من خسر في الانتخابات الأمريكية؟
خلال أقل من 24 ساعة بعد انتهاء الانتخابات الأمريكية يوم الثلاثاء الماضي، 5 تشرين الثاني، عجّت وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية بالتحليلات وردود الأفعال، والحقيقة أنها تستحق جميعها النظر فيها والوقوف عندها، ولكن هنا سننظر فيما تعنيه النتائج حول ما يحصل في أمريكا نفسها.
سارع معظم المحللين إلى القول بأن ما حصل هو دليل إضافي على صعود «اليمين» المتطرف على المستوى الشعبي في الغرب، كما قالوا سابقاً حول نتائج بعض الانتخابات مؤخراً في بعض الدول الأوروبية. وكما قالت عدة مواد سابقاً في قاسيون حول هذا الأمر، وآخرها مادة يوم أمس حول الانتخابات الأمريكية نفسها، أن هذه النتائج هي ليست تعبيراً عن صعود «اليمين» بقدر ما هي رفض الوضع الراهن والمشهد السياسي الحالي والنظام القائم، وخاصة السياسات النيوليبرالية في هذه الدول، والمنظومة الرأسمالية ككل.
ويحاول البعض التقليل من أهمية هذا الاستنتاج على أساس أن الأغلبية العظمى من الناخبين لا تفكر ولا تستخدم مفردات مثل: الرأسمالية والنيوليبرالية، وهذا الكلام دقيق إلى حد ما وينطبق بالأخص بشكل كبير على الناخب الأمريكي. إلا أن رفض أمر ما، يمكن أن يكون من خلال رفض تداعياته ونتائجه، وهذا ما نوهت إليه المادة المشار إليها أعلاه.
وبات غير منطقي أو واقعي إنكار أو تجاهل أن هناك شريحة تتسع يوماً بعد يوم بين الشعوب، وبالأخص الشعوب الغربية التي «تمتّعت» لفترة طويلة بما قدمته لهم المنظومة القائمة، أو ما أوهمتهم أنها تقدمه لهم من ميزات ورفاهيات غير متاحة للشعوب التي تحكمها «الاشتراكية الشريرة»، وضمن هذه الشعوب توجد هذه الشريحة التي تتوسع وتدرك تماماً الخيارات التي تتخذها عندما تذهب إلى صناديق الاقتراع.
قد تكون هذه الشريحة في الولايات المتحدة ما تزال الأصغر نسبياً مقارنة بالدول الغربية الأخرى، وهذا له علاقة بطبيعة الحياة السياسية في أمريكا– إن كانت هناك حياة سياسية بمعناها الحقيقي، ولكن بات ملحوظاً بما لا يمكن تجاهله أن هذه الشريحة تنمو وتصبح ملامحها أكثر وضوحاً، وخطابها ينضج مقارنة بما كانت عليه قبل بضع سنوات. وبدأت تظهر بعض الشخصيات وتبرز ضمن هذه الشريحة، وبالأخص من الفئة الشبابية، وينظمون ويثقفون أنفسهم أكثر، ويتواصلون بشكل أكبر مع مجموعات مماثلة في أجزاء أخرى من العالم، ويتكلمون حول «الثورة» اللازمة لتغييرات جذرية، مع إدراكهم أن هذا واقعياً لن يحصل قريباً. ومن الملحوظ أيضاً، تزايد انتقاد الرأسمالية وتسليط الضوء على سياساتها الفاشية، والحديث عن ميزات الاشتراكية، وحتى الحديث عن الشيوعية، في الولايات المتحدة، الأمر الذي كاد يكون من المستحيل تصوره ويقتصر على دوائر صغيرة جداً قبل بضع سنوات، وحتى كان مجرِّماً في الماضي القريب. كما بات ملحوظاً ازدياد الكلام حول كارثية تسلّط حزبين- لا يختلفان فعلياً عن بعضهما البعض- على الحياة السياسية في البلاد، وضرورة العمل على أن تكون هناك أحزاب أخرى، تمثل فعلاً ما يريده الشعب، وتلبي احتياجاته.
اليوم، في المشهد السياسي الأمريكي، وعلى الرغم من أن الجمهوريين والديمقراطيين يمثلون وجهين لعملة واحدة، إلا أن شخصاً مثل ترامب، وهو من خارج هذه المنظومة [مع الانتباه إلى أن هذا لا ينفي أن المنظومة نفسها يمكنها أن تستفيد منه، ويمكن أن تكون هي من دفعت لفوزه هذه المرة]، وحتى بعد كل ما قاموا به لتشويه صورته وملاحقته قضائياً، بطريقة لم تحصل مع سياسيين ضمن النظام القائم متورطين بجرائم مشابهة، أو أفظع، إن كانت هناك رغبة بملاحقتهم، وبعد أن كان رئيساً لأربع سنوات بين 2017-2021، أي أن الشعب يعرف ما يمثله ترامب وسياساته و«جنونه»، على الرغم من ذلك كله، لم يربح ترامب فقط في الانتخابات هذه المرة، ولكنه ربح بهامش أكبر من ذلك في انتخابات 2016، عندما حصل على 46% من الأصوات الشعبية بينما حصلت كلينتون على 48% والفارق كان 3 ملايين صوت لصالح كلينتون، ولكنه حصل آنذاك على الأغلبية في المجتمع الانتخابي 304 مقابل 226 لكلينتون، بينما في هذه الانتخابات، حصل على 51% من الأصوات الشعبية مقابل 47.5% لهاريس، والفارق يقارب 5 ملايين صوت، ومتوقع أن يحصل على 312 في المجمع الانتخابي مقابل 226 لهاريس.
ضمن هذه الإحداثيات، فإن التصويت لترامب لا يمكن اعتباره تصويت بحت لـ «اليمين» أو حتى لشخص ترامب، ولكن تصويت ضد المنظومة القائمة، وبالأخص أن الأغلبية العظمى من الناخبين الأمريكان، ولعدة دورات انتخابية رئاسية مؤخراً يذهبون إلى صناديق الاقتراع للتصويت ضد مرشح ما، وليس بالضرورة لمرشحهم المفضّل. ولذلك لا يمكن الحديث عن أي جهة انتصرت في الانتخابات الأمريكية، ولكن بالتأكيد يمكن التحدث عمّن تكبّد الهزيمة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1200