كيف أنقذت السلطة زيوغانوف؟
تناقلت وسائل الإعلام بما فيها المحلية، أخبار مؤتمر الحزب الشيوعي الروسي، كما أظهرتها وسائل الإعلام الرسمية الروسية دون أن تحاول النفاذ إلى جوهر الموضوع لكشف الألاعيب والفنون التي استخدمت لإنقاذ زيوغانوف من ورطته، حاصلاً على دعم لوجستي جيد من قبل إدارة الكرملين لإطالة عمره..
ولتوضيح الأمر، ننشر مادتين هامتين من مصادر موثوقة بمصداقيتها تجاه حدث كهذا، وهي الحزب الشيوعي السوفييتي وحزب العمال الشيوعي الروسي، لمساعدة المطبّلين والمزمرين الجدد لزعامة زيوغانوف، على تصحيح قاعدتهم المعلوماتية ، إذا أحسنّا النوايا..
مهزلة مؤتمرين…
انشقاق في الحزب الشيوعي الروسي
مع اقتراب موعد المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية كان يهتز أكثر فأكثر وضع رئيسه زيوغانوف. فالجماهير الحزبية كانت تلخص نتائج عمله خلال سنوات قيادته وتوصلت إلى استنتاج هام عبرت عنه بصوت عالٍ أنه تحت قيادة زيوغانوف خسر الحزب كل مواقعه وجميع الانتخابات التي خاضها وفقد إمكانية التأثير على الوضع في البلاد وخصوصاً مصالح الشغيلة والمتقاعدين والشباب.. وفي نهاية المطاف فإن تجارة المقاعد النيابية والسياسة التوفيقية ضربت نهائياً سمعة الحزب.
ونتيجة لكل ذلك أخذت المنظمات الحزبية وأعضاء اللجنة المركزية يضعون بإلحاح مسألة تغيير زيوغانوف وظهرت ترشيحات ملموسة والتي كان من المفروض أن يظهر من خلالها القائد الجديد القادر على إخراج الحزب من الأزمة التي دخل فيها منذ فترة طويلة.
كل ذلك خلق حالة قلق عند النظام وخدمه، فجيرونفسكي أعلن صراحة «إن زيوغانوف مريح للسلطة لأنه يمكن التفاهم معه» أما ياكفليف ـ يهوذا معاداة الشيوعية ـ فكان أكثر صراحة عندما قال في 2 تموز في جريدة كوميرسانت: «سآسف جداً إذا أزيح زيوغانوف، لأنه يحل بشكل جديد مسألة ذات أهمية تاريخية ألا وهي القضاء على الحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية، وتحطيم التقاليد البالية (أي تقاليد الشيوعية). وسيكون من الجيد أن يواصل عمله هذا إلى النهاية وآمل أن يتحكم بالوضع وأتمنى بصدق أ ن يقمع التمرد في حزبه وأن يكمل قضيته النبيلة»!!
من الصعب القول الآن أن زيوغانوف وزملاءه قد استطاعوا إخماد التمرد، رغم مهارته السياسية وقدراته الفائقة كمناور.
في كل الأحوال لو جرى المؤتمر بشكل طبيعي لكانت هناك معارضة قوية للقيادة مما كان سيخفض هيبتها المضروبة أكثر مما هي عليه. وكان ممكناً استمرار زيوغانوف في القيادة لفترة جديدة ولكن بصعوبة هذه المرة، ولكن تغيير تركيب القيادة كان سيكتسب أهمية بالغة.
إن السلطة يهمها بأن يقوم زيوغانوف ـ حسب ياكوفليف ـ بإنجاز مسألة تدمير الحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية ولذلك لم تترك الأمور بدون تدبير. ومن هنا تم وضع سيناريو محكم وخبيث يكرر من حيث المبدأ محاولة زيوغانوف في حينه الاستيلاء على اتحاد الأحزاب الشيوعية (الحزب الشيوعي السوفييتي) حيث قام زيوغانوف في حينه، عندما لم يحصل على الدعم الكافي لإزاحة شينين في مجلس اتحاد الأحزاب قام هو ومجموعة بقسم الحزب عبر إقامة مجلسهم الخاص وأتموا بذلك عملهم الأسود ـ الانقسامي ـ الذي لم يشارك فيه إلا أقل من ثلث أعضاء مجلس اتحاد الأحزاب.
والآن بعد وضع السيناريو الجديد الآنف الذكر تم اختيار الوجوه الفاعلة الأساسية، وتأمنت لهم الموارد المالية اللازمة لإطلاق هذه العملية ـ وهكذا أعلن عن اسم القائد الجديد ـ وجرت عملية تحضيرية واسعة في وسائل الإعلام بما في ذلك تأمين مظاهرة معادية لزيوغانوف ومدفوعة الأجر لم يتعرض أحد لها ولكنها نقلت بحماس عبر أجهزة الأعلام الجماهيري ـ وجرى عقد اجتماع مواز للجنة المركزية والمؤتمر، ولإعطاء طابع سري لهذه العملية عقد المؤتمر على ظهر باخرة بحيث لايتمكن أحد من الهروب بل الرضوخ للأمر الواقع. لكن أجهزة الإعلام وخاصة التلفاز غطت وقائع المؤتمر بحيث أظهرت قاعة المؤتمر وهيئة الرئاسة على ظهر باخرة. وقد جرى تغطية كل ذلك بشكل مقصود أن يترك ظلال الشك على هذا العمل، ولكن لماذا؟
لأنه كان المطلوب من هذه المهزلة أن تخلق جواً من الاستياء لدى أعضاء مؤتمر زيوغانوف من أجل تأمين التفافهم حوله.
مرحى لكم أيها السادة.. لقد نجح السيناريو وأعيد انتخاب زيوغانوف في جو يوحي بالإجماع والالتفاف حول ذلك القائد الذي لا يمتلك أية مبادرة وهذا مايرغب به النظام في روسيا!
■ عن جريدة «غلاسنوست»
الحزب الشيوعي السوفييتي ـ العدد (7) 2004
مؤتمران بدلا من مؤتمر واحد لحزب واحد
تثبت تنظيميا بين 3 و4 تموز عام 2004 الانقسام في أكبر أحزاب اليسار الروسية، الحزب الشيوعي الروسي، بعد أشهر من الصراع بين جناحي زعيم الحزب غينادي زوغانوف و«الرأسمالي» في الحزب غينادي سيميغين. وبهذا بلغ الحزب الشيوعي النقطة الدنيا في تطوره خلال السنوات العشر ونيف الأخيرة من تاريخه. والانشقاق الحالي لم يقتصر على طرد مجموعة جديدة من «المرتدين» كما حصل مع الشيوعي غينادي سلزنيوف رئيس الدوما في البرلمان الروسي سابقا، بل تعدى القيادات إلى عدد من منظمات القاعدة في بعض المناطق الروسية، حيث فضلت وفود هذه المنظمات الانضمام إلى المؤتمر الذي عقده سيميغين والتغيب عن مؤتمر زوغانوف وجماعته.
فقد عقد الفريقان المتعارضان بدايةً اجتماعين للجنة المركزية حضر كلا منهما أكثر من نصف أعضاء اللجنة، إذ إن نسبة معينة من أعضائها حضرت كلا الاجتماعين بعيدا عن المبدئية التي غابت أصلا عن الصراع.
مؤتمر جماعة سيميغين أقال زوغانوف من قيادة الحزب وعين حاكم محافظة إيفانوفو فلاديمير تيخونوف زعيما للحزب. أما مؤتمر جماعة زوغانوف فأبقى الأخير بالطبع على رأس الحزب.
من الأفضل بين الاثنين يا ترى: زوغانوف أم سيميغين؟ هذا السؤال يطرحه أعضاء الحزب الشيوعي الروسي على أنفسهم حتى اللحظة. بعضهم يقول: زوغانوف انتهازي، وذنوبه كثيرة لا تغتفر لكثرتها، فهو كان ضم إلى قائمته الانتخابية رجالا من الطغمة المالية الروسية (الأوليغارشيا)، وهو متعاون مع رأس المال ومرتد. أما الآخرون فيتهمون سيميغين بأنه مثل «الخلد» عميل للكرملين في الحزب وداعية انشقاق، حاول شراء الحزب. ويجب القول إن كلا الفريقين محق في ما يقول. فسيميغين رأسمالي وعميل للكرملين وليس بالشيوعي أبداً. ولكن من الذي قبله في الحزب وزكّاه لمناصب رفيعة فيه؟ أليس زوغانوف هو الفاعل؟ وما من شك في أنه حين تهدأ الخواطر سيأتي إلى الحزب الشيوعي بمزيد من أمثال سيميغين كما فعل في أوقات سابقة.
فاختيار أي من الشخصين: زوغانوف وسيميغين صعب كاختيار أي من خدركوفسكي وبوتين. فكلاهما سيىء. والنزاع بعيد كل البعد عن المبدئية مع أنه، وبالأخص زوغانوف، بات يستعمل أكثر العبارات اليسارية والراديكالية بغية جذب أكبر عدد ممكن من القاعدة إليه. فزوغانوف راح ينكر ما قاله ذات يوم في كتابه «روسيا والعالم المعاصر» الذي صدر عام 1995 من أن «روسيا استنفدت قدرتها على الثورة» (الصفحة 93 من الطبعة الروسية)، حيث صرح من على صفحات عدد 10 شباط 2004 من جريدة «روسيا السوفياتية» المؤيدة له قائلا: «لا أعرف من الذي نسب إلي هذه الكلمات، من أين جاؤوا بها. أترجاكم ألا تروجوا كثيرا لما لم أقله». وقد جاء في تقديم الكتاب المذكور إنه «يضم النقاط الرئيسية في أطروحة الدكتوراه التي ناقشها زوغانوف وكان موضوعها «المناحي الأساسية للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية في روسيا المعاصرة وآليتها». هل تخلى زوغانوف فعلا، عن خطإ سابق، هل أعاد النظر في نظرة سابقة وانتقل إلى مواقع أكثر يسارية؟ حبذا لو أمكن تصديق ذلك. ويصعب بالقدر نفسه اعتبار ما يقوله جماعة سيميغين في اتهامهم لقيادة زوغانوف بـ«عقد الصفقات السياسية» و«بيع المقاعد في القائمة الانتخابية» و«سياسة التعاون» مع السلطة صدقاً. أفليسوا هم من عاون زوغانوف على انتهاج مثل هذه السياسة، وصوت لصالح اعتمادها في مؤتمرات الحزب واجتماعات لجنته المركزية؟
من المؤسف أن كلا الفريقين تحاشى الخوض في الأمور المبدئية من مثل ممارسات الحزب الشيوعي الروسي مدى السنوات العشر المنصرمة التي أدت إلى ما هو عليه الحزب الآن، على رغم فداحة الوضع، وقصر همه على لعن الآخر وعلى فضح «الطموحات الفردية» لكل منهما و«دسائس الكرملين».
أغلبية مندوبي المنظامت الحزبية المنتخبين فضلت زوغانوف (247 من أصل 317، بحسب المعطيات التي أذيعت في المؤتمر). وقد دعي إلى كلا المؤتمرين ممثلو وزارة العدل، ونعتقد أن دعاوى قضائية ستستمر طويلا في الصراع على وراثة الحزب الشيوعي الروسي.
بعد «العركة»
من المرجح أن يبقي زوغانوف سيطرته على القسم الأكبر من الحزب. غير أن النصر سيكون خلّبياً. فهو حين يقتص من «المناجذ» وغيرهم من الخصوم الداخليين سيبقى يواجه جماهير حزبه الذين ساندوه في حربه مع سيميغين، وسيكون لهم كل الحق في أن يطالبوا زعيمهم بتحمل المسؤولية عن الوضع المتردي في الحزب والمتمثل في تضاؤل صفوفه وتضعضع مواقعه الانتخابية في ظل استمرار التكتيكات القديمة ووجود ممثلي رجال الأعمال (الأعداء الطبقيين) في قوائم الحزب الانتخابية. كل هذا ليس من اختراع الأعداء، بل هو واقع أليم. وإذ يحقق زوغانوف نصرا على خصومه فإنه سيجد نفسه في مواجهة هزيمة شنعاء لخطه السياسي وكل التوجه الفكري الذي يجسد.
من جهة أخرى يرجح أن يتفكك كل ذاك الحلف الذي تسنى لسيميغين تشكيله من الجماعات غير الراضية عن زوغانوف، سواء من «اليمين» أو من «اليسار«، لأنه لا يمكنه إلا أن يكون حلفاً «ضد» أحد ما. فليس ثمة من أهداف أو طموحات مشتركة لدى ساسة مختلفين أمثال سيميغين وتيخونوف وزعيم منظمة الحزب في موسكو كوفايف والجنرال ماكاشوف وغيرهم ما خلا إزاحة زوغانوف. ولذا يصعب توقع ظهور حزب شيوعي روسي ثان في الساحة السياسية بمثابة قوة سياسية فعلية.
«هم لم ينسوا شيئا ولم يتعلموا شيئا»
هذه الكلمات سبق لتاليران الوزير عند نابوليون بونابرت أن قالها في آل بوربون الذين عادوا إلى السلطة بعد الثورة الفرنسية. ويمكن أن تقال أيضا في قيادة زوغانوف للحزب الشيوعي الروسي. فتقريره إلى المؤتمر تضمن ما سبق أن سمعناه منه على مدى أكثر من 10 سنوات، كأن شيئا لم يتغير، كأن هزيمة كاسحة لم تحصل في الانتخابات البرلمانية وفي الانتخابات الرئاسية التي خيضت بحماقة متناهية، كأن الحزب لا يعيش أزمة وتهافتا في نشاطه. واستمر زوغانوف والكثرة من الخطباء على قول الشيء ذاته: «إننا أيها الرفاق نسير في الطريق الصحيح».
نحن طبعا لا نريد التشفي، ولكننا أيضا لن نبكي على الأطلال. فنحن الذين طالما انتقدنا الحزب الشيوعي الروسي من مواقع يسارية ماركسية حذرنا مرارا وتكرارا من أن الانغماس في البلاهة البرلمانية crétinisme parlementaire والتخلي عن مبدإ تنظيم الطبقة العاملة والعمل الثوري بين الجماعير بغية إعدادها للثورة على النظام الحالي، والتحالف مع أطراف البرجوازية، أمور ستؤدي بهذا الحزب إلى الفشل الذريع.
مما يؤسف له هو أن الحزب الشيوعي الروسي لم يتشكل فيه حتى اللحظة مركز لاجتذاب القوى اليسارية حقا. فالحزب لم يلد لا كارل ليبكنخت ولا روزا لكسمبورغ القادرين على معارضة سياسة قادة الحزب القاتلة. فاليساريون، الماركسيون، داخل الحزب الشيوعي الروسي (هم قلة إن وجِدوا) فضلوا الانخراط في كتلتين غير مبدئيتين مع زوغانوف أو مع سيميغين. هذا الغياب لجناح يساري هو الطامة الكبرى في الحزب الشيوعي الروسي، وليس أبدا دسائس الكرملين.
■ حزب العمال الشيوعي الروسي
■ موقع: www.communst.ru
■ فيكتور شابينوف
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 226