حرب الناقلات وخطوط التجارة الدولية

حرب الناقلات وخطوط التجارة الدولية

تستمر تفاعلات احتجاز إيران لناقلة النفط البريطانية ستينا إمبيرو بالتدحرج، ويمتلئ الفضاء الإعلامي بفائض من التحليلات «اليومية» التي تناور بين احتمالات التصعيد والتفاوض. ويندر في هذا الجو أن يقف المرء عند محاولة جدية لفهم المعاني العميقة لما يجري...

القصة باختصار

احتجزت إيران يوم الجمعة 19 من الجاري في مضيق هرمز، ناقلتي نفط عائدتين لشركتين بريطانيتين، استَبقتْ إحداهما التي ترفع علماً بريطانياً، وتركت الأخرى التي تحمل العلم الليبيري بعد توقيفها لفترة قصيرة، وأرجع المسؤولون الإيرانيون سبب الاحتجاز إلى مخالفة الناقلة البريطانية (ستينا إمبيرو) لقوانين الملاحة البحرية، وقيل أيضاً: إنها اصطدمت بمركب صيد كان في المنطقة.

يأتي الإجراء الإيراني بعد مرور أسبوعين على احتجاز ناقلة النفط الإيرانية (غريس1) من قبل ما تسمى «حكومة جبل طارق» الخاضعة عملياً للملكة المتحدة، وبعد ساعات من قرار المحكمة العليا لجبل طارق تمديد حجز الناقلة الإيرانية ثلاثين يوماً بعد اجتماع عقده مسؤولون من جبل طارق في لندن، رغم أن الإيرانيين كرروا مراراً أنهم سيردون بالمثل، وهو ما فعلوه في نهاية المطاف. بالتوازي، امتنعت شركة النفط البرازيلية الحكومية Petrobras عن تزويد سفينتين تجاريتين إيرانيتين على الشواطئ البرازيلية بالوقود، «تضامناً» مع جبل طارق، و«امتثالاً» للعقوبات الأمريكية.

«انتصار» الـ900 متر!

سبق هذا التصعيد، التصعيد المتعلق بالطائرة المسيرة الأمريكية التي أسقطتها إيران يوم 20 من الشهر الفائت، والذي تلاه تصعيد كلامي وتهديد بضربات، سرعان ما تم ابتلاعها، لكن الخزي الذي لحق بالأمريكان بسببها ما يزال قائماً وجرى تعزيزه، برواية ترامب عن الطائرة المسيرة الإيرانية التي زعم إسقاطها على بعد 900 متر من إحدى سفنه الحربية في منطقة الخليج. وحتى إذا صدّقنا ترامب، فإنّ تمكن طائرة مسيرة من الاقتراب إلى هذا الحد من الأسطول الأمريكي هو بحد ذاته فضيحة بالمعنى العسكري، وعار لا ينفع معه إن تم إسقاطها أم لم يتم، لأنّ ذلك يعني أنّ الإمكانات الدفاعية التكنولوجية لهذا الأسطول باتت متخلفة وهشّة في وجه المناوئين؛ بوضوح أكبر: إنّ الطائرة المسيرة نفسها، التي لم يتمكن الأمريكان من إسقاطها إلا حين باتت على بعد 900 متر، كان بإمكانها أن تطلق عن بعد 1 كم أو 2 كم صاروخاً غير قابل للرد باتجاه البارجة الأمريكية...

أفكار أولية

إنّ مجمل عمليات التصعيد التي جرت من جانب الغرب تجاه إيران، والردود الإيرانية المذلة عليها، تسمح لنا بوضع استنتاجين أوليين شديدي العمومية:

أولاً: التوازن الدولي الجديد الذي تحدثنا عنه مراراً، تجاوز اليوم كل توصيفاته النظرية، وبات حقيقة واقعة تظهر بجلاء شديد عبر هزال الغرب وحلفائه، وتخبطّهم وتعثرهم المستمر، وانتهاء مرحلة السياسات الاستعلائية، وعلى رأسها «العقوبات»، التي كانت تمر دون رد.

ثانياً: إقدام إيران على تصعيد بهذا المستوى، لا يعني فقط أنّ قدرة الغرب على الدخول في حرب واسعة قد جرى شلّها فحسب، بل وحتى إمكانية الدخول في حروب جزئية هنا أو هناك، قد جرى شلّها أيضاً، وبات الغرب يعلم أنّه في أية محاولة من هذا النوع، سيتلقى ضرباً موجعاً لا تتحمله عظامه المترققة بفعل شيخوخته التاريخية...

طرق التجارة العالمية

مع انطلاق الاستعمار الأوروبي، الذي يُؤرخ له البعض ابتداءً من أواسط القرن الخامس عشر، ولكن أغلب الباحثين يرجعونه إلى أواسط القرن السابع عشر، عمل الأوروبيون على تكييف المستعمرات وفقاً لاحتياجات نهبهم، وفي هذا السياق اتخذوا مجموعة من الإجراءات التي تشابهت في معظم المستعمرات، (وطبعاً المدرسة العريقة التي نهل منها الاستعمار كله، هي المدرسة البريطانية، بعد التجارب الأولية للهولنديين والإسبان):

منع أي تطوير جدي للبنى التحتية في المستعمرات، وخاصة الطرق وسكك الحديد، إلا بالقدر الذي يخدم وصلها مع البحار والمحيطات، وهذه الأخيرة هي ملعب الاستعمار الأوروبي الأساسي، ابتداءً من الأرمادا الإسباني، ووصولاً إلى أساطيل صاحبة الجلالة.

منع الاتصال البري بين دول المستعمرات، ومنع التبادل التجاري فيما بينها، وتدمير طرق التجارة البرية التاريخية، وبشكل خاص تدمير طريق الحرير البري، والإبقاء على جزء من طريق الحرير البحري، بعد تحويره عبر رأس الرجاء الصالح ثم باتجاه المتوسط.

تكريس المستعمرات بوصفها منجماً للمواد الأولية بأنواعها المختلفة، مع السماح ببعض التطور في إطار الصناعات التحويلية والاستخراجية.

تكريس كل أنواع الانقسامات الدينية والعرقية والطائفية، وترسيمها عبر حدود سايكس بيكو لاحقاً، بحيث تستمر رسمة طرق التجارة العالمية بالشكل الذي وضعته مملكة البحار (بريطانيا)، وورثته مملكة البحار الجديدة، الولايات المتحدة.

لكي لا يبقى الحديث نظرياً بحتاً، نستحضر هنا أرقاماً من دراسة مهمة أجراها Ahmed S. Rahman لصالح الجامعة البحرية الأمريكية قسم الاقتصاد عام 2009، (الدراسة كاملة ستكون مرفقة مع المادة بصيغتها الإلكترونية على موقع قاسيون)

تبحث الدراسة وضع خطوط التجارة العالمية البحرية والجوية والبرية، وتحولاتها بين ١٩٥٠ و٢٠٠٤. وضمن الدراسة نقرأ الإحصائية التالية:

«شكلت التجارة البرية عبر الحدود بين الدول المتجاورة أقل من ٢٣% من إجمالي التجارة العالمية، وهذه النسبة بقيت ثابتة تقريباً خلال العقود الخمسة المدروسة، ولكن هذه النسبة الإجمالية تختلف بشكل كبير من قارة إلى أخرى:

إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا بين ١ و٥ بالمئة فقط.

أمريكا اللاتينية بين ١٠ و٢٠ بالمئة.

أوروبا وأمريكا الشمالية ٢٥ إلى ٣٥ بالمئة».

توضح هذه الإحصائية جانباً مما أوردناه قبلها؛ التبادل البيني بين دول إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، شبه معدوم.

بالمقابل، توضح دراسة أخرى، (مرفق بنهاية المادة)، أنّ أكثر من 50% من تجارة أوروبا مع العالم هي تجارة عبر البحار.

ممالك البحار

إنّ تأمُلاً قصيراً للخريطة العالمية، كفيل وحده أن يكشف السر، أوروبا بالمعنى الجغرافي ليست أكثر من قزم، والولايات المتحدة بعيدة وراء المحيطات؛ إذا كانت ثروات العالم والنسبة الأكبر من سكانه، متركزين في آسيا وإفريقيا، فما السبيل للسيطرة عليها ومنع شعوبها من الاستفادة من خيرات بلادها؟

منع أي تكامل بين دول هاتين القارتين، وهذا يتطلب عداءً مطلقاً بين كل جارين، قريبين أو بعيدين (يكفي مثلاً أن تكون العلاقات جيدة بين الصين وروسيا، حتى يتم نفي أوروبا وأمريكا ووضعهما ضمن أحجامهما الطبيعية).

ضرب طرق التجارة البرية التي تستحيل السيطرة عليها، إن كانت هي الطرق الأساسية للتجارة العالمية، والاستعاضة عنها بالطرق البحرية، التي يمكن أن يسمح شيء من التقدم التكنولوجي بالسيطرة عليها (أو كان يسمح).

بهذا المعنى، فإنّ عالَم الخمسمئة عام التي مضت، العالم المحكوم غربياً، كان يرتكز إلى الطرق البحرية كأحد المكونات الجوهرية لسطوته وسيطرته العالمية.

التطور الموضوعي

إنّ الدراسات الحديثة، تبين أنّ تكلفة النقل الجوي والبري، مع التطور التكنولوجي السريع، حققت انخفاضاً هائلاً خلال نصف القرن الماضي، وبات الاستغناء التدريجي عن الطرق البحرية اتجاهاً مسيطراً ولا رادّ له، وهذا وحده كافٍ لتدمير السيطرة الغربية...

ضمن هذا كله، يمكننا أن نقترب قليلاً، وبشكل أولي يحتاج إلى مزيد من التعميق، من فهم حجم الألم الذي يشكله أي تهديد للطرق البحرية في هذه الفترة العصيبة من التاريخ الغربي، والتي من شأنها أن تزيد من سرعة الاتجاه الموضوعي نحو سيطرة طرق جديدة للتجارة العالمية، وسيطرة قوى جديدة، ومنطق جديد...

تحميل المرفقات :

معلومات إضافية

العدد رقم:
923
آخر تعديل على الإثنين, 22 تموز/يوليو 2019 14:58