عن ترامب والتبسيط «اليساري» القاتل!

عن ترامب والتبسيط «اليساري» القاتل!

تكشف جملة التحليلات والقراءات التي أطلقتها أحزاب وشخصيات «يسارية» أوروبية وأمريكية، بما يخص نتائج الانتخابات الأمريكية، لا عن قصور معرفي فحسب، بل وعن درجة من البساطة القاتلة..

نضع توصيف «اليسار» بين قوسين دائماً، لأنّ الكلمة باتت شركاً أكثر مما هي مفهوم يمكن الركون إليه. فضمن «اليسار» هنالك أحزاب خضراء أمريكية وأوروبية تندب وتتفجع وتساند هيلاري كلينتون في وجه «الكارثة الترامبية»، وتدعو لإعادة فرز الأصوات في مجموعة ولايات أمريكية بما يسمح بقلب النتيجة.

وضمن «اليسار» هنالك أحزاب باعت شرفها بمسمى «النضال من أجل الديمقراطية والتحرر من الاستبداد» فأحنت ظهورها ليدوسها الأمريكي، وهي ذاتها التي تبكي «ضياع الديمقراطية الأمريكية» المنتظر على يد ترامب.

وضمن «اليسار» اشتراكية دولية وشيوعية أوروبية، حاربتا «استبداد الاتحاد السوفييتي» بأحسن مما فعلت أمريكا نفسها، وهما تندبان اليوم ليس خوفاً من وصول «اليمين القومي» إلى السلطة في أوروبا، بل خوفاً من هز الأنظمة الأوروبية التي اعتلتها (طوال عقود خلت) سلطات مشتغلة تحت الأوامر الأمريكية.

وضمن «اليسار» قوى وشخصيات شغلها الشاغل إطلاق النيران على «التاريخ الاستبدادي» للاتحاد السوفييتي، منزلقة نحو تماثل كلي مع الدعاية الغربية ضده، ووصولاً إلى الهجوم على روسيا «إمبريالية».

بين «اليسار» من وصلت بهم الوقاحة يوم أمس، ومع رحيل الثوري العظيم فيديل كاسترو، أن يقولوا بأن طاغية قد رحل، مخلفاً وراءه «دولة متخلفة»..

بين «اليسار» اليوم، منظمات «غير ربحية» و»غير حكومية»، ترفع شعارات الحفاظ على البيئة والتعايش واللاعنف وإحقاق حقوق المرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة.. وإلخ وتتمول من الحكومة الأمريكية والحكومات الأوروبية ومن نادي القتلة العالميين (نادي بيلدربيرغ)، وتنفذ أجنداتهم. وبينهم وبينهم، حتى ليخيل للمرء وهو يعد أنماط وأصناف هذا «اليسار» أنّه لا أكثر من «اليمين» عينه، بل وأخطر إذ يتنكر بمسميات «اليسار» وشعاراته..

عود على بدء، وبعد زفرة الغضب أعلاه، نقول أنّ التبسيط الهائل لمسألة فوز ترامب بالقول أنّه انتصار ساحق للفاشية الجديدة، هو تبسيط خطر كل الخطورة، لأنّه طريقة محددة خاطئة في فهم ما يجري ستنعكس على مجمل المواقف والمهمات التي يطرحها أصحاب هذا الرأي أمام أنفسهم، وأمام أحزابهم..

وإذ نذيل هذه المادة برابطين لمادتين عن الموضوع ذاته، نؤكد هنا على بضع نقاط ونضيف أخرى:

1-    فوز ترامب انعكاس لعمق الأزمة الرأسمالية العالمية بمركزها الأمريكي، وهو انعكاس للصراع بين خيارين استراتيجيين: الانكفاء أو استمرار العدوانية. وهيلاري وإدارة أوباما قد أثبتا بالممارسة السياسية الملموسة أنهما ليسا أصحاب خيار (الانكفاء)، ولذا فإنّ تبرئتهم من الصفة العدوانية والفاشية، وحصرها بترامب، هو التفاهة عينها، بل إنّ الضجة الهائلة المصاحبة لفوز ترامب وتجند الإعلام الجماهيري المناصر للفاشية ضده، يحمل إشارات جدية إلى أنّ ترامب أقرب إلى خيار الانكفاء منه إلى استمرار العدوانية.

2- التحليل الاقتصادوي «الماركسي» المبسط الذي ينسب ترامب إلى احتكارات النفط والغاز والفحم، ويستنتج أنّه فاشي انطلاقاً من ذلك، قد ينفع إذا عدنا مئة عام ونيف إلى الوراء، أي إلى تلك المرحلة التي كان فيها رأس المال المالي عديم الهوية الإنتاجية في طور التشكل، أما اليوم فإنّ مركز الفاشية ليس النفط وأشباهه، بل رأس المال المالي الإجرامي المشتغل بالقطاعات السوداء والذي يشكل ما يربو على ثلاثين بالمئة من دورة رأس المال العالمي، والذي تشكل البنوك «البيضاء» منذ 2008 أحد مجاري دورانه.

3-هل ندافع عن ترامب؟ التفاهة وضيق الأفق قد تقود لاستنتاج من هذا القبيل. لكن الحق هو أننا نزيل من جهة ستار الدفاع الذي يلقيه البعض على إدارة أوباما وعلى مجمل الحكومات الأوروبية «الاشتراكية والليبرالية» مبرئاً إياها من الصفة العدوانية بل والفاشية. ومن جهة أخرى نعيد التأكيد أنّ سياسة أية إدارة أمريكية إنما هي محصلة قوى للصراع لا ضمن النخبة فقط، بل لطبيعة وضع النخبة ضمن الوضع الداخلي الأمريكي، وضمن الوضع الدولي..

4-ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أنّ توازن القوى الدولي الجديد، والذي غاب عن كثيرين من «اليسار» التنبؤ به، بل ويغيب عنهم فهمه وهو ماثل اليوم بمفاعيله المتدحرجة ككرات ثلج عملاقة، يعني أنّ هذا التوازن يفرض لا تراجعاً أمريكياً فحسب، بل وانقساماً وتشرذماً، ويرفع من أسهم وإمكانيات تطور وزن «الانكفائيين».. ومن الطبيعي أن يبدو الكلام غريباً لمن يشبهون وصول ترامب للسلطة بوصول هتلر إليها، فهؤلاء يفتحون عيونهم وعقولهم عن أخرها ولا يستطيعون مشاهدة أفعال الفاشية الجديدة عبر داعش والنصرة (بل يرون بها إرهاباً إسلامياً ذا منشئ حضاري!)، ولا يرون أفعال الفاشية عبر القطاع الأيمن وعبر «الحكومات الاشتراكية الأوروبية» الداعمة لعمليات إحراق الكوكب، ولا يرون الفاشية عبر منظمات «السلام والمرأة والطفل» وإلخ الغربية.. لا يرون شيئاً من ذلك، بل ينتظرون أفعال الفاشية التي «لم تبدأ بعد»!.. ينتظرون حرباً عالمية ثالثة على نمط الحربين الأولى والثانية.. بل والأهم من ذلك أنهم لا يدركون حتى اللحظة مدى الصعود الروسي الصيني ومعانيه..

5-فوق ذلك، فإنّ الارتياح للبساطة القائلة بأن فوز ترامب هو انتصار للفاشية، يسقط من الحسابات حقيقة التهتك التاريخي لمنظومة السلطة والإدارة الأمريكية، فالمسألة لا تتعلق بالخارج وبالتوازن الدولي فحسب، بل وبالداخل الأمريكي الذي وصلت التراكمات فيه في المجالات كلها حد «المقياس»، وبات التغيير أمراً محسوماً.

إنّ ما نعتقده كمحصلة، هو عكس ما يروج له. نعتقد أنّ فوز ترامب هو تعبير جديد عن محصلة قوى يتقدم ضمنها الاتجاه الانكفائي على الاتجاه العدواني، وخطوة إضافية نحو الانتصار الموضوعي لاتجاه الانكفاء. ستلحق هذه الخطوة هزات أوروبية عديدة تتغير معها السلطات التابعة للأمريكي.. وهنا نقول استباقاً أن تقدم ما يسمى «اليمين القومي» في أوروبا، وفي فرنسا وألمانيا خاصة، وهو الأمر المتوقع، سيترافق بموجات ندب جديدة، تعيد تكرار السيمفونية ذاتها حول «الصعود الفاشي».. وليكن.. «تلك التفاهات التي لا بد منها».

معلومات إضافية

العدد رقم:
787