عن أوهام التحرر الشكلي، أو المزيد من التفكيك، وبمنظور يُدرك أن المعركة لم تعد تُخاض على الأرض فقط، بل في الفضاء الرقمي والمجال المالي وفي قلب تكنولوجيا المستقبل، أي تأمين شرط الحرية الفعلي والمتكامل كحق مشروع وفق وقائع العالم المعاصر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1255