الإرادة الشعبية لا راد لها!
المظاهرات الشعبية الحاشدة التي عمت أحياء شرقي حلب، خلال الأسبوع المنصرم، بوجه الإرهابيين المسيطرين على تلك الأحياء، كانت مثالاً حياً عن الإرادة الشعبية التي لا راد لها.
هذه المظاهرات، كما مظاهرات الأهالي في قدسيا، وفي العديد من بلدات الغوطة الشرقية لدمشق، وغيرها الكثير من التحركات الشعبية بغير مناطق، أكدت بأن الشعب السوري ولئن جارت عليه الأيام، وتكالبت على مصالحه قوى الاستبداد والطغيان والإرهاب، مع كل الداعمين المحليين والإقليميين والدوليين، إلا أن إرادته ما زالت حية، لن تكسرها قوى الظلام والإرهاب، كما لم تحرفها قوى الفساد والاستبداد.
تحركات صادمة
الملفت للنظر، كان في ردود الأفعال حيال هذه المظاهرات والتحركات الشعبية، حيث لم تأخذ حيّزها من الاهتمام الكافي عبر وسائل الإعلام، كما لم تأخذ نصيبها من التحليل من قبل المتنطعين للحديث باسم الشعب السوري، الممثلين لأطراف الصراع من القوى السياسية أو العسكرية، على اختلاف تلاوينها ومسمياتها وغاياتها وأهدافها، كما جرت العادة عند هؤلاء بوقوفهم على صغائر الأمور تعظيماً أو تهويلاً أو تحريفاً، وغيرها من الأساليب الدعائية أو الترويجية أو التحريضية.
وكأن هذه القوى صدمت بالعزيمة الشعبية الحية والمتجددة لدى الشعب السوري، بعد كل ما حل به من سوء على المستويات كافة، وبعد محاولاتها كلها الرامية إلى كسر هذه الإرادة والعزيمة وتغييبها.
مواجهة مسلحة وتزييف
واللافت أيضاً، على مستوى المظاهرات الشعبية الأخيرة في حلب، على وجه التحديد، هو تصنيفها من قبل المنظمات الإرهابية المسيطرة على أحياء شرقي حلب من جبهة النصرة وأشباهها، وداعميها الإقليميين والدوليين، على أنها «أعمال شغب»، ليصار إلى تبرير مواجهتها وقمعها بالوسائل الممكنة كلها، بما في ذلك باستخدام الأعيرة النارية.
كأحد تجليات استمرار محاولة وأد الإرادة الشعبية المطالبة بحقوقها، وبكل الوسائل الممكنة، بما فيها محاولات التشويه المتعمد لها من أجل تحوير غاياتها، كما تزييف أهدافها، من أجل استسهال وتبرير استهدافها وقمعها.
بل وعمدت بعض الوسائل الإعلامية، الداعمة لهؤلاء الإرهابيين، والمروجة والمسوقة لهم، إلى تحريف وقائع هذه المظاهرات، لتعلن بأنها كانت تأييداً للإرهابيين والمسلحين وتوجهاتهم، أو تقزيمها على أنها احتجاج على موضوع الأسعار واحتكار المواد الغذائية فقط، في كذب علني ومفضوح، باعتبار أن بعض المقاطع المصورة لهذه المظاهرات، كانت قد عرضت عبر مواقع «اليوتيوب»، ظهر من خلالها بشكل واضح وجلي المطالب التي تنادى بها الشباب المتظاهر، اعتباراً من دعوة المسلحين للخروج من مناطقهم، مروراً بالمطالبة بفسح المجال أمام الراغبين من المدنيين للخروج عبر الممرات الآمنة، وليس انتهاءً برفض الانصياع لرغبات وشروط الإرهابيين، ونمط الحياة الاقتصادي الاجتماعي الذي يسعون لفرضه عنوة وبقوة السلاح، وأخيراً بالهتافات المعبرة عن الوحدة والتوحد مع بقية السوريين بمدنهم ومناطقهم المختلفة.
ولعل أبرز ما كان واضحاً في هذه المظاهرات هو: استمرارها، وعدم التمكن من تفريقها، على الرغم من محاولات قمعها كلها من قبل الإرهابيين وحملة السلاح، بما في ذلك عبر إطلاق الرصاص المباشر عليها، ووقوع إصابات بين المدنيين، حيث تساقط العديد من أبناء شرقي حلب بين قتيل وجريح على أيدي هؤلاء.
التعفيش يأكل الأخضر واليابس
وفي مسار آخر كانت عمليات التعفيش المنظم للممتلكات العامة والخاصة في حلب، كما في العديد من المناطق والبلدات والقرى على طول الجغرافيا السورية.
فقد نقلت الكثير من وسائل الإعلام، كما الكثير من صفحات التواصل الاجتماعي، معاناة المواطنين من هذه الممارسات، كما أظهرت مواقف الإدانة والاستنكار من قبلهم، والتي لم تقف عند حدود التعبير عن مدى عمق هذه القضية وسلبيتها على المستوى الاقتصادي والمعاشي الفردي، من حيث القيمة المادية والمعنوية للمقتنيات الفردية، من أثاث منزلي وكهربائيات، وغيرها من المقتنيات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، والتي جهد المواطنين وتعبوا وكدوا من أجل اقتنائها، وعجزهم عن تعويضها لاحقاً بظل الواقع الاقتصادي المعاشي المتردي، بل ما يلفت النظر هو تجاوز حدود الفردي والشخصي في الاستنكار والرفض، لتصل إلى حدود البعد الاقتصادي والاجتماعي والوطني العام، وخاصة على مستوى الانعكاس السلبي لهذه الممارسات على سمعة مؤسسة الجيش ودورها.
حيث أجمعت مشاهدات المواطنين، في حلب كما في غيرها، على وجود شبكات منظمة، سرقةً ونقلاً وتسويقاً وبيعاً وتغطيةً، تعمل كأسراب الجراد على سلب ونهب الممتلكات العامة والخاصة على حد سواء، في العديد من المناطق والأحياء، فهي لا تترك خلفها لا أخضر ولا يابس، مستغلة ظروف الحرب والأزمة، وابتعاد الأهالي عن بيوتهم ومنازلهم، وخاصة في المناطق التي تعرضت لعمليات عسكرية واسعة، كان الدمار والتشرد والنزوح بعض نتائجها السلبية فقط، لتقوم هذه الشبكات بممارسات التعفيش في هذه المناطق، من أصغر الأشياء إلى أكبرها.
هذا الموقف وهذه الإرادة الشعبية، الرافضة والمستنكرة لهذه الممارسات، صوتها يتعالى، كما إرادتها تتصلب، ليس من أجل وضع حد لهذه الممارسات التعفيشية المنظمة، بل ومحاسبة تلك الشبكات العاملة بها، كما ومن خلفها، من المستفيدين والمستغلين والمتنفذين والفاسدين، وذلك ليس من باب المطالبة بحق الشعب المسلوب من قبل هؤلاء فقط، بل من باب الحرص على سمعة مؤسسة الجيش التي تنال منها ممارسات هؤلاء وتشوهها، بالإضافة إلى تعرية دورها على مستوى الانعكاسات السلبية في عمق الاقتصاد الوطني ككل وأفقه.
قواسم مشتركة
المشترك في كل المظاهرات والتحركات الشعبية، على تواضعها بنتيجة الوضع المعقد الراهن، هو أنها تظهر وتستعيد زخمها وألقها عند كل مفترج سياسي أو عسكري وأمني، مهما كان صغيراً ومتواضعاً هو الآخر، في تعبير مباشر عن أن إرادة الشعب ما زالت جذوتها مشتعلة، وهي تتحين أية فرصة من أجل المطالبة بحقوقها، عبر أسلوب التظاهر السلمي أو غيرها من الأساليب، كأدوات متاحة بيدها، بظل مساعي تغييب هذه الإرادة، كما تغييب الحقوق، من قبل الكثيرين من القوى الفاعلة على الأرض عسكرياً وأمنياً، والقوى السياسية المتعنتة من أطراف الصراع بمختلف تسمياتهم، بالإضافة إلى من لا تعنيهم أصلاً هذه الإرادة، كما لا تعنيهم حقوق السوريين من مختلف القوى المحلية والإقليمية والدولية.
إرادة لا تلين
ستة أعوام من الحرب الطاحنة، والتدويل والقتل العشوائي والتشرد والجوع، و سنوات من الارهاب التكفيري، فشلت في حرف إرادة الشعب السوري عن رغبته في التغيير الديمقراطي، الرافضة لكل أشكال القمع وكبت الحريات، والمطالبة بحقوق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والعيش الكريم، والمؤكدة على أن الشعب السوري واحداً موحداً متمسكاً بكامل ترابه وأرضه الوطنية، وسيداً وحيداً عليها.
كل ذلك يؤكد أن الحل السياسي السلمي المنشود هو وحده الكفيل بتفجير طاقات الشعب السوري، وعبره فقط يمكن أن يتاح المناخ الكافي واللازم من أجل السير باتجاه التغيير الديمقراطي الجذري والعميق والشامل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 786