قرار مجلس الأمن عدوان جديد
ما كنّا ولن نكون من أنصار التهويل الذي يتعمد تخويف الجماهير، ولسنا كذلك ممن يؤثرون السلامة والفوز بما غنموه من أموال الشعب مثل قوى السوق والسوء. إن واجبنا الوطني يدعونا إلى التحذير الجدي من خطر العدوان المرتقب وعدم الاستهانة بالأهداف العدوانية الداهمة، التي تضمنها قرار مجلس الأمن رقم 1559 والموجه ضد سورية ولبنان، بغض النظر عن المزاعم والحجج التي استند إليها مقدمو مشروع القرار والتغييرات التي جرت على صيغته الأولى وإقراره بالصيغة النهائية المخففة من حيث الشكل حتى أمكن تمريره بسرعة قياسية غير مسبوقة بتاريخ الأمم المتحدة.
ومن هنا تتجاوز مخاطر قرار مجلس الأمن كل ما كان سائداً في المعادلة اللبنانية بعد الطائف خصوصاً في ضوء الشراكة الأمريكية ـ الفرنسية الجديدة في التوجهات المعادية لسورية ولبنان. حيث أخذت فرنسا على عاتقها إيصال رسائل و«نصائح» أمريكية إلى سورية «بضرورة تغيير سياساتها الإقليمية خصوصاً في المسألة اللبنانية».
وهذا يعني أن ملامح التغيير في الموقف الفرنسي لغير صالحنا قد بدأ قبل إصدار القرار المذكور ومسألة الاستحقاق الرئاسي في لبنان بكثير، وبغض النظر عن الطريقة الملتبسة التي تمّ فيها التعامل مع هذا الملف سورياً ولبنانياً.
ولعل أخطر ما تمخض عن استمالة الموقف الفرنسي لصالح الولايات المتحدة الأمريكية ثلاثة مؤشرات هي غاية في الخطورة:
تدويل ما يسمى بقانون محاسبة سورية عبر تضمين القرار 1559 بمحتوى وبنود ذلك القانون وكذلك المطالب التي سبق أن قدمها وزير الخارجية الأمريكي إلى سورية بعد سقوط بغداد، وهذا ماكان يرفضه الأوربيون حتى وقت قريب.
جر الاتحاد الأوروبي والدول الرئيسية فيه (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) إلى التعامل مع حركات المقاومة الوطنية في فلسطين والعراق ولبنان كمنظمات إرهابية يجب نزع سلاحها، والضغط على سورية لفك الارتباط معها، أي إلغاء دورها الإقليمي المزعج للتحالف الإمبريالي ـ الصهيوني.
تجاهل الصراع العربي ـ الصهيوني وحصر بنود قرار مجلس الأمن الأخير بسورية ولبنان، وهو مطلب أمريكي ـ صهيوني قديم هدفه الفصل بين المسارين السوري ـ اللبناني بما يخدم إدامة الاحتلال والإجهاز على المقاومة الفلسطينية وتهويد ما تبقى من الأراضي العربية تحت الاحتلال الصهيوني. إن الرد على قرار مجلس الأمن يتطلب استنفاراً وطنياً عاماً واستنهاضاً وتعبئة قوى المجتمع على الأرض. فمنذ أكثر من عام وهناك من يراهن على عدم جدية الإدارة الأمريكية في إقرار قانون «محاسبة سورية» وحتى بعد إقراره وتوقيع بوش عليه، مازال هناك من يراهن على أن بوش لن ينفذه، ولكن سرعان ما أخذت الأوساط الفاشية في الإدارة الأمريكية بالتوازي مع التهديدات الإسرائيلية ضد سورية، تتحدث عن «قانون تحرير سورية» وهاهي إدارة بوش الآن، وبالتعاون مع بعض الدول الأوروبية ـ وبخاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا ـ تقدم على خطوة عدوانية جديدة ضد سورية ولبنان باستصدار قرار في مجلس الأمن يتضمن بجوهره كل ما انطوى عليه ما يسمى بقانون محاسبة سورية، مع شروط جديدة هدفها إخضاع سورية للهيمنة الأمريكية على المنطقة بعد احتلال العراق.
وهكذا تثبت وقائع الحياة أن إغضاب الاستعمار ـ والأمريكي بخاصة ـ أسهل بكثير من إرضائه، فعندما تنفذ دولة ما طلباً له تتلو ذلك حزمة جديدة من الطلبات المهينة وصولاً إلى إلغاء السيادة الوطنية وفرض الخضوع للإملاءات الأمريكية، أو لما يخطط له الكيان الصهيوني لاستفراد كل بلد عربي على حدة.. وما إن صدر قرار مجلس الأمن حتى سارعت حكومة الإرهابي شارون إلى الترحيب به، وزعم وزير الخارجية الصهيوني «سيلفان شالوم» أن لبنان سيكون الدولة العربية الثالثة التي ستعقد «اتفاق صلح مع إسرائيل»! وليس أقل دلالة على ازدياد صلف الكيان الصهيوني بعد القرار 1559، تصريح شارون بأن حكومته لن تتفاوض مع سورية «إلا بعد أن تقطع علاقاتها مع منظمات المقاومة الفلسطينية وحزب الله».
إذن نحن أمام عدوان يتسارع في زمن يتناقص، وأمام مشروع إمبراطوري أمريكي يزعم بأن احتلال العراق هدفه «التحرير والديمقراطية» ويعتبر التدخل في شؤون سورية ولبنان «توطيداً» لسيادة لبنان وحماية استقلاله. مشروع إمبراطوري أمريكي بدأ باحتلال أفغانستان ثم العراق والحبل على الجرار، وسيكون الدور الصهيوني ـ الإسرائيلي بمثابة رأس الرمح في الحلقات القادمة من توسيع دائرة الحرب والهيمنة في المنطقة ولاحقاً نحو قلب آسيا وروسيا وصولاً إلى الصين. فمنذ أيام قليلة أعلن نورمان بودوريتز أحد الآباء المؤسسين لتيار المحافظين الجدد في واشنطن إن أمريكا تخوض الآن الحرب العالمية الرابعة وعليها الانتصار فيها بعد أحداث 11 أيلول.
وإذا كان المعيار في الحرب الباردة هو إسقاط الاتحاد السوفييتي، فإن المعيار اليوم هو إسقاط مجموعة أنظمة بعد أفغانستان والعراق والأنظمة المعنية في المرحلة الثالثة من الحرب العالمية الرابعة هي إيران وسورية ولبنان..«!
ففي هذا المناخ والوضوح في أهداف المشروع الإمبراطوري الأمريكي، من غير المقبول التعامل مع مخاطر قرار مجلس الأمن الأخير وكأنه موقف سياسي عابر، خصوصاً أن هناك بعض أهل الداخل وعلى الساحة العربية ممن كانوا يحسبون على الصف الوطني المعادي للإمبريالية والصهيونية، قد انقلب على منظومة المسلمات والقيم الوطنية باتجاه تشويه الوعي وتسويق الاستسلام والانبطاح وتزيين الليبرالية الاقتصادية بحجة «أن العين لا تقاوم المخرز» والادعاء أن قطاع الدولة «المنهوب» أصبح عبئاً يجب التخلص منه، وأن المواجهة معركة خاسرة ومضيعة للوقت وللثروات، ويصورون قوة أمريكا والكيان الصهيوني العسكرية وكأنها «قدر لا راد له». وتصبح في نظر المهزومين قبل وقوع المعركة شعارات: الاستقلال وتعبئة المجتمع على الأرض والحفاظ على القطاع العام وتعزيز الوحدة الوطنية والدفاع عن كرامة الوطن والمواطن ورفض القواعد الأجنبية والاعتماد على طاقات الجماهير الجبارة وتعزيز ثقافة المقاومة، «تصبح كلها شعارات من زمن مضى تجاوزتها الوقائع الجديدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي»، متناسين أن ثقافة المقاومة والمواجهة تفجر وتستحضر عند الجماهير أفضل ما لديها من قدرات جبارة، وأن أجواء الاستسلام والاستبداد والضعف تستحضر عند الناس أسوأ ما عندهم. وهاهو درس سقوط بغداد مازال ماثلاً للعيان، ولكن يقابله دروس تحرير الجنوب اللبناني وصمود المقاومة الأسطورية الفلسطينية وتنامي المقاومة الوطنية العراقية ضد الاحتلال.
كنا قد أكدنا مراراً، وما زلنا نؤكد، أن التهديدات ضد سورية جدية ولا تحتمل الإبطاء في التعبئة ضدها ولاسبيل للانتصار على العدوان المرتقب إلا بالاعتماد على الشعب عبر تأمين «لقمته وكلمته» والربط بين المهام الوطنية والاجتماعية ـ الاقتصادية والديمقراطية ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بتعميم ثقافة المقاومة والمواجهة وضرب مواقع البرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية اللتين تنهبان الدولة والشعب معاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 229