تجارة الشعارات

تجارة الشعارات

تصرّ الماركسية في إطار التطبيق السياسي بشكل دائمٍ على الترابط الذي لا انفصام فيه بين ثلاثة جوانب: (الوطني، الاقتصادي- الاجتماعي، الديمقراطي). وتقول: إنّه لا انفكاك بين هذه الجوانب بأيّ شكل من الأشكال.

حتى في تلك الحالات التي يتم رفع الشعار الوطني السياسي، بل ومعه الشعار الديمقراطي، فإنّه يكفي أن تكون السياسات الاقتصادية منحازة ضد مصلحة عامة الناس ولمصلحة القلة، لتدمر الشعارين الأولين في التطبيق؛ إذ إنّ ما سينتج مع الزمن عن حالة كهذه هو أمران لا محالة:

أولاً: القلة الناهبة، وكي تدافع عن مصالحها، فإنها ستدافع عن حالة سياسية قمعية، بحيث تتحول أجهزة القوّة ضمن الدولة إلى أجهزة وظيفتها الأساسية هي إسكات عامة الناس عن المطالبة بحصتهم من الثروة التي ينتجونها والتي تُسرق تحت أعينهم.

ثانياً: مع استمرار عمليتي النهب والقمع، فإنّ كل الشعارات الوطنية التي تطرحها الأنظمة المسيطرة تتحول في نظر الناس شيئاً فشيئاً إلى مجرد ستار تستخدمه تلك الأنظمة لتغطية النهب والظلم. وتبدأ تلك الشعارات بالانفصال في عقول الناس يوماً وراء يوم عن مضمونها الحقيقي الذي لا يتعلق بتلك الأنظمة من الأساس، بل بالأوطان وشعوبها.

عود على بدء، فإنّ الثلاثية التي بدأنا حديثنا بها، تستولد بعضها بعضاً وتستدعي بعضها بعضاً. ولكن ثمة ما هو أشد خطورة على المدى البعيد حين تحاول الأنظمة تقديم مزيج غير متجانس من هذه الثلاثية (ودائماً ما يكون المزيج غير المتجانس هذا حالة انتقالية طالت أم قصرت، لأنّ انسجاماً محدداً بين طبيعة الجوانب الثلاثة الجوهرية هو أمر لا مفر منه).

فمثلاً- وهذه الحالة الخطرة التي يمكن أن تمسّنا في سورية بشكل مباشر- حين ترفع السلطات الشعارات الوطنية والشعارات المعادية للإمبريالية والشعارات التقدمية، في حين تمارس طوال سنوات وسنوات سياسات ليبرالية معادية لعموم الناس بالإطار الاقتصادي الاجتماعي، وتخسف سقف الحريات السياسية، بحيث يكاد يكون معدوماً، فإنّ لذلك أثراً أشد خطورة وفتكاً؛ فالنتيجة لا تقف عند خلخلة المجتمع ومعارضة الناس بشكل طبيعي للسياسات القمعية ضدهم، بل وتقود الناس (بوجود تأثير مناسب) إلى معاداة الشعار التقدمي والوطني نفسه، وتحويله إلى مثار للسخرية... وربما يكون هذا استهدافاً حقيقياً لدى البعض من الأساس... خاصة أنّ ديدن بعض أشكال «المعارضة» المصنعة خارجياً هو السخرية من الشعارات الوطنية والمطابقة بينها وبين النظام نفسه!

فكيف الحال إذا كنا نعيش ضمن محيط من «المطبعين» والمنبطحين، وضمن وضع تاريخي يُراد فيه إنهاء سورية بشكل كامل وتقسيمها وإخضاعها؛ الأمر الذي لا مانع له لدى حرامية كبار وتجار حروب من الأطراف المختلفة فيه؟

إنّ التناقض بين رفع شعار وطني محق وبين سياسات ملموسة ضد مصلحة عامة الناس، يحوّل الشعار الوطني في نظر الناس إلى مجرد «بضاعة» يجري بيعها لهم، وهي بضاعة لا تكلّف منتجيها شيئاً، بوصفها شعاراً دون تطبيق، سوى الكلام والوعود... والتعامل مع الشعار الوطني بوصفه بضاعة، هو بالذات المدخل الذي ينفذ منه العدو حين تبدأ عروضه الكاذبة على لسانه مباشرة أو على لسان عملائه: «تخلوا عن الشعار الوطني وعن القضية الوطنية وستعيشون بالعسل»!

الحقُّ، هو أنّ التخلي عن الشعار الوطني سيكون الخطوة الأخيرة اللازمة لاستكمال الثلاثية وأخذها نحو التجانس التام: (أي: أن نتخلى عن الشعار الوطني وربما عن وحدة بلادنا، وفوقها نعيش في نمط اقتصادي ناهب نكون فيه المنهوبين، ولزوم استمرار النهب هو القمع، أي: أن نكون منهوبين ومقموعين وأذلاء وطنياً في وقت واحد)..

وكما أنّ التخلي عن الشعار الوطني هو الخطوة الأخيرة لثلاثية دمار متجانسة، فإنّ التمسك به وإعادة الألق له هي الخطوة التي لا غنى عنها لتكوين ثلاثية ازدهار متجانسة تكون فيه «سورية موحدة وكريمة ومناصرة فعلية للقضية الفلسطينية، ويكون شعبها مزدهراً اقتصادياً وحراً سياسياً»

التعبير عن الارتباط بين الجوانب الثلاثة (الوطني، والديمقراطي، والاقتصادي الاجتماعي)، يعكس في نهاية المطاف موقفاً طبقياً لمصلحة فئة اجتماعية محددة؛ هنالك من يخفي ذلك خداعاً ومواربة، لأنه يريد تضليل عامة الناس عن حقيقة خدمته لفئة القلة القليلة الناهبة، وهنالك من يعلن هذا الترابط وموقفه منه جهاراً نهاراً وطوال الوقت، تعبيراً عن التزامه مصلحة الفئة المنهوبة الواسعة والعريضة من الناس، كما هو الحال لدى حزب الإرادة الشعبية...

إنّ إعادة الألق للشعار الوطني بأبعاده المختلفة تبدأ بإخراجه من «سوق البضائع» والمساومات، فوطنية السوريين هي مسألة حيوية وملموسة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى... والمدخل نحوها ليس «تثقيفياً» و«توعوياً» و«تنويرياً» فحسب (على أهمية ذلك)، بل المدخل هو عمل ملموس ومباشر في توحيد السوريين المتضررين والمنهوبين من كل الأطراف، وفي كل المناطق السورية، للضغط معاً للوصول إلى الحل السياسي، وإعادة توحيد البلاد عبر تغيير جذري شامل... وقبل فوات الأوان!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1013