التوازن الدولي.. جدل العام والخاص
دخل التوازن الدولي مرحلة جديدة، منذ أن أعلنت الولايات المتحدة، أن أهم التحديات أمامها هي: روسيا والصين، وارتسمت خطوط التماس الأساسية في الصراع الدولي، التي تتكثف الآن في ما يسمى حرب العملات، وهي في الحقيقة ليست حرب عملات بالمعنى المجرد، بقدر ما هي حرب كسر هيمنة الدولار، أي: الحق المشروع في التحرر من «الاستعمار المالي» استعمار الدولار للعالم، التي تعكس في العمق حرباً بين أصحاب الثروة الحقيقية، والثروة الوهمية «الورقية البنكية» في الاقتصاد، وفي السياسة حرباً بين القانون الدولي، وبين الاستفراد بالقرار في العلاقات الدولية. أي: أنّ الانقسام الدولي يتعمق يوماً بعد يوم، ويتضح من جهة محتواه ومضامينه.
من هنا، فإن أية قوة تسعى أن يكون لها موقع في المعادلات السياسية، في ظل التوازن الدولي الجديد، يجب عليها أن تربط بين العام والخاص، فمن دون توافق الخاص مع العام، ستجد أية قوة كانت، «دولية أو محلية أو إقليمية» نفسها أمام أبواب مغلقة، وفي أفضل الأحوال، قد تمتلك هوامشَ مؤقتة للمناورة، ولكنها تضيق كلما تعمق الصراع الدولي بين القوى الصاعدة والمتراجعة، أما محاولة الخروج من دائرة التوازن والتغريد منفرداً أو اللعب على الحبال، وخصوصاً في ظل احتدام الصراع، سرعان ما يرتد سلباً، وإن كانت الشعوب هي التي تدفع ثمن ذلك مع الأسف.
اجتماع أنقرة...
لا تقف أهمية دعوة اجتماع أنقرة الثلاثي بين رؤساء «روسيا وإيران وتركيا» عند الدعوة إلى التنفيذ السريع لنتائج مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، وخاصة لجهة تشكيل اللجنة الدستورية بالتعاون مع الأمم المتحدة، وكذلك تأكيد البيان على ضرورة استكمال محاربة الإرهاب وعملية وقف إطلاق النار الشامل في سورية...على أهمية ذلك سورياً، فإن مجرد استمرار هذا المسار، وانعقاد هذا الاجتماع والتأكيد على الثوابت التي وجد من أجلها، «وحدة الدولة السورية واستقلالها وسيادتها، والحل السياسي كحل وحيد»... يعتبر خطوة هامة، وتقدماً في ظل التلويح بالخيار العسكري، ومحاولات الطرف الأمريكي والغربي عموماً باستدامة الاشتباك، وتوسيع الفوالق القائمة.
التوافق وشيطان التفاصيل
إن هذا التوافق لا ينفي وجود رؤية خاصة لكل طرف من أطرافه، عن طريقة الوصول إلى هذا الهدف، ففي حين يرى الطرف التركي، أن الوضع الراهن في سورية بتشابكاته الإقليمية والدولية والداخلية، مؤاتياً لتصفية حساباته، مع وحدات الحماية الكردية، عبر الابتزاز والضغط وباستخدام ما يمتلكه من أوراق ونفوذ على الجماعات المسلحة، لتوسيع هوامش حركته، يبدو أن للطرف الايراني هو الاخر وجهة نظر خاصة به، بين هذا وذاك تعمل الماكينة الدبلوماسية الروسية، على تثبيت هذا التوافق وترجمته إلى وقائع ملموسة على الأرض، وتجاوز الحسابات الخاصة الضيقة، والتعاطي من منظور الإستراتيجية الأساسية، التي تشكل الأزمة السورية أحد مكوناتها الظرفية، ويحاول أن يكون عامل التوازن في ثنائية «التوافق_ التباين»
اختلاف زوايا الرؤية
واضح أن زاوية الرؤية لدى روسيا الاتحادية في دور الترويكا، لا تقف عند الوضع السوري، وإن كانت تنطلق منه، وتمتد إلى ما هو أبعد، وتحديداً إلى استكمال بناء الخريطة الجيوسياسية الجديدة في الشرق، التي يشكل تبريد بؤر التوتر إحدى أدواتها المباشرة والضرورية، لا لأن هذه البؤر هي الأداة الأمريكية الأساسية وربما الوحيدة المتبقية في مرحلة تراجعها لتثبيت وجودها وتعزيزه فحسب، فمجرد منع توسع رقعة الحرب يلحق هزيمة إستراتيجية بقوى الحرب في الإدارة الأمريكية، بل أيضاً لأن ذلك يتقاطع مع وضع الأسس المادية التي سيقوم عليها النظام الدولي الجديد: أوسع علاقات بينية، اقتصادية سياسية ثقافية عسكرية، مع احترام سيادة الدول والكيانات القائمة في الوقت نفسه.
الطرف الروسي، باعتباره الداعي والدافع إلى هذه الترويكا، بات أكثر من مرة في تقاطع نيران الأطراف المتصارعة كلها، « تركيا_ إيران_ النظام_ الجماعات المسلحة..»
لا مكان للحسابات الضيقة لأي كان في هذه المعركة الإستراتيجية، طالما أن هذه المعركة باتت محسومة، مع التنويه بأن معيار الموقف الصحيح اليوم لأي كان، يكمن في التعاطي مع الظواهر الإقليمية والمحلية، من خلال الوضع على خط التماس الأساس، أي: الصراع الدولي، الجاري حول القبول بعالم التعددية القطبية من عدمه، وموجبات ذلك ونتائجه.
تعلموا من كوريا
تبقى ميزة استثنائية في تلك الدول والبلدان التي يتوفر فيها حامل محلي حقيقي للاستفادة من هذا الظرف للخروج سريعاً من هذه الدوامة، دوامة التجاذب الدولي، وبالنظر إلى المثال الكوري، نجد بأن استعداد الكوريتين إلى التفاوض المباشر، والمناخ الإقليمي السائد بين دول الشرق الأقصى الآسيوي «الصين اليابان، الكوريتين..» الذي يميل إلى حل الأزمة الكورية عبر التفاوض، أدى على الفور إلى تراجع الولايات المتحدة عن الخطاب الحربجي الذي كان سائداً، خلال الأشهر السابقة، وسارعت الدبلوماسية الأمريكية إلى السعي للمشاركة في القمة المرتقبة بين الكوريتين.
ليس كرهاً بأمريكا
من الواضح أن العديد من الدول، والنخب في البلدان الطرفية وصلت من خلال تجربتها الملموسة، إلى لزوم الخروج من حالة التبعية المزمنة، ليس بناءً على موقف أيديولوجي، أو سياسي، بل كرد فعل طبيعي على الابتزاز الأمريكي، عبر فرض الإتاوات، ومنع أي هامش لاستقلالية القرار، التي تتطلبها معجزة الخروج من الأزمة الوجودية التي يمر بها النظام الرأسمالي العالمي، وتأخير الانهيار المحتوم والمحسوم، ضمن الأفق المنظور، فأمريكا المأزومة، تدفع حتى أقرب حلفائها دفعاً إلى البحث عن خيارات بديلة، ومواقع أخرى في خريطة الصراع الدولي، وإذا كنا نجد ملامح ذلك في العديد من دول العالم، فإن هذه الظاهرة مكتوب لها أن تتعمق، وتتجذر، وصولاً إلى ضرورة الخروج من كل بنية التبعية، واستنفاذ دور كل البنى التابعة لها، بما فيها تلك الشرائح الاجتماعية التي ارتبط وجودها تاريخياً، بمنظومة التبعية.