اللجنة الدستورية... مسار من العراقيل والنهاية واحدة
يصعب على المتابع في تفاصيل الأزمة السورية الإلمام بسير الأحداث لواحدٍ من الملفات الكثيرة التي تتضمنها الأزمة، من ملف اللاجئين، إلى ملف القضاء على الإرهاب، إلى اللجنة الدستورية... إلخ. وهذا طبيعيٌّ جداً ضمن جملة التعقيدات التي لاحقت مسار الأزمة السورية منذُ بدايتها حتى اللحظة.
اللجنة الدستورية هي واحدة من أهم هذه الملفات وأكثرها حساسيةً فيما يتعلق بطريق الحل السوري، سنحاول في هذا المقال تلخيص أهم ما يتعلق بهذا الملف، وسنورد في النهاية آخر المستجدات السياسية بما يخصّ هذه اللجنة.
بدء اللجنة الدستورية
تمّ إقرار اللجنة الدستورية في مؤتمر سوتشي للحوار السوري في بداية العام الفائت 2018، وذلك بعد أن واجه هذا المؤتمر العديد من العراقيل لتشكيله، بسبب خطورته كتفاهم إقليمي (روسي- تركي- إيراني) معنيٌّ بإنهاء الصراع في سورية، بما يتناقض مع مشروع الفوضى الأمريكي، وبالفعل، استطاع هذا المؤتمر بضامنيه الثلاثة، وبالمشاركين فيه من النظام والمعارضة التوصل إلى الاتفاق بضرورة تشكيل لجنة دستورية مشكّلة من ثلاثة أثلاث: النظام، المعارضة، وثلث أخير للمجتمع المدني، ويكون مبدأ عمل هذه اللجنة قائم على التوافق، وبذلك يكون أي خلاف على نسب تمثيل القوى في اللجنة لا معنى له، مع الإشارة إلى أن آليات عمل اللجنة لم تُقرّ أو تُعلن بعد.
أهمية اللجنة الدستورية
تمّ وصف اللجنة الدستورية- في العديد من المقالات التي كُتبت عنها في قاسيون- بالثغرة التي أحدثها مؤتمر سوتشي في جدار الحل السياسي، فهي تشكّل الخطوة الأولى في العملية السياسية، والأداة الفعّالة للسير بها قُدماً. فالدستور هو الإطار العام اللاحق للدولة السورية ونظامها السياسي، والبحث فيه يفتح الطريق موضوعياً على بحث مختلف القضايا التي هي بالأصل موضع خلاف، فهو يختصر مراحل من عملية الحل. إضافةً إلى ذلك يُعدّ إقرار مُسوّدة للدستور خطوةً أساسية على طريق تطبيق القرار 2254، الذي نجحت توازنات القوى الدولية الجديدة في فرضه ليكون خارطة حل للأزمة السورية، ونموذجاً لحل الأزمات الدولية الموقدة عالمياً.
ما يجب التنويه إليه، هو: أنّ مهمة اللجنة الدستورية ليس إقرار دستور جديد لسورية المستقبل، كما يحاول البعض تصوير ذلك، إنما مهمتها التوافق بالحد الأدنى المطلوب على صياغة مُسوّدة للدستور يتم طرحها للاستفتاء الشعبي، ويتم بعدها إقرارها أو تعديلها.
الضمانات الدستورية
يبدو موضوع الدستور بالنسبة للكثير من السوريين غريباً، أو أنهم لا يجدون لأنفسهم مكاناً فيه، وهذا طبيعي في ظلّ ما عايشوه خلال السنوات الطويلة الماضية من عمليات قفز فوق الدستور، والتفاف حول بنوده، واستهتار في تطبيقه، ممّا جعله ليس أكثر من (حبر على ورق) بالنسبة لهم. إنّ الضامن الحقيقي والمطلوب لكي يؤدي الدستور مهمته على أكمل وجه لا يقتصر على صياغته بالشكل المطلوب فحسب، بل ينبغي من جهة التفصيل فيه درءاً للتفسيرات الخاطئة التي قد تحصل، ومن جهة ثانية، وهي الأهم؛ ينبغي حزم الهمم من أجل وضع رقابة جديّة على تنفيذه، وهذه الرقابة لا يمكن أن تكون إلّا شعبية، لأنّ لا أحد ستطالهُ سياط عدم تنفيذ بنود الدستور سوى الشعب نفسه، وهذا ما يقتضي الذهاب نحو توسيع مساحة الحريات السياسية من أجل السماح للناس بتحويل نصوص الدستور إلى قوة ووقائع على الأرض.
عوائق تشكيل اللجنة
أياً تكن التفاصيل التي أَخّرت تشكيل اللجنة، فإنها تبقى تفاصيل، وبالعمق فإن السبب العميق للتأخير والمماطلة، هو عدم الجاهزية الغربية بالدرجة الأولى لدخول التسوية السورية إلى مسار عملي وملموس، والمسعى الأمريكي لكسب الوقت، وهو الآتي بدوره من التخبط والانقسام في الولايات المتحدة حول آليات التراجع في المنطقة: الوتيرة والسرعة والمواضع.. ولذلك فإن إطلاق اللجنة أو حتى نجاح السير العملي بها، لن يتم بشكل فعّال إلّا مع تلقّي الأمريكيين لضربة جديدة، وتحديداً بضرب النصرة الذراع الأمريكية المخلصة.
جرت العديد من المحاولات لتفشيل اللجنة، فهي كما ذكرنا آنفاً خطوة جديّة باتجاه الحل، وقد تمّ وضع العِصيّ في العجلات مراراً، وكان لتشكيل الثلث الثالث النصيب الأكبر من التأخير، حيث جرت محاولات فرض تشكيله من قبل الأمم المتحدة، أي: على الهوى الغربي، ثم طال الخلاف على بضعة أسماء متبقية.
كما حاول الأمريكيون خلال هذه المرحلة تغيير مسار الحل، بمسارات وهمية، تجلت في صدور لا ورقات تيلرسون وبومبيو التي وُصفت من حيث الشكل بأنها طريق للحل، إلّا أنها في المضمون إستراتيجية لإدامة الاشتباك والحرب.
الهجوم الغربي على موضوع اللجنة الدستورية، يستهدف أيضاً إطار أستانا والنموذج في علاقة الضامنين الثلاثة: روسيا- إيران- تركيا. ومحاولة عدم وصول أستانا إلى نتائج ملموسة في مسألة التسوية السورية... وهو يستمر لليوم، عبر التشكيك بشرعية اللجنة، وإدخال المسألة الكردية على خط اللجنة الدستورية بطريقة محددة لا تسمح بالحل.
ولكن أستانا تترسخ، بالعلاقة بين الروس والأتراك والإيرانيين، والهجوم الغربي على الأطراف الثلاثة... بل وتتوسع بأن تضم أطرافاً في الإقليم كالعراق والأردن اللذين سيشاركان في اجتماعات أستانا القادمة مطلع شهر آب. والمسألة الكردية لن تحل إلا بالانسحاب الأمريكي، ودخول القوى الكردية بتأثيرات خارجية أقل في عملية التسوية السياسية السورية.
ما بعدَ الصبر إلّا الفرج
بعد كلّ محاولات العرقلة والمماطلة، عادَ موضوع اللجنة الدستورية ليُوضع على الطاولة اليوم وبشكل أكثر جدّية مما سبق، فقد قال المبعوث الدولي إلى سورية غير بيدرسن عَقِب اجتماعٍ له مع الحكومة السورية في دمشق: «إننا قريبون جداً من إنشاء لجنة دستورية كبابٍ للحل السياسي الشامل في سورية»، وكان قد سبق هذه الزيارة تسريبات للدبلوماسي الأمريكي جيمس جيفري تحدّث فيها عن حدوث اتفاق على الأسماء المُختلف عليها من أجل تشكيل اللجنة.
إضافةً إلى ذلك، شكّلت الخطوات الملموسة في عملية إنهاء النصرة من إدلب دافعاً اتجاه سير عملية تشكيل اللجنة، فعلى الرغم من صعوبة هذه المهمة إلّا أنها تبقى حاسمة لمجريات التطور السياسي اللاحق.
إنّ عملية التسوية السياسية في سورية تقترب من الوصول إلى بدايتها، إذ إنها لم تبدأ بعد، وكلّ ما شهدناه كان تحضيراً لها، ومحاولات لجعلها على مقاس الأمريكي، ولكنها محاولات فاشلة، أو دعنا نقل: إنها لم تستطع تحقيق أكثر من التسويف والمماطلة، وهذا مطلوب أمريكياً لكنه غير كافٍ. ولن تستطيع الولايات المتحدة تحصيلَ أكثر من ذلك في ظلّ الميزان الدولي الجديد، الذي سيؤدي إلى إنهاء أدوات التعطيل الأمريكية الأساسية في سورية: النصرة والمنطقة الشمالية الشرقية. مفتاح عملية التسوية حالياً هو الدستور، وبالتالي، ينبغي على كافة القوى الوطنية السعي الحثيث من أجل إنجاح عملية تشكيل اللجنة الدستورية، والمطالبة ببث جلسات النقاش الخاصّة بها علناً، لكي يدرك السوريون حقّاً من معهم ومن عليهم من القوى السياسية المتعددة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 923