ما لم تقله محاسن
بعد مرور عامٍ دامٍ، على الأزمة المعندة على الحلّ، في بلدنا سورية.. في غرفة باردة معتمة وحزينة . في إحدى دوائر الدولة بدمشق. كنا مجتمعين (بضعة موظفين وموظفات) نتعاطى قهوة الصباح والكلام المباح قبيل مباشرتنا العمل.
مع السيجارة الثانية والفنجان الأول، افتتحت «السيدة محاسن» الجلسة، كاسرة بذلك ثقالة الصمت والعتمة، اللذين جلّلا الجالسين، بحضور الحيرة وغياب الكهرباء:
هل صادق أيٌّ منكم ركناً.. زاوية.. صخرة ما، في بستان أو بريّة. يتردّد إليها في الصباحات والأماسي، يبثها آماله وآلامه، ويفصح لها عن خوالج نفسه. ثم فقد زاويته تلك أو ركنه المحبب أو صخرته؟
كيف تصرّف بعدها بمكنونات روحه، وإلامَ آلت أموره؟..
هل حدث وكان لدى أحدكم على كتف شباكه شتلة ورد.. يحادثها، يناغيها، يساقيها ويشرب قهوته إلى جانبها كل شروق. فذبلت فجأة ذات يوم وماتت؟
كيف صارت حاله بعدها؟
هل سبق واشتملت حديقة منزلكم، على عشٍّ فيه زغاليل عصافير. راحوا يكبرون تحت أنظاركم وإعجابكم. ينقرون الحَبَّ والحُبَّ من على أكفّ صغاركم. وينشرون الدفء والسعادة في نفوس كباركم. وما أن «دجّنوا» وترعرعوا، حتى سطت عليهم أفعى ابتلعت واحداً منهم. ما أدّى إلى هجرة الزغاليل من حديقتكم، وتسلل الأسى إلى نفوسكم؟
فكم بلغ عندئذٍ تأثركم، وحزنكم على صغار عصافيركم؟..
هل صادف واستأنس قِطٌّ بكم، فأقام بينكم.. تعودكم وتعودتمونه.. يحمي منزلكم من الحشرات والزواحف، يسلّي صغاركم، ويلعب معهم. فيصرعه ـ عن غير قصد ـ ذات مساء سائق أرعن؟
كم كان وقع الخبر أليماً عليكم؟
**
تتابع السيدة محاسن فيما الكل يصغي:
يحدث أن يخطئ أحدنا، على مَنْ لم يخطئ بحقه. فيلوم نفسه على ما فعل.. يقلق وقد لا ينام تلك الليلة..
يحدث أن يخطئ أحدنا، بحق مَنْ أخطأ بحقه. فيلوم نفسه أيضاً، كونه كان بالإمكان أن يسامح، ولم يفعل.
هذا لجهة الخطأ.. لكن ماذا لو صار ـ لسبب أو لسواه ـ أن ضرب أحدٌ منكم إنساناً ما عمداً، ما أدّى لجرح الأخير جسداً وكرامة؟
كيف سينظر عندئذٍ إلى يده التي ضربت وكم سيؤنبه كفّه وضميره؟
**
ما سلف، هو ما قد قالته السيدة محاسن.. وأترك لكم تخيّل ما لم تقله.. علماً أنه لم يتعرض منزلها لأي خطر جرّاء الأحداث.. لم تخسر أحداً من أهلها.. لم تفقد أيَّاً من أفراد أسرتها. لكن ذلك لم يعفها، من أن تدفع ضريبة فقد الآخرين، من ذوب عافيتها ورفيف قلبها ولوبان روحها. فمحاسن ـ لمن لا يعرفها ـ امرأة طيبة شفافة مسالمة وناعمة:
طيبة، ينتظمها المثل القائل: «اللقمة التي في حلقها ليست لها»..
شفافة، من شرفة عينيها، يمكنكم رؤية ما يعتمل في قاع نفسها..
مسالمة، إلى حدٍّ أنها تفضّل إيذاء نفسها ، على أذيَّة الغير..
■■