(ضع نفسك قليلاً في مكان العدو)
ماذا لو وضعنا أنفسنا في موضع القائمين على الكيان الصهيوني، ومؤسسيه... ونظرنا إلى الحدود الشمالية، حيث أرضنا “المحتلة في الجولان” وحيث يليها منطقة توتر في الجنوب السوري ويليها ساحة المعركة المتغيرة في سورية...
اللوحة تقول: إن الكيان لم يكن يوماً في وضع أعقد، على العكس مما يعتقده البعض بأنه يزهو «بتمزق الشعوب العربية»، وبانتقال النوايا التطبيعية لدى السعودية مثلاً إلى العلن، فأوقات الانعطاف الحادة كما هو عالم اليوم، لا تتيح مجالاً لطرفٍ هشٍ كالكيان الصهيوني «بالزهو أو المراقبة» أو الاعتماد على الخليج!
ربما يكون الموقف «الإسرائيلي» من أوضح المواقف رغم ما أثير حوله من غموض، فالكيان ليس معنياً بالأطراف، بل هو معنيٌّ إلى حد بعيد بتقسيم البلاد وتدميرها، وبأسوأ الأحوال هزّ وجودِ جهاز دولة، وتغيير ثوابت سورية تاريخية تتجاوز الأنظمة الحاكمة، ومعنيٌّ أيضاً بظهور أطرافٍ وقوى سياسية «ترفع القبعة» لمشاريع السلام والتطبيع.
فعملياً، تدخل الكيان بشكل غير مباشر ولا يزال يتدخل، في كل ما يمكن أن يطيل أمد المعركة، ويمزق جسد المجتمع السوري. وإن كان ظهوره غير مباشر، إلا أن المنطق يقول: إنه لم يضيّع جهداً وسط ظروف الفوضى وسعياً لاستمرارها، وقام ويقوم بدعم «كل طرف قابل للشراء».
أما بشكل مباشر، فقد انتقل الكيان لاحقاً ليتدخل بالجنوب السوري وعلى المناطق الحدودية، وأصبحت عملية «دعمه اللوجستي» لأطراف من المعارضة المسلحة، مادة إعلامية مُسوّقة، وكانت واحدة من المفاصل التي هدفت إلى خدش الثوابت السورية، ومحاولة هز الموقف الموحد من العدو، ثمّ تلاها ظهور بعض الشخصيات الهامشية التي تعلن موقفاً «ما بعد التطبيعي»... وإن لم يكن للأولى أو للثانية أثرٌ في الموقف الشعبي العام، إلا أنها ساهمت في جعل بعض «المحرّمات السورية» مرئية وإن كانت منبوذة.
الموقف الأوضح كان عندما انتقل العدو الصهيوني للعمل العسكري المباشر، عبر ضرباته الجوية... وهذا النوع من السلوك كان يُوضع في سياق ضرباتٍ على أهداف عسكرية محددة، وتحديداً المرتبطة منها بالتواجد الإيراني، أو تواجد عناصر حزب الله اللبناني، أو شخصيات عسكرية بعينها، كما في اغتيال الشهيد القنطار، واغتيال قياديين آخرين من حزب الله.
ولكن هذه العمليات وإن كانت عسكرية نوعية في أحيان كثيرة، إلا أنها كانت تحمل رسائل سياسية في جميع الحالات: وهذه الرسائل لم تكن للأهداف والجهات المستهدفة فقط، بل كانت بالدرجة الأولى «للمجتمع الدولي»، وللأطراف الفاعلة في تشكيل مسار حل سياسي في الأزمة السورية. حيث يريد الكيان القول: «نحن طرف في المعركة وسنستمر بالقتال وإدامة الصراع». وكرر ضرباته بسبب رفضه لمسار الحل السياسي ككل، وحاجته للإعلان عن ذلك. وكررها لأنه لا يرى أفقاً له، في مسار الحل الدولي الذي يتبلور في سورية، تحديداً بعد قرار مجلس الأمن 2254، ورسم خارطة طريق للحل السياسي في سورية، تدعمها قوى دولية وإقليمية بجهدٍ عسكري وسياسي واضحين.
الكيان الصهيوني كان يُعوّل على قوى الفاشية الإرهابية الدولية المدعومة بالمال الأسود العالمي الأمريكي، أو الصهيوني، أو كليهما، وانتهى تعويله عليها، مع المحاربة الجدية للإرهاب. وكان يبني على أن مشروع الفوضى الأمريكي لا رجعة عنه، وإذا به أمام طروحات الانسحاب الأمريكية، بعد ضربات التشويش الاستعراضية الأخيرة. وكان قد توقع انهيار الدولة، وتحديداً الجيش ووصوله إلى نقطة اللاعودة، ولكن التوازنات الدولية الجديدة منعت هذا، بل أتاحت له استعادة قدراتٍ في مواجهة العدو، واستعادت الأسلحة السوفييتية القديمة قدرتها على إسقاط الطائرات، وستتيح الأسلحة الحديثة مثل إس- 300 قدرة ردع جوي استثنائية... وأخيراً، كان قد توقّع أن الدماء المسالة على الأرض السورية، ستتيح له موقفاً إقليمياً أقوى، تجعل ما فشل في تحقيقه في عدواني 2006 و2009 ممكناً، وتضرب عصب المقاومة، وتحيي دعاة التطبيع. ولكن الظرف الدولي والإقليمي أيضاً يغلق في وجهه عبر سورية، وبتراجع آمال مشروع التدمير، يزداد الموقف الإقليمي المعادي للكيان مِنْعةً وتوازناً بل وقوة عسكرية.
«إسرائيل» اليوم لا تمتلك أن تستمر بالضربات اليائسة، التي لم تعد بلا ثمن منذ إسقاط طائرة الـ F16، وإسقاط 70% من الصواريخ الأمريكية... أما أن يتجه الكيان إلى حرب موسّعة في سورية، فإن فشلها العسكري شبه مؤكد، والمؤكد أن آثارها السياسية على الكيان مدمرة، وستكون بمثابة إحراقه كورقة أخيرة في مشروع الفوضى...
لا تمتلك «إسرائيل» اليوم إلا السلوك الانتقامي، وهي فعلاً لا تمتلكه تماماً، فإن بادرت إلى توسيع ردود فعلها العنيفة فإنها تجازف بالفشل في المواجهة العسكرية، وبخسارة المعركة السياسية تماماً، أما إن تركت الأمور تسير دون تدخل، فمسار الأزمة السورية نحو حل سياسي جامع، وسط أجواء دولية متغيرة، تريد إعادة الشرعية إلى مجلس الأمن وقرارته، ليفرض بعدها تطبيق كل قرارات مجلس الأمن التي تدين الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة.