أزمة واحدة، صراع واحد، حل شامل!
يرى كثيرون أنّ ما يعيشه العالَم منذ بضع سنوات على الأقل -منذ بداية معركة أوكرانيا بشكلٍ خاص- هو حربٌ عالميةٌ ثالثة.
هذا الوصف -فيما نعتقد- مصيبٌ وخاطئٌ في آن معاً؛ مصيبٌ لأنّه يعبّر عن الصراع الدولي في مرحلة تغير كبير في موازين القوى، ولكنّه خاطئ لأنّه يحاصر الواقع الجديد المتمايز نوعياً عن الماضي بنموذجين من الماضي هما الحربان العالميتان الأولى والثانية، بشكلهما وطبيعتهما المؤسَّسة على الصراع المباشر بين القوى الكبرى، في أوروبا وحول العالم، في وقتٍ تبدو فيه وصفة «الحروب الهجينة الشاملة» الأداةَ الأساسية في الصراع بشكله المعاصر.
رغم الفوارق الكبيرة بين النموذجين، القديم والمعاصر، إلّا أنّ تشابهاً جوهرياً ما يزال مفيداً في فهم سيرورة المواجهة المعاصرة ومآلاتها؛ التشابه هذا هو أنّ الصراع كلما اشتد، تعاظم الترابط بين ساحات المواجهة المختلفة، وتعاظم الارتباط المصيري بينها، لتغدو الساحات المتعددة ساحة واحدة في نهاية المطاف، مع فارق أنّ ساحة الحرب الحالية لم تعد محصورة في «أوروبا» و«المستعمرات»، بل شملت العالم بأسره، ببساطة لأنّ عالم اليوم هو أيضاً «أوروبا» و«المستعمرات»، لكن بعد أن توسعت أوروبا فباتت «الغرب»، وتوسعت المستعمرات فباتت كل ما تبقى من العالم، بما في ذلك روسيا والصين (من وجهة نظر الاستعمار الاقتصادي والتبادل اللامتكافئ).
إذا نظرنا إلى آخر 10-15 سنة، لن يكون صعباً القول إنّ كل الأزمات الجديدة التي ظهرت، ما تزال قائمة ولم يَجرِ حلُّها، على العكس من ذلك، فهي تزداد تعقيداً، وتجري إضافتها وربطها مع الأزمات السابقة واللاحقة لها؛ من العراق إلى ليبيا إلى سورية إلى فلسطين إلى أفغانستان إلى السودان إلى أوكرانيا وتايوان، وصولاً للأزمات الداخلية في «الغرب» وفي أمريكا اللاتينية.
ربما يكمن التفسير المنطقي لهذه الدرجة من الترابط العنيد بين مختلف الساحات في بضع نقاط أساسية، بينها:
أولاً: التراجع الفعلي على المستوى الاقتصادي-الاجتماعي، وعلى مستوى النموذج الحضاري، للغرب وخاصة للولايات المتحدة، هو تراجعٌ أكبر بكثير من كلّ التعبيرات الرقمية والسياسية عنه؛ ولذا فإنّ الخسارة السياسية في أيّ نقطةٍ على الخارطة الدولية يمكنها أن تحمل مفعول الدومينو الشامل؛ ولذا، وبينما لا يمكن تحقيقُ نصرٍ غربي في أي نقطة، ينبغي منع انتصار الطرف الآخر عبر إطالة الأزمات وتعقيدها إلى الحدود القصوى، وخاصة عبر ربطها بعضها ببعض.
ثانياً: القوى الصاعدة تهاجِم من موقع الدفاع بالدرجة الأولى، عبر «حرب مواقع» شاملة، تحجب الأخطار التدميرية الكبرى، وخاصة النووية، وتؤمّن انتقالاً تدريجياً نحو العالم الجديد.
ثالثاً: بالعودة إلى قوى العالم القديم، فالحرب الشاملة الهجينة ليست أداة في تأخير القدر المحتوم فحسب، بل وهي الأمل الوحيد المتبقّي في منع ذلك القدر.
هذا كلّه لا يعني بالضرورة أنّ المَخرج من الأزمة العالمية الراهنة لن يكون إلّا بشكلٍ متزامِن في كلّ بقاع الأرض؛ فالحلقة يمكن كسرُها نقطياً في عدة أماكن، وهذا ما يجري فعلاً، إلى هذا الحد أو ذاك، في أفريقيا مثلاً. ولكنّ الصورة الإجمالية، ومن وجهة نظر تاريخية، ستبدو في نهاية المطاف كما لو أنّ انهياراً متزامناً قد جرى في كلّ مكان حول العالم؛ لأنّ حساسية ميزان القوى القائم وهشاشته، تفترض أنّ عتبة التراكم المطلوبة للتغييرات الجزئية (الانتصارات الجزئية المطلوبة)، هي عتبةٌ منخفضة، ومتى تمّ الوصول إليها فإنّ التاريخ سيدخل طوراً جديداً من التسارع أعلى ممّا نعيشه اليوم بمراحل، رغم أنّه بالأساس في وضع تسارعٍ غير مسبوق...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1176