الشرق يحتوي تركيا... والغرب يعتصرها
جرى الانقلاب السياسي في تركيا في عام 2016 بينما «الانقلاب الاقتصادي»، إن صح القول، فيجري الآن في عام 2018. وفي كلتا الحالتين فإن المهاجم، ومعدّ الانقلاب... هو الغرب، والهدف هو تركيا. ولكن تركيا التي تتوسط الجغرافيا العالمية، تتحول إلى مفصل عالمي، بين الغرب الذي ينبذها ويفعّل تناقضاتها، وبين الشرق الذي يسعى إلى ترويض جماح أزمتها ويحتويها.
انضمت تركيا بعد الحرب العالمية الثانية، في عام 1952 إلى حلف شمال الأطلسي، وتحولت إلى نقطة ارتكاز متقدمة للغرب: على أبواب الاتحاد السوفييتي، ودول أوروبا الشرقية، وموطئ هام في منطقة «الشرق الأوسط».
عطاء قليل رغم الولاء المطلق
رغم التبعية الخالصة للغرب، طوال العقود الممتدة منذ خمسينيات القرن الماضي، فإن تركيا لم تستطيع أن تدخل نادي الغرب كقوة معترف بها في الاتحاد الأوروبي. ولذلك أبدت تركيا مع تراجع المركز الغربي عقب الأزمة المالية العالمية، ميلاً نحو فتح أفق التعاون شرقاً، الميل الذي نشأ موضوعياً لدى قوى برجوازية تركية واسعة، ناجم عن توسع حجم الاقتصاد التركي، ودوره المحوري في الترانزيت العالمي، وتفاعله مع النشاط الاقتصادي لقوى العالم التي تنمو في الشرق كالصين، ومع القوى التي تفتح ذراعيها ومبادراتها الاقتصادية، والجيوسياسية لتركيا، مثل: روسيا.
بينما بقيت قوى مال تركية هامة وواسعة مرتبطة بالغرب، وبعد عام 2008 وبدأ تدفق المال الاستثماري الرخيص القادم من الغرب إلى العالم، وتوسع لحد كبير وزن الكومبرادور الغربي في تركيا، ولكن تبعيته تعمقت. إذ بدأ الدَّين الغربي يضخّم القطاع الخاص التركي، الإنتاجي، والمالي على حد سواء.
مسار التحول بين 2014 و2016
حاولت تركيا أن تناور في ساحة الصراع الدولي، فبينما قدمت خدمات كبرى لمشروع الفوضى الغربي في سورية طوال السنوات الأولى للأزمة، فإنها عملياً لم تلقَ تقديراً غربياً كافياً... إذ أن مجرد تجاوبها مع المشاريع الاقتصادية الروسية، مثل: السيل التركي الذي تم الاتفاق عليه بتاريخ 12- 2014، كان كفيلاً بأن يحاول أنصار الغرب في تركيا دق إسفين عميق بين روسيا وتركيا، عبر إسقاط الطائرة الروسية في نهاية 2015. ولم يستمر التصعيد طويلاً حتى عاد أردوغان للاعتذار رسمياً معتبراً أن الحادثة: « طعنة في الظهر من أعوان الإرهابيين»، وذلك في حزيران من عام 2016، وما نجم عنه إعادة تطبيع العلاقات مع روسيا من جهة، والانقلاب السياسي في تركيا في تموز 2016 من جهة أخرى. حيث بدأ الغرب المأزوم والمتخوف من انعطافٍ تركي، بتصعيده العلني ضد قوى الحكم التركية.
ومن هنا بدأت المواجهة العلنية مع الغرب، وبدأت العلاقات تتطور مع الشرق، وتحديداً مع روسيا. حتى أصبحت تركيا في شهر 12 من عام 2016 طرفاً من الأطراف الثلاثة الضامنة لمسار أستانا. أي: انتقلت تركيا إلى إطار التعاون في تسوية الأزمة السورية، وهي النقطة الأكثر حماوة في ساحة الصراع الدولي.
ورغم هذا فإن منطق المناورة التركي، بقي حاضراً، وتحديداً في التعاون في مجال الأزمة السورية. الأمر الذي ظهر وضوحاً في الهجوم على عفرين، والذي ظهر مؤخراً في المماطلة بالوصول إلى اتفاق إدلب.
تناقضات
البرجوازية التركية والمناورة
أما هذه المناورة، فلها أسباب موضوعية ناجمة عن الصراع والأوزان المختلفة داخل تركيا، وتحديداً بين قوى المال والحكم المرتبطة عميقاً بالمال الغربي، مقابل قوى الحكم الأخرى التي ترى أن الأفق الشرقي مفتوح، والتي يعاديها الغرب. وهي الممثلة بأردوغان وما يمثله من قوى اقتصادية. هذا عدا عن الصراع القومي الحاد والمديد ضد أكراد تركيا.
عقب الانقلاب السياسي في تركيا، فإن الغرب يركز على التصعيد الاقتصادي ضدها، حيث بدأت رؤوس الأموال تخرج من تركيا مبكراً منذ عام 2016 بالقياس إلى القوى الصاعدة عالمياً التي تدفق لها المال. واشتدت هذه العملية في العامين الأخيرين، وتحديداً بعد الانتخابات الرئاسية المبكرة في تركيا، والتي ستنقل جزءاً هاماً من النفوذ السياسي والاقتصادي إلى القوى التي يمثلها أردوغان، والتي لا يريدها الغرب. وقد انتقل التصعيد الاقتصادي للعلن، مع العقوبات الاقتصادية على تركيا، ومع الخروج المتسارع للمال الأجنبي منها، والتراجع السريع في الليرة. الأمر الذي يشكل ضغطاً اقتصادياً كبيراً، ويصعّد الصراع بين قطبي البرجوازية التركية. ويعطي الغرب قدرة للضغط على تركيا، الأمر الذي تمثل في مناورتها للوصول إلى اتفاق إدلب. ولكن بالمقابل فإن الضغط الغربي العالي، والذي يهدد العملة التركية بالانهيار يعطي الطرف التركي الحاكم أفضلية على الأطراف الأخرى الخاضعة للغرب، والتي هي اليوم بأضعف حالاتها ومهددة من حلفائها ذاتهم. بينما يعزز موقف أردوغان وما يمثله، الاحتواء الروسي الذي تمثل أيضاً بقبول حلٍ مؤقتٍ ومهلةٍ في إدلب، تجاوباً مع التناقضات التركية، واستعداداً لاحتوائها.
التناقض القومي... وحلّه
يستخدم الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، التناقض الكردي التركي في تركيا، أيضاً، وهو الذي يهدد وحدتها، مع تمترس البرجوازية القومية التركية وراء «الأمن القومي» وسلوكها سلوكاً عدوانياً في تركيا وفي سورية. ولكن كما أن أزمة إدلب واحتواءَها روسياً، سيدفع تركيا للتخلص من نفوذ قوى الغرب الداعمة للإرهاب في الحكم التركي... فإن حل الوضع في منطقة شرق الفرات– الملف الساخن القادم والأخير في الأزمة السورية- وخروج الولايات المتحدة منها، وضمان احتواء القوى الكردية السورية في الحلول السياسية الشاملة، لا الانفصالية، كل هذا سيلزم تركيا بالتخلص من عباءة التشدد القومي، ولن يؤدي إلى إخراجها فقط من مناطق عدوانها في سورية كما في عفرين، بل سيدفع الأتراك إلى إعادة فتح باب الحوار في القضية الكردية في الداخل التركي حيث الوزن الأكبر لهذه القضية تاريخياً. لأن أي خيار عدا ذلك سيكون أداة ضغط بيد الغرب ضد تركيا... وهذا الخيار لن يتم أيضاً دون عملية احتواء من الطرف الآخر، وتحديداً روسيا في إطار علاقاتها ودورها الفعّال والمتوازن مع الأطراف الإقليمية المعنية بالقضية الكردية.