في ذكرى النصر على الفاشية
كان لافتاً هذا العام تزايد الاهتمام الرسمي والشعبي في روسيا الاتحادية، بالذكرى السنوية للانتصار على الفاشية في التاسع من الشهر الجاري، من خلال مستوى وحجم المشاركة الرسمية والشعبية، التي حملت رسائل واضحة إلى العالم، فيما يتعلق بالموقف من التاريخ من جهة، وآفاق التطور اللاحق، ودور روسيا في العالم المعاصر من جهة أخرى..
لم يكن الاحتفال بهذه المناسبة مجرد طقس احتفالي، وتغنِّ بالماضي المجيد، ووفاء لذكرى الآباء والأجداد، ومنع محاولات تشويه التاريخ، بل بالإضافة إلى كل ذلك فإن الذكرى تزامنت مع مواقف لافتة للقيادة الروسية، بأن دروس الماضي تستوجب استكمال العملية في الظروف المعاصرة، كما تجلى بالتحديات التي وضعها الرئيس الروسي، وبالدرجة الأساسية في المجال الاقتصادي، وسعي روسيا للوصول إلى مرتبة الدول الخمس الأولى على المستوى العالمي، خلال الأعوام القليلة القادمة.
إن تحدياً بهذا المستوى، يعني من الناحية الموضوعية القيام بإجراءات عميقة، وتحولات نوعية تشمل كل المجالات، في السياسة والاقتصاد والثقافة والتكنولوجيا..
الفوج الخالد
لم يقتصر إحياء المناسبة على الجانب الرسمي فقط، فكانت مسيرة الفوج الخالد ومشاركة عشرة ملايين مواطن روسي في احياء المناسبة، موقفاً شعبياً صريحاً، من مجمل التطور التاريخي في روسيا، بدءاً من ثورة أكتوبر، والحرب الوطنية العظمى، وانهيار التجربة الاشتراكية، ورداً ملموساً على البروباغندا التي شوهت رموز تلك المرحلة التاريخية، وحواملها السياسية والأيديولوجية، إن هذه المشاركة الشعبية المتصاعدة كل عام، تعني أن منظومة القيم التي سادت تلك المرحلة، قيم التعاون، والنزوع العميق نحو الروح الجماعية، المتوافقة مع الطبيعة البشرية، واحترام الكرامة الإنسانية، هي قيم متأصلة في المجتمع الروسي، وإذا وجد من يعبر عنها فإنها تظهر بهذا الشكل الذي يفوق كل التوقعات.. حيث يتداخل الوطني، مع الاجتماعي_ الطبقي، والماضي مع المستقبل، والعام مع الخاص، والضرورة مع الواقع.. لتشكل بمجموعها نموذجاً فريداً في الوعي الجمعي لشعب من الشعوب. ولم تفلح كل عمليات التزوير، ومحاولات صياغة وعي اجتماعي جديد ممسوخ، يتوافق مع الليبرالية الجديدة، في إلغائه.
انتصار الأمس.. وتقدم اليوم؟
إذا كان انتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، ترك تأثيراً مباشراً على الوضع الدولي ككل، وبالدرجة الأولى ما أطلق عليه بلدان حركة التحرر، وحصول عشرات البلدان والدول على استقلالها الوطني، فإن تصاعد الدور الروسي، وتعزز نظام التعددية القطبية الآن، وتراجع وزن الولايات المتحدة بما تمثله بالنسبة كأكثر قوى رأس المال رجعية في العالم المعاصر، بات يلقي بظلاله على كل الوضع الدولي، والعلاقات الدولية، ومنها بلادنا..
إن الدرس الأساس، بالنسبة لنا كشعوب ودول تدفع ضريبة ظهور الفاشية الجديد، في ظل الأزمة الرأسمالية الراهنة، هو: أن التوازن الدولي الجديد، يفتح المجال رحباً أمام دول العالم للعودة إلى التاريخ، بعد أن جعلها النموذج الرأسمالي الغربي، خارجه، من خلال فرض نظام التبعية المقيت على كل بلدان الأطراف.
التاريخ لا يعيد نفسه بالتأكيد، ولكن بالتأكيد تشكل التجربة التاريخية جزءاً من مكونات الوعي البشري لذاته، والوعي البشري في سياق تراكمه، يستنبط الحلول للمشاكل الجديدة التي تعترض طريق تطور البشرية، بعبارة أخرى: إن ما يجري على النطاق العالمي اليوم، يشكل بداية إنهاء تحكم المركز الرأسمالي الغربي بالعالم خلال القرون الخمسة الماضية، بما فيها منع قوى رأس المال المالي، من حل تناقضاتها على حساب شعوب العالم عبر حروب مدمرة وواسعة.
إن الهوامش الواسعة التي تؤمنها، الزيادة المضطردة للدور الروسي الصيني في إطار تكامله، تضع على جدول أعمال القوى الحية في بلدان الأطراف، ضرورة إبداع نموذجها الخاص في التطور، من خلال الثورة الوطنية الديمقراطية المعاصرة، التي ستحل جملة المهام الوطنية والاقتصادية الاجتماعية، والديمقراطية، وهي بذلك، لا تحل قضاياها فقط، بل تساهم أيضاً بدورها في الحفاظ على الحضارة البشرية، ومنع اندلاع الحروب.